الاثنين، 28 ديسمبر 2009

عزارة


(قصة قصيرة)

رغم سنواتي العشر، إلا أنني كنت قادرًا على استيعاب أنّ أمرًا جللاً وقع. كانت والدتي تغلق باب غرفة نومنا في كلّ مرة يُفتح، كي لا نسمع ما يدور من همس مضطرب في الصالة. لم تكن "جلسات" كهذه تتم في المنزل إلا في الأمور الجِّسام، ولم يكن باب غرفة الأطفال يُغلق أثناء قعدات القهوة والبابونج، بل على العكس: كان دائمًا مفتوحًا على الصالة، وكانت نساء الحيّ والعائلة يتناوبنَ على تقبيلنا في كلّ مرة ندخل ونخرج، والجملة نفسها لا تنفكّ تتردّد:

"الله يحميهن."

يبدو أنّ أختي كانت تفهم أكثر مني، بسنواتها الإثنتي عشرة، وربما بحدسها الأنثويّ الذي بدأ يتفتح على واقع الحياة من حولنا، فكانت تنصت باهتمام عبر شقّ الباب وكان الخوف يسيطر على قسمات وجهها في كل مرة يعلو اللغط، فتهرع إلى عمق الغرفة وتجلس إلى المكتبة الصغيرة وتنهرني بحدّة:

"سوّيت وظايفك؟"

كان الهمس من حولنا يحمل من مرة إلى أخرى كلماتٍ مثل "عزارة" و"بهدلة"، إلا أنّ اللغط كان يزداد عندما يُسأل السّؤال نفسه، من مرة إلى أخرى، وبحدّة مُريبة كانت تبعث الخوف في طفولتي القلقة:

"يعني هيي لازم تحكي؟ الله يفضحها!"

كانت "العزارة" في الحارة قد انتشرت، وحتى حين لم أنجح في صدّ تسديدة الكرة صوب "مرماي" في ملعب الحارة، لم يوبّخني أحد من "الكبار" ولم يطلبوا عزلي عن مهمة حراسة المرمى كما كانوا يفعلون دائمًا. كان الانتباه مشدودًا إلى "العزارة"، وكانت الأحاديث تغلب على اللعب، حتى إنّ "رئيس الشلة" تنازل في النهاية عن لعبة "الجُول" اليومية، ليجلس إلى "الكبار" وليتحدّثوا عمّا حدث، ليس قبل أن يشعل سيجارة وينفخ دخانها بسنواته الست عشرة، ونحن "الصغار" نتحلق من حولهم، مُصرّين على سرقة ما أمكن من المعلومات والتفاصيل عن هذه "العزارة"، وكيف تبدو وما معناها.

وعندما انذهل معظم المحيطين بي من جملة "كبيرنا" الحذرة: "كان يحط إيدو..."، لم أتورّع عن الاندهاش مثلهم، مع أنني لم أفهم ما تعني هذه الجملة. ثم صرخ الجميع مرة واحدة: "لا؟؟"، حين قال كبير الشلة وهو ينفث دخان سيجارته:

"تحت الكلسون!"

تأخر أبي تلك الليلة في العودة إلى البيت، وكانت أمي تنتظره عند "البرَنده" المُطلة على القرية، وتدخن بقلق، بينما كانت أختي تتمتم بهمس هي وابنة عمي التي اختارت أن تبيت عندنا الليلة، حيث شكّل هذا المبيت لديّ علامة أخرى على هول المصاب؛ إذ أنّنا كنا نبيت عندهم ويبيتون عندنا عندما يتوفى شخص في العائلة.

هل مات أحد؟ ولكن أين بقية أبناء وبنات عمي؟ ولماذا التمتمة تحت اللحاف؟ وأين أبي؟

عندما سمعتُ صوت الشاحنة ارتحتُ قليلا. بعد أقلّ من دقيقة كانت دعسات أبي المألوفة وهو يصعد الدرج تتضح أكثر وأكثر، ثم سمعت أمي تعود من المطبخ مصحوبة برائحة القهوة العربية الدافئة. صمتت أختي وابنة عمي وصرنا ثلاثتنا، من دون تنسيق، نحبس أنفاسنا ونحاول التقاط أية كلمة تأتي من "البرندة"- بلا نجاح يُذكر.

لا أعرف كيف انقلبت الآية، ولكن الحركة دبّت في العائلة اليوم التالي، وبدأت أشمّ رائحة "شعط" الدجاج والأرز المطبوخ ورائحة "الفقعية" والكبة، وفجأة كان عدد كبير من أطفال العائلة يتجمّع في بيت كبير العائلة، ومن حولنا رجال كُثر ونساء كثيرات. أنساني الطعام واللمة الهائلة لجميع أنواع مسدسات "الطقيع" و"الفشك" والبواريد، أيّ تفكير بأيّ أمر شغلني بشأن "العزارة"، وطفقتُ أركض مع الراكضين وألعب مع اللاعبين وأموت مع المطخوخين.

حين وقف كبير العائلة بدأت جميع النساء تنهرنا بعنف وخوف غير مسبوقيْن، حتى إنّ خالتي العصبية ضربت ابن خالي على خده كي يصمت، فتنبّهنا إلى جدية الموقف، فأنصتنا رغمًا عنا. تحدث كبير العائلة عن أمور لم أفهمها، ولكنني استطعتُ أن أفهم "عيلة وحدة" و"بسيطة". كان جميع الرجال يهزّون رؤوسهم موافقين، وعندما انتهى كبير العائلة من خطبته تقدّم نحو أحد الرجال كنتُ أناديه وقتها "عمي"، كما كنت أنادي جميع الرجال البالغين، واحتضنه وقبّله. ومن بعده توالى جميع الرجال على احتضانه وتقبيله، وفجأة انطلقت زغرودة حامية ومن بعدها "إيويها" مجلجة، مضطربة بعض الشيء.

حلّ صمت مهيب حين تقدمتْ إحدى نساء العائلة وهي تجرّ فتاة خلتُها في عمري أو أكبر قليلا، ووقفتْ أمام "العمّ" المُحتفى به وطلبتْ منها بحزم، والاثنتان تبكيان بخوفٍ:

"بوسي عمّك!"

في الليل، وأمي تغطيني، سألتـْها أختي:

"يعني خلص؟"

تطلعتْ إليها أمي وقالت بحزم:

"تروح تتخيّب! شو هيّي أول وحده؟ بدّا تخرب العيلة؟ إوعك بحياتك تجيبي هاي السيرة أو تفتحي هيك موضوع! فاهمة؟"

تمتمتْ أختي بكلمات قدّرتُ أنها خضوع تام لمطلب أمي.

أطفأتْ أمي النور في الغرفة، ثم نظرتْ إلينا بحبّ هائل، وقالتْ بهدوء وهي تدمع:

"الله يحميكُن."


الجمعة، 11 ديسمبر 2009

عينا دُشّه السّاحرتان




فقدتُ لغتي.

بعد سنوات طويلة من القراءة والكتابة وتصفح المعاجم والإخلاص لـ "لسان العرب"، خِلاً وصديقًا، فقدتُ لغتي؛ فقدتُ عشرات آلاف المرادفات والمتضادات المُصرّفة والممنوعة من الصرف، لأجد نفسي طيلة الأسبوعين الأخيرين عالقًا في كلمات معدودات لا تتغير: دش الدش الدش، حبيبتي، حبي، ديناصورة، عزا عزا عزا، عشا عشا عشا، عسا عسا عسا، يختي، خيتا، ألبي، شو هالعيون؟ إنتي قوليلي شو هالعيون وبحلّ عنك!! دشدوشة، منتوشة، فركوشة، زمبيعة، فرقيعه، برقوقة، طبيلة، زميرة، يختي، ملكة جمال ساحة عرفة!، دشة دشة دشدوشة؛ وهكذا.

أروح وأجيء وسط هذه المعجزة وأنا مقتنع بأنّها حدثت لي وحدي أنا، وكأنّ البشرية لم تحقق هذه المعجزة منذ أول قرد استنسخ نفسه آدميًا، وها نحن الآن، في عكا الأبية، أتأمل عيني شذا الساحرتيْن، وأغني لها في الرابعة والنصف صباحًا: يمّا الشلبية، عيونها لوزية...

فقدتُ لغتي، ولكنني اكتشفتُ لغتها.

*
تقول دُشه (والحكي للجميع): "وأنا أنا، هل أنتَ أنتَ؟" أهمس لها: هذا شاعرنا فهل جاءك في المنام؟ أحكي لها عن شتاء ريتا الطويل والقصيدة التي لا تنتهي، ولكنها تطلب مني أن أهمس في أذنها: "بكوب الشراب المرصع باللازورد، انتظرها". أهمس، ثم أغني بصوتي الفجريّ الصدئ المتعب: "طلعت يا محلا نورها..." وأنا أرجو في قرارة نفسي أن تنام- ولكنها لا تنام. دُشه تحرس هدوء المكان.

تمتهن دُشه السّهر على أعتاب الفجر، فتنام النهار وتقيم الليل، رضاعة وبكاءً وتحفيضًا. ثم تقرأ ما تيسر من سورة "وَعْ وَعْ"، وتطلب بعينين متيقظتين المزيدَ من الدفء فتستلقي على صدري وأعُدّ لها جميع الشعرات الزائدة في حاجبيها وتحت أنفها، وأستمع إلى لغتها الطافحة بالشهيق والزفير، فتخجل لغتي، فأغني: "يللا تنام، يللا تنام"، سارقًا المعنى من رغبتها في الانكماش ثانية في رحم أمها.

أمددها قربي في السرير وأرقبها تتأمل العتمة. هل تراني؟ هل ترى هاتان العينان ما يطبخ لنا الوقت من زاد اخضرارها؟
المعجزة حاضرة في: تفتح عينيها يومًا بعد يوم/ صوت بكائها الذي يمزق الأحشاء/ صوت صمتها الذي يمزق الأحشاء/ ابتسامتها اللا إرادية وهي ترضع/ قبعتها الحمقاء فوق رأسها المتشكّلة (الحمقاء)/ الوبر الخفيف النابت على أنحاءٍ في جسدها/ نظرة أمّها لها/ اقتراب النعاس من حركة يدها اليسرى/ سرّتها/ هجومها على الأصبع التي تفحص جوعها/ عنادها المبكّر (والشديد)/ "حصانها" المثابر/ انقطاع النفس وهي تستحمّ/ أغفاؤها على صدري/ ترنيمة الشوق للحياة في فجرها/ الوسن في نهاية الرضاعة/ تأملها السقف بلا هوادة/ بُرازها/ قيؤها/ حبّ جديْها وجدتيْها الغريب (قائمة غير نهائية).

*
أتحسّر على سيجارة إلا أنّ التدخين في البيت ممنوع، والفجر لم يطلق سراح الشمس بعد، فأدخن في الشرفة الباردة. صباح بارد جديد. الغيوم تتظاهر بتجاهلي، رغم أنني أعرف أنها تتحرجم فوق البيت كي تطلّ على إيقاع حبها الخفيف. أدخل لأسمع تنفسها، فنحن "مُسَرسبان" من قصة التنفس، ثم أعود، ثم أقلق بعد ربع ساعة، ثم أقوم، ثم أقلق ثانية. تنام على بطنها ويد سريعة تطبطب على ظهرها تفضح تنفسها البطيء-السريع. نبضات قلبها سريعة، مثل نبضاتي، ولكنّ نبضاتها ملأى بالوعود ونبضاتي ملأى بالأخماس والأسداس.

من مرة إلى أخرى، ليلَ نهارَ، تطلق تأففًا غامضًا، مكبوتًا، نسميه "زَعْبَرة". الأم تقول مغصًا أو توسعًا في المعدة، وأنا مقتنع بأنها تنادي علينا، قتلا للوَحدة. أسبوعان وجسدها لا يحتمل أية شاعرية أو بلاغة، ولكنني أرى ولادة المستقبل على فوطة أكلها المتسخة دائمًا. أرى قصيدة حياتي.

صارت لي ابنة. أقرأ من قصيدة غسان زقطان: "ليس لي ابنة/ كي تعيد إلى القلب/ ما كان يسقط من عشرة الناس/ في طرق لا يراها الرواة…". دُشه: هل ستحبين الشعر؟ لا، دعكِ من حبّ القصائد المكتوبة. كوني شاعرة!

*
في التاسعة وخمس وخمسين دقيقة صباحًا، في الثامن والعشرين من تشرين الثاني للعام 2009، استيقظ البرقوق في جسدي. كنتُ أظنه مات وشبعَ، إلا أنّ الحياة قالت كلمتها. حيوان منوي واحد وبويضة واحدة كافيان ليستيقظ آخَرُكَ على آخر جديد. تعدّ على أصابع يديك ما تغير: دفءٌ في القلب، خدرٌ في الجسد، لهاثٌ في غدد البكاء، سعارُ في غدد الضحك، وَجيفُ في أطراف الفرح.

أتأمّل صورها (للمرة الألف) وأبحث عن ملامح المرأة التي ستكونها. أشتعل غضبًا حين أتيقن من أنّ رجلا واحدًا على الأقل سيكسر قلبها يومًا (سأكسر رأسه!)، ومن أنّ خيبة واحدة على الأقلّ ستسحق تفاؤلها (سأسحق هذه الخيبة!) ومن أنّ فقدانًا قاهرًا (واحدًا على الأقل) سيغيّر حياتها يومًا (سنعيش من أجلها إلى الأبد!).

ثم أشتعل فرحًا حين أرى أول ضفيرة ناصعة السواد، أول فستان صيفي رفراف، أول فرحة لها بأوّل دراجة، أول يوم في المدرسة، أول 100 في امتحان الخط (خطها جميل، لا محالة!) وأول رسوب في الكيمياء (دعكِ من الكيمياء فالبحر أجمل)، أول "طفشة" مع صديقاتها على كورنيش بحر عكا (وقلق أمها!)، أول دفتر يوميات سترسم عليه قلبًا متناسقًا بالأحمر، أول رفة قلب لأحد أبناء صفها (سأكسر رأسه!)، أول تفتح على هموم فلسطين، أول مظاهرة، أول شتيمة علنية أمام والديْها (جيل خرا!)، أول سيجارة في الحمام، أول حفلة راقصة تمتدّ حتى منتصف الليل (وقلق أمها!)، أول خروج من البيت، أول دمعة في أول مهاتفة وهي خارج البيت، أول سكرة معها في بار مدينتها الجديدة (جين وتونك)، أول السّعي وراء الحياة، أول حبّ يُوجع الجّسد (سأكسر رأسه!).

*
فقدتُ لغتي.

صرتُ ناطقًا باسم عينيّ دُشه. ثم اتسعت لغتي...


(11 كانون الأول 2009، السادسة إلا ربع صباحًا)

الاثنين، 30 نوفمبر 2009

شذا بكر-حليحل



كتائب شذا بكر-حليحل

القيادة العامة

بيان رقم 1


تزفّ كتائب الرفيقة شذا بكر-حليحل في عكا وسائر الجليل،
إلى أبناء شعبنا العظيم بشرى

العملية الإنجابية البطلة


التي أنجزتها الرفيقة المناضلة عبير بكر، يوم السبت، 28 تشرين الثاني 2009، الساعة 9:55 صباحًا في المستشفى الفرنساوي (الاستعماري-الإمبريالي) في ناصرة الجليل.

وبهذا، تعلن كتائب الرفيقة البطلة شذا بكر-حليحل عن بداية العدّ التنازلي لكنس العدو الغاشم من أرض فلسطين، وبداية عهد وطني جديد.


معًا على الدرب


هوية قومية - ماتيرنا وبابمرز!

اللجنة الإعلامية

الأربعاء، 25 نوفمبر 2009

قصيدتان للشاعر المغربي ياسين عدنان


شاعر مختلف

لو أني ولدت فلسطينياً

كنت سأبدو صاحب قضيةٍ

وكان النقاد

سيجِدُّون في البحث

عن معنى عميق

لقصائدي

وسيفتشون فيها

عن تلابيب الجرح

ومدائح البرتقال.

فكانت سعاد ستعني البلاد

وعائشةُ الأرضَ

والعناق سيغدو التحاماً

يعشب القضية

والانتظار

طوال النهار بمقهى المحطة

سيعني

الصمود في وجه الحصار.

لو أن الأمن

وجد في آرائي

تلك التي لم أجهر بها

ما يُهدد الأمن

لكنت الآن أرفلُ

برتبة سجين سابق

كنت سأبدو عميقاً

حتى وأنا

أتحدث عن أصناف الجعة

وأحوال الطقس،

جديراً بالتضامن

ساعة الأنينِ

وساعات الشكوى

كنت سأظفر، وبما

بحق اللجوء

إلى عاصمة شقراء

باريز، مثلا...

هناك، كانت ستُغري بي

عيناي

شعري الاسود الفاحم،

صمتي الأريبُ

يداري فرنسيتي المعطوبة

كنت سأغوي

فرنسية عذراء

أفتضُّها دونما مهرٍ

فأصاهر رامبو سِفاحاً.

لكنني أتيتك أيها العالم

طارئاً كانقلابٍ

جافاً كنعي.

جئتك أيها العالم هكذا

بدون قضية مناسِبةٍ

وبلا مناسَبة تقريباً.

جئت عاديا في سنة عادية،

وبشكل عادي

كتبت قصائد

في لون الحياة تماماً،

ولم يكتشف أحد بعد

أني

شاعر مختلف.





الشعراء

هكذا هم الشعراء

تحبهم بنات أقل جمالاً

من عشيقات المغنين

ونجوم كرة القدم،

لا تأبه بهم سكرتيرات الدواوين

وتستثقلهم مذيعات القناة الأولى

حتى بارميطات الحانات الرخيصة

غالباً ما يُلبين نبيذهم بضجر.

..........

وحدها كرابيح الجلادين

تذكرهم

وحده رصاص الجبناء.

(عدنان ياسين)

الجمعة، 20 نوفمبر 2009

سأخون مدينتي


أشتاق إلى حيفا الآن.


كنتُ أعلنتُ طلاقي منها بعد زواجٍ من 13 عامًا، حين تزوجتُ عكا وابنتها منذ خمس سنوات. إنتقل المكان وانتقلت إليه، ثم انتقلنا سوية إلى زمان جديد. أفكر الآن في المكان ولا أذكر إلا الناس: الرفاق والرفيقات (في السّهر والمرح والتسيّب)، الأصدقاء والصديقات، العاشقات والعابرات، الشوارع والأشجار الشتوية في شارع "هيلل" التي تفوح برائحة المنويّات الغريبة (هل لاحظتم؟).


"المكان حيث تتشكّل"- أحاول أن أصيغ حكمة، ولكن أليس المكان حيث تتحلل أيضًا؟ وحيث تتدمّر وأليس المكان، أيضًا، حيث ترمّم نفسك؟ وحيث تضحك وحيث تبكي، وحيث تنام وحيث تسهر، وحيث تسعد وحيث تشقى؟ ولماذا المدن، مع أنني أحبّ جليلي وقريتي ومساحات الخضرة اللانهائية حوالي نبع "العكروش"؟ أليس المكان بتفاصيله؟ أليست تفاصيل الجبل أشهى من البحر، أم أنّ العكس هو الصحيح، أم أنني في غمرة التباس المكان عليّ أتوق إلى سعادة لم أعشها؟


فجأةً، تتراءى حيفا فضية كأشعة الشمس في هذا الشتاء المتردّد. أنظر إليها من عند رصيف مقهى "البيغي" على الغربيّ في عكا، وأحلم بسكرة عصراوية في "فتوش" تطرحك في الفراش حتى يحين موعد السكرة الليلية الرسمية. عَلامَ يا هذا، وما الخطب، وما الذي أشعل فتيل الحنين إلى حيفا بعد هذه السنوات؟

إذا كانت عكا "أجمل نساء فلسطين" (على ذمة الشاعر)، فإنّ حيفا أكثرهنّ شبقًا ومجونًا، وأنا كالعالق بين معشوقتيْن لا فكاكَ من التصدّع بينهما مثل أرض يباب تتشقق في غمرة القحل، أو تذوب في غمرة العُباب (المطر الكثير- على ذمة ابن منظور). إلى ماذا أشتاق في حيفا؟ لا أعرف تحديدًا، ولكنّ صورتنا (خمسة شبان متحمسين) ونحن نجلس على شرفة البيت المتهالك في شارع "مسادا" بعد إغلاق الجريدة، نستمع إلى شربل يقرأ "شتاء ريتا الطويل" لدرويش، تلحّ عليّ، مع أنّ تلك القراءة لم تكن لـ "ريتا" معيّنة بعد. يبدو أن القارئ والمستعمين هم الذين يسكنون الصورة وليس "ريتا".

أسير في شوارعها مؤخرًا وأحمل ذاكرة مضطربة. هنا كذا وهنا كذا، وهناك كذا وهناك كذا. كأني أسير في آخر يوم للذاكرة، أحاول حصرها وممارستها قبل أن تنتهي. تخفّ بي الأرض ويبدو شارع "الحالوتس" (لأول مرة في الحياة) جميلاً. "الحالوتس"؟ جميل؟؟ أتذكر هذا الشارع في رواية "إخطية" لإميل حبيبي، ولكنني الآن أتذكر "شوارما الأخوة" وكم هي مسؤولة عن كرشي النابتة رغمًا عني. وأتذكر فلافل "أرمون" وفلافل "ميشيل" ومطعم "الجبل" قرب الجريدة حيث كنا نشرب البراندي الرخيص ("إكسترا فاين"، الشهير بـ "أبو زبلة") ونتحدث عن تغيير العالم.

وصلتني في البريد الكهربي رسالة فيها رابط لبحث جديد: نسبة الكشف عن أعضاء النساء اللازمة لزيادة "تحشر" الرجال بهن هي 40% من أجسادهنّ، لا تزيد ولا تنقص. ابتسمتُ. هل كشفت حيفا لي مؤخرًا عن 40% من صدرها أو عجيزتها أو فخذيها؟ لا أظنّ، فأنا تكفيني رقبتها وهبوط الشهوة من غرتها نحو كتفها كي أغازلها وحدي، وسط زحام التاكسي وفظاظة السائق وظلف الركاب وحديث هذه العجوز البائسة عن آلام ركبتيها.

فجأة، عادت حيفا وكأنها لم تغِبْ للحظة؛ "ليسَ المكانُ هوَ الفخ" أعاد درويش أربع مرات في قصيدته "لا أريد لهذه القصيدة أن تنتهي"، وأنا أعيد وراءه: "إنّ الزمانَ هُوَ الفخ ُّ". ماذا سيكون إذًا فخّ هذا الزمان؟ أهي رياح الحبّ العاتية في أرجاء الرحم الحبيب؟

"أيّ إنسان لم يَختبر نشوة الخيانة لا يفقه شيئاً على الإطلاق عن النشوة"، قال جان جينيه، وأنا أشعر بخيانتي لعكا ولكنّ المعشوقة –حيفا- تستأهل كل هذه الخيانة! هل يجب أن أحرق جسرًا كي أعبر آخر، ولماذا كل هذه الدراماتيكية في حبّ مكان لا يعني شيئًا من دون ساكنيه؟ عكا أشبه ما يكون بالبيت، وحيفا أشبه ما يكون بغرفة مغرية في فندق تحمي عاشقيْن.

ألتجئ إلى شقة عامر لأكتب، فأقع في الحنين. هل الحنين إليه أم إلى ما يعنيه لي من تاريخ ومن حيفا؟ لا أعرف، ولكنني أرتب شقته كلما ذهبت وكأني أصرّ على أنها شقتي. يا للنوستالجيا المثيرة للشفقة!

هل المكان هو ذريعتنا للاختباء من الزمن؟



الأحد، 1 نوفمبر 2009

البرزخ

لن أسميه "انسدادًا في مجاري الكتابة"، فهي حاضرة، والشكر للات والعزة، ولكنه ما يشبه التحيّن اليقظ لكتابة ستأتي. أشعر بكميات هائلة من الكلمات تنتظر اللحظة المناسبة، ولكنّ الجسد لا يتعاون معها. لا أجلس للكتابة حين يكبس الوجع بل أقرأ أكثر. أمارس توأم الكتابة الجميل وأنتظر الطوفان.

أكتبْ، أكتبْ، أكتبْ! تبًا، لماذا لا تكتب؟ الفكرة جاهزة، المواد تتراكم، البرولوغ شبه نهائيّ، الفصل الأول يجري من تلقاء نفسه، فلماذا لا تكتب؟

أستمع للموسيقى. أنور ابراهام. التونسيّ العذب. عندما أكبر أريد أن أصير أنور ابراهام. أعني أنني أريد أن أكتب مثلما يصنع الموسيقى. بأعمق بساطة ممكنة. لقد وجد المعادلة، فمتى أجدها؟ الكتابة أقلّ شأنًا من الموسيقى. الموسيقى تترفع على الكلمات، لا تحتاجها، تلعب في المجرّد، تتحايل على المنطوق. الكتابة تتعثر بمحدودية النصّ، بحاجته إلى الأحرف.

أجهل النوتة. يكتبونها بنقاط ترتفع وتنزل. لا شكّ في أنها لغة بقوانين ومنطق داخلي. ولكنها تحتاج إلى الأذن فقط، بينما تحتاج الكتابة والقراءة إلى العينين. ذهب الخيال. حاول أن تبنيه من جديد. أكتب كما الموسيقى، بأقلّ ما يمكن من الإملاءات، بأكثر ما يمكن من الاقتراحات. كيف تكون الكتابة اقتراحًا وهي بالغة الوضوح؟ لو صارت الكتابة كالموسيقى لفاضت بالاقتراحات بدل الإملاءات.

كيف يكتبون نصًا مثل لحن “halfaouine” (غناه لطفي بشناق في أغنية "ريتك ما بعرف") أو لحن “vague, var”؟ كيف نقول كل شيء من دون الحاجة إلى القول حقًا؟ هل على الكاتب أن يكون موسيقيًا كي يدرك المعنى؟ معنى القول، أقصد، وليس المعاني "الحياتية" العابرة.

بيانو وأكورديون وعود. من بحاجة إلى أكثر من هذا كي يكتب رحلة مثل “Le voyage de sahar”؟ وكيف يكتبون رحلة السّهر بحروف متراصة مغلقة ونهائية؟ هل هذا ممكن؟

الثانية عشرة والنصف بعد منتصف الليل. لماذا لا يُعلن الكلارينيت –الآن وهنا- نهاية الكتابة؟ سأصبّ قليلا آخر من النبيذ. بصحتكم. بصحة النصّ الذي خانني مرة أخرى. تعسًا للعالم؛ لماذا لا يدخل البرزخ إلا اللحن؟؟


الخميس، 29 أكتوبر 2009

نصٌ للشتاءِ


(لا يقرأه إلا الثعابين)


الش
تاءُ هو الشهوةُ، لأنّ الشهوةَ حنينٌ إلى ارتعاشاتِ الجسدِ، والمطرُ ارتعاشاتُ الشتاءِ. في الشتاءِ يتفتّح الجّسدُ حينَ تنامُ الأشجارُ؛ فالعلاقة عكسية ٌ وهي عصية ٌ على الفهمِ إلا في حَضرةِ الجّسدِ. خُذوا جسدًا وألقوه في يَمِّ البردِ فتستيقظُ مسامُه. تبحثُ عن مَسامَّ أخرى تُؤنِسُها، عن جسدٍ آخرَ يعبثُ بهذه المساماتِ فيُسليها ويَحكي لها قصصًا عن الحبِّ والجنس، نهايتُها سعيدة (مُبكية). الشتاءُ اقترابُ الجّسدِ من أصُولِهِ، مِن درايتِه بأعضائِه وتفصيلاتِها، مِن معرفتِه بفتحاتِ اليقظةِ والنعاسِ حين تدْلهمُّ الغيومُ ويتزاحمُ المطرُ على أبوابِ الرائحةِ.

الشتاءُ قناعة ُ الجَّسدِ بأنّ البردَ حليفٌ وليس غريمًا، بأنّ المطرَ صديقٌ وليس عدوًا، بأنّ هذهِ الرائحة الرطبة الممتلئة هواءً مُقيمًا، هي نعمة ٌ وليست نقمة ً. الشتاءُ حنينُ الأصول إلى مُرادفاتِها وهو انبهارُ الأنفِ بروائحَ بدئيةٍ تتفتحُ في مساءٍ عابقٍ بالرّذاذ الخجلِ، بمشروعٍ لليلةٍ ماطرةٍ ستعيدُ الفرحة إلى الأغطية الشتوية الثقيلة. الشتاءُ حكاية ُ المَددِ التي تَحكيها القطراتُ السّاقطة ُ على الشّعرِ وعلى الأحذيةِ وعلى أكفِّ الأيادي الهاربة إلى مَوْئلٍ في الجّيوب المزدحمة بالنقودِ وعلب السّجائر والقدّاحات وأوراق العشق والكهرباء وتدوينات الأفكار السّابحة في الجوّ، الهاربة من ملل الشمس الساطعة.

*

الشتاءُ هو البحثُ عن الحقيقةِ في كذبةِ الشّمس الساطعةِ.

*

الشتاءُ هو الصباحُ. رعشة الجَّسد المصدوم بالبرد الصباحيِّ عند الخروج من تحت الغطاء السّميكِ (إلي إلى لِما شبقتني؟)، تضاهي رعشتَه وهو ينتفضُ لذة، حين يُفرغ حبّه في جسد الآخر المُستسلم للغيم. تلك الرعشة التي تتحايلُ على نشاط الجسد المُفتعَل، تصدمُه، تجعله يُعيدُ الغطاء إلى الجَّسدِ المُتمدِّدِ تحتَ سطوة حلمه الشبقيِّ الطازج، تجعله يبحث عن دفءٍ نابضٍ عنيف ينبعث في ثعابين البطن المتلوية، أسفله وداخله. الشتاء ثعابيننا الباحثة عن يد أخرى تبحثُ عن رعشة صباحية شتوية، هي الأخرى. يدان اثنتان تبحثان عن لذة الآخر، من دون جنس، من دون قُبل، من دون احتكاكٍ. يدٌ ويدٌ وثعبانٌ ومَخبأ مُظلم يختبئ تحت غابةٍ سوداءَ من القصائد.

*

هكذا يصيرُ الشتاءُ اكتفاءً!

*

إنها مؤامرة الصباح الصامتة، ريحٌ تحتكّ بريحٍ، جسدٌ يحتكّ بجسدٍ، يبحث عن معنًى لتكوّرات عجيزة نسائية في تحدُّبات جسدٍ رُجوليٍّ، يندمجان معًا في نومة "ملعقة"، يتكوّران في بعضهما البعض، يصمتان وهما يبتسمان لحركة الثعبان المُستيقظِ في خدر الصباح السريع، الهادئ، شبه الناعس. لا شيءَ مُستيقظًا إلا الثعابين. إنه البُطءُ، الخفة، الهمسُ، الإيجازُ وكلامِ الحبّ العِربيد. فهذه اللحظاتُ لهما فقط، ليسَ للجَّسديْن النائميْن-اليقظيْن، بل لها، للثعابين المتيقظة كحميرِ الوحشِ.

طوبى لمن تملّكت ثعابينهم زمامَ أمورهم في صباحٍ شتويٍّ، فأغدقوها سيلاً حارًا غامرًا يليق بأهزوجة "رجعت الشتوية". فهذا اليوم ليس للعمل وليس للدراسة وليس للتبضع وليس للاستجمام وليس للخروج وليس للدخول وليس للطبخ وليس للنفخ وليس للسياقة وليس لركوب الحافلات وليس للقطارات وليس للسفر البعيد وليس للسفر القريب وليس للجنازات وليس للأعراس وليس للزيارات وليس لجبر الخواطر وليس لكسر الخواطر وليس للمجاملات وليس للقاءات وليس للمقاهي وليس للمطاعم وليس للجلوس على الناصية وليس للتسكّع وليس للتهندم وليس للتغندر وليس للإسراع وليس للإبطاء وليس للسّعي وليس للعامة وليس للخاصة وليس للتلفاز وليس للصّحف وليس للكتب وليس للحاسوب وليس للكتابة وليس للقراءة وليس للمحادثات الهاتفية وليس للدواوين تُعقد على شبابيك الحارة وليس للشائعات تُقال على عجل وخوف وليس للأخبار تأتي ممّن لم نُزوّدِ وليس للتشاؤم وليس للتفاؤل وليس للتفكير وليس للتدبير وليس للترزق وليس للإقدام وليس للهروب وليس لفعل الخير وليس لفعل السوء وليس لأيّ أحد يطرق أيَّ باب- هذا اليومُ للشتاءِ.

رائحة الأرض والشجر الذي يستعدّ للنوم؛ ارتطام المطر بالمطر، ارتطام الجسد بالجسد. لا أعرف أيَّ الصوتين أجمل: ارتطام المطر بالأرض، بالشجر، بالرخام، بالأرصفة، أم صوت ارتطام الجسد بالجسد، صوت اللحم يتعرّق على اللحم، صوت اللحم يستقبل اللحم وينفتح على مساماته الصارخة بألف أغنية: أغنية للخوف، أغنية للبرد، أغنية للشكّ، أغنية لليقين، أغنية للحياة، أغنية للموت، أغنية للثورة، أغنية للخنوع، أغنية لثعبانها، أغنية لثعبانه، أغنية للأصابع المتحسّسة على أيقاع الأنفاس المتقطعة، أغنية لبصمات الماريحوانا في هذه المضاجعة تسير على مهلٍ كأنّ الريح ليست تحتهما، وكأنّ القلق ليس تحتهما، وكأنّ الشاعر لم يصرخ في عتمة الليل: وجدتُها! وجدتُها! وجدتُ قبلتها في غمرة المطر!

يُصليان في اليوم مضاجعتيْن وفي الليل مضاجعاتٍ ثم ينامان التراويح. يُسبّحان اسم خالق هذا الجسد وهذا المطر العنيد المُنسال على جدران ريحهما. شتاءٌ يهبّ على جسديْن فيصيران شعوذة مُربكة: ثعبانان شقيان لا يحترسان، فالقلب لا يحتمل هذه الشقاوة، والجسد على وشك أن يهرم وعلى وشك أن ينهزم وينهار تحت وطأة تناور الجسديْن، ويودّان لو يهدأ البنزين في محركيهما، فيغنيان تهليلة للنوم وتهليلة للسفر إلى راحة مُرتجاة. الشتاء تعب لذيذ وسرير حارّ لا يبرد. يصرخ السرير: أنا هنا، أنا هنا، فهاتِِ أكثر ولا تبخلْ يا شقيّ!

*

الشتاء عودة الروح إلى منابعها. الشتاء رجفة. الشتاء ارتجاف. الشتاء مؤامرة رذيلة ضدّ الفضيلة. الشتاء ليلة القدر امتدّت على فصل كامل!

(22 كانون الأول، عام المطر)


الجمعة، 23 أكتوبر 2009

ثرثرات فوق السور (3)

  • حدثني الطبيب سامر خوري، مسؤول ملف الوليدة الوشيكة شذا (دُشّه) حليحل وأمها الحامل، فقال: "حدث منذ فترة طويلة أنني كنت أشرف على توليد امرأة عربية، وكانت ولادتها صعبة للغاية، فكانت تصرخ بملء ألمها، وتصيح طالبة زوجها: إسماعيل! إسماعيل! ولما سألتُ عن سرّ غياب زوجها عن غرفة الولادة قالوا إنه كان هنا إلا أنهم اضطروا لإخراجه لأنه كان "يتصبّب" على النساء الأخريات في غرفة التوليد! ولكن وضع المرأة أصبح صعبًا فخرجتُ وناديته، ولما دخل نظر إلى امرأته التي كانت تتمزق ألمًا وصاح بها: ليش بتصيحي هلقدي؟! كل الناس سامعه صوتك، أسكتي! وهكذا صمتت المرأة مرة واحدة وكأنّ أحدهم أخرس الصوت فجأة، واستمرّت في ولادتها العسيرة بلا أيّ صوت."- حتى هنا قصة خوري. في الطريق فكّرتُ كم اسماعيل على المرأة العربية أن تتحمل ريثما يموتون جميعهم، ويُولد جيل جديد من الإسماعيليين؟
  • تسلم الشاعر موسى حوامدة قبل فترة قصيرة رئاسة تحرير الملحق الثقافي في صحيفة "الدستور" الأردنية، ولم يستغرقه الأمر كثيرًا كي يضع بصمته المتميزة على الملحق الأسبوعي، الذي صار يُقرأ بتمعّن وتأنٍّ ومتعة. الغالب في التوجّه الجديد دمج السريع بالبطيء، القصير بالطويل، السلس بالكثيف. وحتى في المقالات أو المواد الموجزة لا تجد استسهالا أو سطحية. "الدستور" الأردنية دخلت منذ أسبوعين في قائمة زياراتي الشبكية الدائمة.
  • أقرأ كثيرًا في هذه الأيام عن فترة حصار نابليون لعكا، حيث أعكف على كتابة رواية تجري أحداثها في هذه الفترة. ما أبشع تاريخنا! ما أكثر القتل فيه، والدسائس والكراهية وحبّ التزعّم. من يقرأ تاريخ تلك الفترة وكميات المعارك الهائلة التي جرت بين الأمراء والولاة في أصقاع سورية الكبرى، لا يستغرب ما حدث لنا مع أحفادهم في العصر الحديث. ثم أنّ "الجزار" لم يصمد في وجه نابليون، بل يعود الفضل إلى آخرين. كيف؟... عليكم أن تقرأوا الرواية.
  • عندما اقتربتْ بيروت بعد إعلان نتائج "مسابقة بيروت 39"، بدأتْ تبتعد مرة أخرى. وأنا بالكاد أتقن الاقتراب من عكا.
  • ما هي وتيرة الكتابة في مدونة شخصية؟ مرة في الأسبوع؟ مرة في الشهر؟ مرة في الشهرين؟ هل هناك عقد بين كاتب(ة) المدونة وبين القراء؟ متى ييأس القارئ من المدونة ومتى ييأس الكاتب(ة) من المدونة؟ هل يجب الإلتزام بمواعيد نشر واضحة؟ ولماذا الإلتزام؟ إليس من طابع المدونة الشخصية الدوزنة على السجية؟ ولكن، من يسمع هذه الدوزنة من دون وعدٍ بالمزيد؟
  • واستمرارًا في الدوزنة: سأبدأ يوم الأحد القادم بتعلم العود على يد الجهبذي العنيد ذي العود الرشيد، حبيب شحادة حنا، في جمعية "المشغل" في حيفا. أنتم مدعوون إلى كونسيرت الصولو الأول لي في المدرج الغربي في جرش صيف 2010. الرجاء الحجز سلفًا فالأماكن محدودة!
  • "لم أستطعْ أن أراكِ اليومَ / ولكنني لسْتُ حَزينًا / إذا كانَ المطرُ الذي بَللني في الصّباحِ / قدْ بَللكِ أيضًا." (قصيدة "مطر" للشاعر حسين بن حمزة)

الأربعاء، 14 أكتوبر 2009

كيف هرب «دياب» إلى أمجاده الغابرة!




فراس خطيب

لم يدخل العرب فلسطين. فقد احتدم الخلاف بينهم على أعتاب حطين، فعادوا أدراجهم، ليقرّر «دياب» أن يدخلها بمفرده لـ«محاربة جيش اليهود الجبّار». لكنّه وجد نفسه أسيراً في قاع سفينة أميركية، في قلب زنزانة مخنوقة، سوداء من شدّة الظلمة، يكسوها غبار الفحم. يبدو مترهل الملامح، منكسر الهيئة، أسيراً بين ماض وحاضر، يهرب من الهزيمة ــــ أي هزيمة ــــ بحديث عن أسطورة «الأمجاد» التي سبقتها. هزيمة جلية ومجدٌ يظلّ كلامياً، إلى أنْ يصدح بوق الباخرة، كأنها صيغة الأمر من حرّاسه، فيهمُّ دياب بجسدِه المتعب، حافي القدمين، ليملأ الصندوق فحماً، كي تمشي السفينة، فيعود إلى مجلسِه ويعاود الحديث عن أمجاد كانت وأخرى لم تكن.

مونودراما «دياب» التي احتفلت أخيراً بعرضها الخمسين في حيفا (وهو إنجاز بحد ذاته بالنظر إلى وضع المسرح الفلسطيني في الداخل)، استوحاها كاتبها علاء حليحل، من «تغريبة بني هلال». تلك السيرة الشعبية التي رَوَتْ عن ملاقاة «بني هلال» لـ«أعدائهم»، وحكت عن سيرهم في طريق الانتصارات. لكنّ حليحل أبدع في توظيفها بطريقة لا «تدغدغ» مشاعر المتلقي بمقدار ما تحاكي العقول. إذ يخلط في نصّه، بإتقان ووعي حذرين، بين أساطير الماضي (أنا دياب ورايتي رايِهْ، وأنا عربي وكرامتنا غايِهْ)، وهزائم الحاضر (يا ضو، وين رحت؟).

الحكاية يرويها دياب الذي بعثرته الروايات ورمته إلى قاع السفينة. إنّه فردٌ يشبه جماعته، لا يتقن ماضيه ولا يذوّت حاضره، حتى فقد بوصلته. تراه يتوسل حارسه تارةً «يا حارس، شُربة مي وحياة إمكْ»، وطوراً يحاكيه بلغة الممتطين صهوةَ جيادهم قبل الهجوم: «يا حارسْ! يا حارسْ! يا كلبَ البشرية! هل تُسلم أم تدفع الجزية؟».

لم يحلم دياب بأن يكون مثل حارسه، فقد قبل بالواقع وارتقى ليكون «قديساً معذباً» وهكذا كانت نهايته. وإذا امتلك رجال غسان كنفاني (في «رجال في الشمس») خيار طرق الخزان كي يحيوا، فإنّ دياب علق بين الغبار، من دون أن يمتلك خزاناً ليطرقه. وانتهت المسرحية، كما اختار كاتبها، بمغناة «صرت العبد، وصرت العبد».

بعد مسيرة قطعتها المسرحية، منذ فوزها في «مهرجان مسرحيد 2005»، يبدو الممثل عامر حليحل أكثر نضجاً ووعياً للحالة السياسية والعاطفية الطالعة من النص. يبدو أكثر سَكينةً من عروضه السابقة. ذلّل تحديات النص التي تخلط بين بساطة اللغة وصعوبة معانيها الكلاسيكية، فخلق توازياً بين النص وتجسيده على الخشبة. استطاع أن يتنقل بين «الكذب والحقيقة»، بين «المجد والهزيمة» بحركات مقنعة، تحت إيقاع موسيقي مُتقن وحسّاس (من تأليف الموسيقي حبيب شحادة).

لكن في المقابل، فإنّ الإخراج الذي حمل توقيع سليم ضو، بدأ إبداعياً مع فتح الستارة، ثم توقف نموّه بعد المشاهد الأولى، فوقع في خطأ «الاستقرار». كان ممكناً ــــ ومنعاً لهيمنة الروتين ــــ اللجوء إلى حركات تجعل من الزنزانة عالماً، تماماً كما السجين يراها عالمه الواسع رغم ضيقها. فكيف إذاً، يصمد الأسرى 30 عاماً في غرفة صغيرة؟ كيف يحيون ويموتون ويعشقون في تلك الرقعة الضيقة؟ كان لا بدّ من إقحام تلك التجربة أكثر من أجل دفع التمثيل والنص إلى الأمام، لا العكس.

تستمد مونودراما «دياب» مادتها من الواقع السياسي. إنّها عملٌ ذو صلة بالأحداث الآنية: أسرٌ وتهاون و«اعتدال» وهيمنة أميركية على كل شيء. من يتباهى بفرسه «الخضرا» التي اعتلاها لـ«تحرير فلسطين»، هو الذي يأكل «الماكدونلدز» في قاع الباخرة. وإلى متى سيظل عالقاً؟ لا أحد يعرف.

ألسنا جميعاً عالقين في قاع تلك السفينة/ الهيمنة، نراقص خيالاً ونبكي واقعاً؟!

(عن صحيفة "الأخبار")



الخميس، 8 أكتوبر 2009

فرنسوا ثائرًا!



كانت المفاجأة كبيرة، لدرجة أنّ خروجك من القاعة عند انتهاء المسرحية لم يكن كافيا لتشكيل رأي عمّا شاهدته قبل لحظات، بل يزيد من حيرتك، ثم تستقرّ حيرتك على جملة واحدة مجلجلة في الرأس: "يحرق حريشك يا فرنسوا"!

فرنسوا هو فرنسوا أبو سالم، المسرحيّ المخضرم، والعرض هو مسرحية "أبو أوبو في سوق اللحامين" المنتجة بدعم الصندوق العربي للثقافة والفنون في عمان، والتي تُعرض في مهرجان المسرح الآخر في عكا، والذي يقفل أبوابه اليوم الخميس. يقف فرنسوا على المنصة إلى جانب الممثل الشاب الممتاز أدهم نعمان، وسوية يلعبان لعبة مسلية بعض الشيء، وسخيفة في بدايتها: لعبة الأب والابن اللذين يخططان للاستيلاء على مخترة الحمولة. فالاثنان يديران ملحمة العائلة وحياتهما مليئة باللحوم النيئة ورؤوس الخرفان المقطوعة. في لحظة ما، وبعد مرور حوالي عشرين دقيقة، تبدأ مسرحية أخرى، لعبة أخرى تتضح معالمها مع الوقت؛ إنها لعبة الجنون اللا نهائي، جنون واعٍ لنفسه حتى أدقّ التفاصيل، خروج على المألوف وإمعان في الغرابة والتغريب؛ إنه مسرح القسوة في تجلياته القصوى، والمشاهد يجلس مشدوهًا ممّا يجري أمامه.

يتحوّل اللحم النيّء ورؤوس الخرفان إلى أداة العمل الأساسية في المسرحية: يقطعانها، يطحنانها، يأكلان الكبد النيء على الخشبة، يلعبان باللحم، يحملان غالبية المسرحية رؤوس خرفان لتكون شخصيات المسرحية الأخرى. يفعلان كل هذا من دون اعتذار، "بوقاحة"، بطبيعية من يرى في حياته وحياة من حوله كتلة من اللحم تنتظر من يقطعها ويأكلها. تتحول الخشبة مع الوقت إلى ساحة مليئة بقطع اللحم والدم التي تطغى على كل شيء. حتى إنّ الابن يقوم في النهاية بتقطيع أبيه بالمنشار ليتطاير دمه على وجه ابنه وليلقي الابن رجل والده المقطوعة أمام الناس!

إنها لعبة خطيرة، حتى القرف أحيانًا؛ هي مغامرة مليئة بالدهاء قد أراهن وأقول إنها بحاجة إلى شخص مثل فرنسوا أبو سالم ليقوم بها؛ بحاجة إلى مسرحيّ يقف على الخشبة منذ أكثر من أربعين عامًا، أخرج ومثل وعمل كل ما يمكن عمله، والآن، من شيخوخته الشابة يطلّ علينا وعلى المسرح ويقول ساخرًا: الآن، سأريكم أيها الأوغاد. وفي جسارته هذه يطرح أبو سالم قصة تدور أحداثها في القدس، وترتكز إلى ثيمة السلطة والاحتراب عليها، إلى الطبيعة البشرية وإلى الفلسطيني الراضخ تحت الاحتلال وقد تحول بعد كل هذه السنين إلى إنسان نهمٍ يسعى لتملك القوة وممارستها على أبناء شعبه (أيذكركم هذا بشيء ما؟).

إنها أمثولة قاسية، عنيفة جدًا، فظة حتى أبعد الحدود، ولكنها في نفس الوقت ترتكز إلى كوميديا المفارقة وإلى السخرية الذاتية المفرطة التي تراوح طيلة الوقت بين الحدّ الفاصل الدقيق بين السّخافة نفسها وبين التسخيف المقصود. أليست هذه الحياة التي نحياها اليوم؟

في هذا العمل أثبت أبو سالم أنّ في جعبته المزيد، وأنّ بوسعه أن يفاجئ من جديد. لا أعتقد أنّ الجميع سيحبّ الفظاظة والسّوقية (معذرةً من الأسواق) والهمجية التي يتعامل فيها الممثلان مع اللحم النيء وحضوره الطاغي على الخشبة، ولكن هذا لا يهمّ؛ ما يهم أنّ هذه المسرحية تعيد الرونق المفقود إلى المسرح، إلى مهمته الأساسية: أن يصفعنا وأن يجعلنا نفكر في مسلماتنا (الفنية، التذوقية، الحياتية) من جديد.


"أبو أوبو في سوق اللحامين" * فكرة وإعداد بوحي من ألفرد جيري: فرنسوا أبو سالم، بمشاركة باولا فينفاك، أوليفيا ماجنان، جوي الهنان وعامر خليل * تمثيل: فرنسوا أبو سالم وأدهم نعمان * إضاءة: فيليب أندريكس * إنتاج: الصندوق العربي للثقافة والفنون- عمان والمركز الثقافي الفرنسي

الأربعاء، 30 سبتمبر 2009

ثرثرات فوق السور (2)

  • استمعت اليوم (الأربعاء، 30 أيلول) إلى مقابلة إذاعية أجرتها "ريشت بيت" (الإذاعة الإسرائيلية الرسمية) مع رئيس لجنة المتابعة، محمد زيدان. الحقيقة أنّ المقابلة كانت مخجلة في جميع نواحيها: في عبرية رئيسنا الضحلة، في أفكاره المبعثرة، في شعاريّاته السطحية، في تعميماته المعيبة، منها أنه قال: "نحن مع الاندماج الكامل في المجتمع الإسرائيلي". عفوًا؟ هل يمكن أن تعرف "نحن" و"اندماج" و"مجتمع إسرائيلي"؟ لقد أتى تعيين زيدان رئيسًا للمتابعة منعًا للتصدع في اللجنة (المتصدعة) في الصّراع على تعيين رئيس "إشكاليّ". هذه التسوية تستأهل مثل هذا الرئيس. دمتم ومات الوطن.
  • أصدرت "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة" نشرة حزبية وزعتها تحت عنوان "باقون بكرامة وحقوق" تروّج فيها للإضراب العام يوم غد (الخميس، 1 تشرين الأول). خطوة ممتازة ونحيي مثل هذه المبادرات، وحبذا لو أنها صدرت عن أحزاب أخرى ثانية (لم أنكشف على غيرها حتى الآن). ولكن ما يثير الابتسام أنّ "الجبهة" بالذات، التي كانت ضد الإضراب في ذكرى هبة أكتوبر بشكل منهجيّ ومثابر في السنوات الأخيرة، لم تكتفِ بتبنيه هذه السنة بل أصدرت نشرة خاصة به. لا تهدِ من تحبّ إن الله يهدي من يشاء.
  • في 8 تشرين الأول القادم، الخميس، في الساعة 19:00، سيُعرض فيلم إيليا سليمان المتين، "الزمن الباقي"، في مهرجان الأفلام الدولي في حيفا. رُوحوا...
  • ليش الصياد ما ببوس الغزالة؟ (من يوميات نباتيّ)
  • مطلوب: غرفة صغيرة للكتابة. مواصفات: من 2×2 حتى 4×4. في عكا أو حيفا. طاولة وكرسي ونقطة كهربا. باب وشباك. المبلغ المقترح للايجار: حتى 300 شيكل (أحسن ببلاش). من يوفر لي الغرفة سأكتب له شكرًا في الرواية التي أعمل عليها (غسان بيرومي: بعدني بستنى). من شان النبي!!
  • حقيبةُ الكحل والزينةِ والأسرارِ الشهريّة/ على الكتف/ شفتانِ غليظتان في دوّارِ المنارة/ الأولادُ تمنَّوا الموتَ في شوارعِ تل أبيب/ النساءُ شتمنَ حظهنَّ العاثر/ وكلَّما مرت،/ يحترقُ الفلافلُ في الزّيت/ وينسى الحلاقونَ مقصّاتِهم على الرؤوس/ وتطيرُ مخيّلاتٌ فاسقة في شارع رُكَب. (قصيدة "مرور"، وليد الشيخ)

السبت، 26 سبتمبر 2009

السائح الجوّالي، عند نقطة تشارلي

"تشارلي تشيكبوينت". يتسخم!


أحسست بقليل من الخزي حين تداعى إلى ذهني أنّ هذه ستكون زيارتي الثانية إلى برلين، عاصمة فرحي الخريفيّ. كنتُ أنظر عبر شباك الطائرة إلى الأسفل حين قررتُ أنني سأتعامل مع نفسي بجدية هذه المرة وسأقوم بجولة سياحية في المدينة، كما يليق بأيّ كاتب يدّعي الفضول وحبّ المعرفة، ولن أقضي هذا المهرجان (أيضًا) في "خيمة الكُتاب (والكاتبات)"، أشرب النبيذ وأدخن السّجائر وأحرق عرض جميع الكتاب العرب الذين لم يُدعوا إلى المهرجان، أنا وجميع الكتاب العرب الذين دُعوا إلى المهرجان.

وشاءت الصدف أن تكون محطة انطلاق الحافلات السياحية في جولتها في المدينة لصقَ فندقي إلا "شربة سيجارة"، وكنتُ قد اهتديت إليها وأنا في جولتي الأولى بعد الوصول بساعة، إذ أنني أحبّ أن أكتشف في المدن مراكز الطوارئ التي يمكن اللجوء إليها بعد الواحدة ليلا: أماكن بيع التبغ والكحول. كنتُ فخورًا بقراري السياحيّ الجريء وقد تناقشتُه مع بعض الرفاق في "خيمة الكُتاب" في المهرجان، فاستحسنه الجميع وأثنوا عليّ إلا أنّني لم أجد فردًا صمدًا منهم يقبل بالقدوم معي. قلتُ في سرّي إنني أشكر الآلهة أنني لم أخلق مثل باقي الكُتاب، كسولا ومُحبًا "للتبحيط" (التبحيط: التصاق الطيز بأيّ جسم ثابت على الأرض والتوقع بأن يمرّ العالم كله من أمامك)، وأنني لا شكّ إنسان متميز وهبته اللات والعزة موهبة الكتابة والإبداع ولم تسرق منه نشاطه وحيويته وانتباهه إلى الأمور الأخرى في العالم غير القراءة والكتابة (سنتناسى للحظة المرة الـ 674 التي قررت فيها آخر سنة البدء بحمية طعام، ومعهد اللياقة الذي انضممت إليه قبل شهر ولم تطأه قدماي بعد وإصراري على التدخين وصعودي في الوزن وعزوفي عن النشاطات الاجتماعية وتفضيل الوحدة (بفتح الواو) على الوحدة (بكسر الواو)).

إستيقظت في التاسعة صباحًا ونزلتُ إلى الإفطار. وجدت حسن وسليمان ومحمود وعلوية. ورغم تبجّحي مجددًا بجولتي المباركة إلا أنّ تصريحي ضاع وسط مناكفات حسن وعلي، وبين تبرمات علوية من الألم في ظهرها وإصرار سليمان على أنّ العرب أمة أَمَة. قلتُ يا ولد ما لك إلا نفسك، وعليك بها إن كنتَ لها، فقمت واستأذنت ويممت شطر الحافلة السياحية، بعد أن حملت حقيبتي السوداء وملأتها بالماء والسجائر وكاميرا الفيديو ومحفظتي المحشوة بعشرين يورو وبعض الفستق وورقة عليها عنوان “h&m” لشراء الملابس لدُشّة التي على الطريق.


تشارلي نكبتنا
نقدتُ الموظفة التي تقف إلى جانب الحافلة 15 يورو عزيزة فبادرني السائق فورًا بإنجليزية متعبة: "أنت من إسرائيل"؟ تحرك الصدأ في مفاصلي وتنبه الفلسطينيّ المطارَد المعشّش في خلايا الشتات وقلتُ في نفسي: "موساد"! سألته عن سؤاله، فبرطم شيئًا بإنجليزية متحطمة وأشار إلى شعري. قلت: سأحلقه ابن الداعرة فور وصولي عكا!

تربعت في الطابق الثاني من الحافلة والهواء يداعب شعري، فأحسست بروعة قراري، رغم الازدحام الطلق من حولي والبرطمات بكل لغات بابل. تحركت الحافلة وبدأت المذيعة تنشد محفوظاتها عن برلين بالألمانية والإنجليزية تباعًا، وخُيل لي أنها تقرأ جملها التي تسابق الريح والتي تحفظها عن ظهر قلب، من كتاب بين يديها. وابتسمت أكثر وأنا أتخيلها تعيد الجمل المحفوظة عن ظهر قلب وهي "مُكرّة مُفرّة مُقبلة مُدبرة معًا" فوق جسد زوجها. هنا سفارة اليابان وهنا سفارة السعودية وهنا السفارة الإيطالية. بدأ "الآكشن" يزداد حين وصلنا إلى بنايتين كبيرتين متقابلتين قالت إنّ التي على اليمين كانت مقرّ الحكم في برلين الشرقية وتلك التي على اليسار مقرّ الحكم في برلين الغربية، والشارع الذي نسير فيه كان جدار برلين المشؤوم. وفجأة مررنا من قرب مقطع من الجدار لم يهدموه، بقي للذاكرة والتذكّر (ونحن لها!)، وفي نهايته تقاطع طرق صنعوا فيه نموذجَ الثكنة العسكرية الأمريكية التي كانت تسمى في السابق "حاجز تشارلي" (تشارلي تشيكبوينت)، وقد كانت المعبر بين برلين الشرقية والغربية أثناء الحرب الباردة وقبل إسقاط الجدار الخرائي.


شعرتُ بأهمية اللحظة وبثقل التاريخ يطحن كاهلي. وقد شاءت الصدف أن تتوقف الحافلة في نقطة استراحتها الثانية عند "تشارلي"، فهرعت بكاميرا الفيديو إلى الشارع وصورت الثكنة مع "زوم إن" فنيّ يعبر عن اختلاج مشاعري المتضاربة في صدري الذي لا يزال عابقًا بالدخان من سهرة الأمس. في طريق الالتفاف إلى الباص ثانية لمحتُ "كشك" يبيعون فيه قداحات مكتوب عليها "أحبّ برلين" فتذكرت حماي وأنه يحبّ جمع القداحات التي تحمل أسماء بلدان العالم، فدفعت له يورو ونصف اليورو ومشيت نحو الحافلة. لكنّ الحافلة كانت قد اختفت وعليها، في الطابق الثاني المشمس، حقيبتي التي فيها كلّ شيء؛ فسمعت أمي تصرخ من بيتنا في الجش: "راح الصبي"!


بلـّمتُ للحظة وبدأت بحساب الموقف بسرعة كما يليق بطالب سابق في قسم الحسابات: في جيبي ثلاثة يوروهات ونصف اليورو، في يدي كاميرا وفي يدي الأخرى قصفة زيتون، وأنا أمشي وأنا أمشي وأنا أمشي، ثم تحوّل مشيي إلى ركض متفائل إذ اعتقدت لوهلة أنّ الحافلة اختفت وراء الانعطافة القادمة ولا بدّ سألحقها لو أسرعت، فلما وصلت المفترق راكضًا لم أجدها لا عن اليمين ولا عن اليسار، ولم أشمّ لحظتها (رغم ضبط أنفي على مستوى حساسية كبير) بقايا الديزل في الهواء، فتوقفت حائرًا وتذكرتُ فورًا ابنتي "دُشة" التي ستولد بعد شهرين ونيف من دون أب، فأحسستُ بالبكاء سيغمرني إلا أنني تذكرت قول أبي وجدي وجدّ جدّي وجدّ جدّه، في مثل هذه الأوقات: "إجمد!"، فجمدتُ.


قوات التدخل السريع
وبعد أن جمدتُ، وقفت في الشارع وبدأت أشير إلى سيارات التاكسي. مرت أربع أو خمس حتى توقف تاكسي كانت تقوده امرأة. دخلت التاكسي وبدأت بسؤال سريع حول إذا ما كانت تعرف مسار الخط السياحي. نظرتْ إليّ بفرح غير مفهوم وبدأت ترطن بالألمانية. أعدت السؤال عليها فازدادت ابتسامتها وهي تعيد الحديث بالألمانية. قلت: أبسّط الموضوع. "إلى الفندق" طلبت منها، "فندق إلينغتون". سألتْ شيئا بالألمانية فأعدت: "فندق إلينغتون". سألتْ شيئًا آخر. كان على تلك اللحظة أن تكون اللحظة المناسبة والحاسمة كي أخرج من التاكسي وأسنفر بروحي باحثًا عمّن يفكّ الخط بالإنجليزية. ولكن ابتسامتها التي كانت ترافق تساؤلاتها الألمانية أشعرتني بالأمان وأنا في حرج من موقفي العسير، فبقيتُ.

من حسن حظي أن كرت الغرفة (المفتاح) كان في جيبي فأعطيتها إياه. نظرت إليه وصاحت مبتسمة "فندق إلينغتون!" وكأنني كنت أقول لها قبل لحظات فندق أبو العبد. كنت طوال الطريق إلى الفندق أجول بنظري في الشوارع، أراقب الحافلات السياحية التي تروح وتجيء بجحافلها، وكلما مرّت حافلة كهذه أحاول التركّز في وجه السّائق الذي يعمل في "الموساد"، إلا أنّ جهودي ضاعت هباءً، فاستسلمتُ وألقيت بجسدي على الكرسي الخلفي الوثير، وعملتُ بالحكمة الأثيرة: "إذا كنتَ غارقًا في الخرى، فتمتع بدفئه على الأقل"، وهكذا ارتخيتُ طيلة الطريق إلى الفندق ولم أفكر في مسألة محاسبة الرفيقة السائقة إلا عندما توقفت أمام الفندق.

أشارت السائقة إلى المرآة، فرأيت رقمًا بالأحمر يعلن: 10.6. استفسرتُ، فأعادت الإشارة إلى المرآة، ففهمت فجأة أنّ هذا الرقم الأنيق، الأحمر، الصغير الذي يلمع على طرف المرآة إلى اليسار السفلي هو العدّاد! "يحرق أخت المسرحية"، تمتمتُ بيني وبين نفسي، حائرًا بين أن أتعجب من ارتفاع الأجرة أو أتعجب من تقدم العلم والتقنيات في بلاد "شلايدين آخسين". أخرجتُ اليوروهات الثلاثة ونصف اليورو من جيبي وبدأتُ أصرخ على السائقة وكأنها صماء:


I will go to my room and bring you the money!


بدت السائقة متهيبة بعض الشيء من صراخي، ثم برطمت بعضًا من الألمانية فأعدتُ جملتي عليها، ولكنها ازدادت احمرارًا فازددتُ اخضرارًا (دائم الخضرة يا قلبي). في ثوانٍ انشحن الجوّ في التاكسي وبدأت أفكر في السجون الألمانية وهل هي متقدمة تكنولوجيًا مثل سيارات الأجرة، حين وجدت السائقة تسحب من يدي اليوروهات الثلاثة ونصف اليورو وتبرطم في وجهي شتيمة أعتقد أنّ ترجمتها إلى العربية يمكن أن تكون كالتالي (بتصرّف): "كس إم ربك يا منيك يا ابن المنيك!".


لم تسمح لي كرامتي الشرقية بمثل هذه البهدلة، خاصة من غربية-إمبريالية-مصاصة دماء الشعوب، فكنتُ على وشك أن أقتبس لها من كتاب "الاستشراق"، فعدلتُ حين تذكرت أنني لم أقطع سوى 100 صفحة منه نسيتها منذ سنوات، فأعدتُ يائسًا:


I will go to my room and bring you the money!


لم يبدُ عليها أنها تأثرت أو انفعلت، فحاولتُ بما تبقى من ماء وجهي وأنا أشير بأصبعي إلى أعلى، إلى سقف التاكسي:


Room! My room! Money, money…


حين ابتعدت التاكسي وأنا واقف في مدخل الفندق وأحد عاملي الاستقبال يقف وينظر إليّ بشماتة وهو يدخن سيجارته، أحسستُ بحزن كبير، فأخرجتُ في حركة سريعة البطاقة التي تحمل اسمي والخاصة بمهرجان الأدباء وعلقتها على صدري كيف يعرف هذا الأشقر الجميل من أنا وما أهميتي في السياق الثقافي المُعوْلم، وأشعلت سيجارة ووقفت إلى جانبه أبثّ دخانها بوقار. بعد برهة تذكرت: محفظتي! ما زالت في الحافلة!


(خلص تعبت، بعدين بكمّل...)


الجمعة، 18 سبتمبر 2009

"عجمي" والمرثية المفقودة


(تحذير: المقالة تكشف تفاصيل عن نهاية الفيلم والمفاجآت التي فيه، مما اقتضى التنويه)

يبهرك فيلم "عجمي" الجديد لحظة مشاهدته، ثم يصفعك، ثم تحتاج يومًا أو يومين كي تنجح في معالجته بهدوء وروية، خاصة بما يخصّ المقولة السياسية التي يخرج بها الفيلم. هو فيلم الازدواجية بجدارة: ازدواجية الإخراج (يارون شاني اليهودي واسكندر قبطي العربي)، ازدواجية التمثيل (ممثلون عرب ويهود)، ازدواجية التعريف (فيلم إسرائيلي-فلسطيني) وازدواجية المجتمع (يافا-اللد-الرملة-تل أبيب).

يطرح الفيلم قضية شائكة لم يسبق أن عُولجت بهذا الزخم في عمل سينمائي: وضع الفلسطينيين العرب في يافا (واللد والرملة) اليوم، واستحالة العيش في الظروف السياسية والمجتمعية التي أفرزها قيام دولة إسرائيل، بعد أن أدّت النكبة إلى قتل يافا واللد والرملة وتحويل هذه المدن من حاضرة مدينية ثقافية وسياسية إلى ضواحي فقر وجريمة، في الراهن الإسرائيلي اليوم. هي -إذا شئتم- تجليات النكبة بعد 61 عامًا: هذا ما قد يؤول إليه الفلسطينيون في إسرائيل وهذه هي المرآة التي ننظر من خلالها إلى مركز فلسطين التاريخي: بؤس وجريمة وضياع للمستقبل.

يتمحور "عجمي" في عدة قصص في مبنى كتابة سينمائي على نمط “mini plots”، أي الحكايات الصغيرة المتطورة لعدد كبير من الشخصيات، تجتمع كلها في تراكم حبكي نحو نهاية مكثفة لتصنع مقولة واحدة تراجيدية. لكن المشكلة الأساسية في الفيلم تتجلى في النهاية، حين تتضح معالم المفاجآت التي تحتويها: كنا نظن أنّ مالك (الشاب من الضفة الغربية) قُتل برصاصة من ضابط الشرطة اليهودي (داندن) لنكتشف أنّ من قتل بالذات هو الضابط برصاص الطفل نصري؛ كنا نعتقد أن "بينج" العربي قتله ضباط الشرطة بكبسية على بيته لنكتشف أنه مات بجرعة كوكائين (كريستال) زائدة؛ كنا نعتقد أنّ لا علاقة بين الجندي المخطوف (أخ ضابط الشرطة) وبين قصص يافا، إلا أننا نكتشف أن الساعة التي كان يود مالك أن يهديها لمشغله "أبو الياس" تتبع للجندي المخطوف الذي تُكتشف جثته لاحقًا.

هذه الانفراجات في الحبكة (من ناحية معرفية) تقود المشاهد إلى بعض الأسئلة الملحة: يبدو أن الشرطة تقوم بعمل ممتاز في يافا واللد والرملة، ويبدو أنّ الضابط هو إنسانيّ من الدرجة الأولى، رغم كلّ شيء. في هذا بعض التسطيح وأعتقد أن فيه رهانًا مغلوطًا من ناحية سياسية في الوضع الراهن، ولا يشفع للمخرجيْن أنّ الفيلم محبوك ومصنوع بمهارة عالية. فالسينما ليست وضعية الكاميرا وإتقان السيناريو والتصوير، فقط، بل هي –وربما بالأساس- المقولة التي من أجلها صُنع الفيلم؛ فيلم بلا مقولة هو ترفيه مصقول و"عجمي" ليس فيلم ترفيه على الإطلاق. لا يمكن الاختباء وراء الفنية العالية والجرأة الهائلة في الطرح الاجتماعي ولا يمكن الاكتفاء بمقولة: "ما بدنا كل شي ينحضر من مفهوم سياسي"، ولكن ما العمل والفيلم سياسي من الدرجة الأولى، شاق ويضغط على الجروح المفتوحة بألم.

في أحد مقاطع الفيلم يهبّ أهل الحي العرب للدفاع عن مطلوب للشرطة من حارتهم ويصدون التحريين، فيسأل أحد الضباط بيأس: لماذا يمنعوننا من اعتقاله؟ نحن نريد اعتقال مجرم يبيع المخدرات لأبنائهم؟... الجواب يأتي بسرعة من أحد الضباط في الجلسة: إنهم ببساطة يكرهوننا. وهذا صحيح مئة بالمئة: نحن نكره الشرطة الإسرائيلية؛ إنها شرطة عنصرية وقامعة وقاتلة وتتعامل مع العرب باحتقار وكراهية. الشرطي ليس "في خدمة الشعب" بل في خدمة قمعه والنيل منه. هذه هي الحقيقة الأساسية في الفيلم وأعتقد أنّ مخرجيْه فوّتا فرصة ذهبية في تطوير هذه الثيمة، ليفقدا القدرة على صوغ لائحة الاتهام الكامنة في جوهر الفيلم.

هل أحببتُ الفيلم رغم هذا؟ الحقيقة أنني أعيش ازدواجية قد يقع فيها الكثيرون، أيضًا. من جهة نحن نعلم أنّنا لسنا ملائكة وفينا المجرمون والقتلة والفتوّات، ومن جهة أخرى نحن نعلم أنّ يافا كانت ستكون أجمل وأبهى وأكثر تطوّرًا من تل أبيب لولا قتلها في عزّ شبابها. من هنا، لم ينجح الفيلم نهائيًا في كتابة المرثية المطلقة ليافا، ولكنه على الأقل بدأ بكتابة تأبينها. كان هذا التأبين سيكون أبلغ وأصدق لو أنه تركز في القاتل أكثر وربما، وعذرًا على الفظاظة، بصق في وجهه.

"عجمي" فيلم مشغول بحنكة وذكاء (رغم الحاجة إلى التقصير)، وخسارة أنه لم يُولِ المزيد من الذكاء والفطنة لأبعدَ مما تقتضيه اللقطات المؤثرة في أزقة يافا.


الجمعة، 4 سبتمبر 2009

ثرثرات فوق السّور

  • ينجح الفيلم الوثائقي "بلعين حبيبتي"، في مقاطعه الممتازة، في أن يُراكِم الواقع الفلسطيني العبثيّ إلى درجة اتضاح عبثيته. فالعبثية (الأبسورد) عصية على التعريف وعلى التجسيد بالوسيط المرئي-المسموع. فمجرد أن تقول إنّ هذا شيء عبثي يجعل العبثية تفقد طغيانها غير المنطوق به. عليك أن ترافق مسيرة "اللجنة الشعبية" في بلعين برفقة "اليساريين اللا صهاينة" والأجانب المتطوعين الذين حوّلوا النضال ضد جدار الفصل العنصري إلى قصيدة جديدة في ديوان "حالة حصار". المؤسف أن تستغل السلطة الفلسطينية و"فتح" نموذج بلعين للقضاء على المقاومة. نأمل ألا ينجحوا. حاليًا: "بلعين حبيبتي" هو شهادة حية لكلّ من يرغب في توثيق أحد جوانب القضية الفلسطينية على الأرض؛ فيلم متماسك في معظمه، محبّ للناس الذين يوثقهم ولا يخجل بعدم حياديته.

  • هل أنا الوحيد في العالم الذي انتبه إلى أنّ ولاية "أبي مازن"، قبّح الله "فتحَه"، انتهت منذ أشهر وأنه "رئيس" (قال يعني) غير شرعي؟ ولماذا لا يغرب هذا الشيء السّخيف عن فضاءاتنا؟ لقد وصل بي اليأس أنني اشتقت هذا الصباح إلى عرفات!

  • تلعثم "أبو الجار" حين فتحنا سيرة الصيام في المصعد. سألني عن الصيام فقلت له "تمام"، ولما سألته قال "برضو تمام". سألته لماذا لا يصوم؟ قال: "جربت زمان بس اكتشفت إنو الواحد يا بتديّن وبعمل كل الفروض يا بلاش". حييتُ صراحته وشجاعته، وقلت له كلامًا مشابهًا (تقريبًا؛ سأعفيكم من التفاصيل). حين هطلتُ في طابقي قلتُ بأوتوماتيكية عربية كلاسيكية: "تفضل". أجاب بأوتوماتيكية عربية متوجّسة: "مرة تانيه جارنا، الدنيا رمضان"...

  • كانت الموظفة على الخط الآخر لطيفة جدًا. للحظة اعتقدت أنني اتصلت ببدالة شركة "جوال" الفلسطينية وليس ببدالة شركة "بيلفون" الإسرائيلية. فالرفيقة الخليوية صفعتني بعد الترحاب بجملة "خليك معي هلأ". هلأ؟؟ جديدة هاي. فما أعرفه أنّ "عرب الداخل" (أو عرب الشمينت) معروفون في الضفة بـ "عرب إسّا"، إشارة إلى كلمة "إسّا" العامية الدارجة، وهي حكر وتمييز لنا، الفلسطينيين المرابطين (والمربوطين) في أرض الأجداد. توجّستُ من كلمة "هلأ"، وفكرت في ثانية بأنّ شركات الخليويات الإسرائيلية بدأت بتبني نموذج "آوت سورسينغ" (كيف بَلا؟)، أي تشغيل عاملين بأجور رخيصة في دولة نائية (نائمة) لاستقبال اتصالات المتصلين، أي أنّ الرفيقة الخليوية التي تتحدث معي تجلس الآن في بيت ساحور أو طولكرم وليس في مركز "بيلفون" في عكا أو الكريوت. ولكن بعد أخذ وردّ عادت رفيقتنا الهَلأوية/ إلى الإسّوية/ فشعرتُ بخوشبوشية/ وسألتها عن إمكانية/ لتخفيض سعر الفاتورة الشهرية. فأجابت: "إضحك في عبك على الدّيل اللي إنتا ماخدو"، فضحكتُ، فأنهتْ: "بتحبّ خدمة تانية بليز؟"... "بليز"؟؟ جديدة هاي!

  • "من نسج الخمرَ وشاحًا/ للنهديْن؟/ من أطلق أسرابَ الغزلانِ/ على الردفيْن؟// بالنار يُطهّرني/ هذا السّحر الكامن/ في الجفنيْن// لأرى خارطة الجنّة/ ما بين القرطيْن"- قصيدة "خارطة الجنة" للشّاب الأزلي الثائر الشاعر حنا أبو حنا، من ديوان "عرّاف الكرمل"، الذي سأعود إليه قريبًا في مقالة موسّعة. حاليًا علينا أن نعرف وبسرعة "من نسج الخمرَ وشاحًا للنهدين"!

  • العربي مشتهي يكون أثيوبي هَاليومين.

  • العربي مشتهي يكون أثيوبي.

  • العربي مشتهي يكون.

  • العربي مشتهي.

  • العربي.

  • .

الأربعاء، 12 أغسطس 2009

FACEBOOKLESS


إكتشفتُ، في غمرة حياتي الديجيتالية، أنني صرت أصرف الكثير من الوقت أمام الحاسوب في العمل مقابل بريدي الكَهربيّ وصفحتي في "فيسبوك"، إلى جانب الترجمة والكتابة (وطرق مواقع لا تلائم الجوّ الداهم للشهر الفضيل). واكتشفتُ أكثرَ أنّ مجمل الوقت الذي صرتُ أقضيه في متابعة "فيسبوكي" وتغذيته وصيانته والحفاظ على أواصر القربى مع "أصدقائي" الـ 493 الذين اكتسبتهم في نصف سنة، أخذ يتزايد يومًا بعد يوم، حتى صارت "ديوانة الفيسبوك" تحرق بضع ساعات من النهار –لا أملكها- فصرتُ كقول الشاعر:

سقى الله يومًا قَصَّرَ اللَّهوُ طُولَهُ / وظلَّتْ خياشيمُ الأَباريق تَرعُفُ
بروْضٍ تَمشَّى بينَ أَزهارهِ الصَّبا / فتحسبُها مذعورة ً حينَ ترجفُ

واكتشفتُ أكثرَ وأكثرَ أنني أشاطر 493 "صديقًا" شؤوني اليومية وأفكاري وصوري وأفلامي وما تقذفه حمم البريد الكهربيّ كلّ يوم، رغم أنني بالكاد أعرف 100 شخص من هؤلاء "الأصدقاء" شخصيًا! فاستغربتُ من هذه "الخُوشبوشيّة" التي زججتُ فيها نفسي، أنا الأنتي إجتماعيّ بجدارةٍ- فتأملتُ واستغربتُ.

وفي قرار خاطفٍ، سريع، لا رجعة عنه، قمتُ ظهيرة أمس بقطع الكهرباء عن حسابي في حديقة الوجوه هذه، معلنًا انتهاء علاقتي به (ولو إلى حين)، وذلك بين مستنكر(ة) ومستغرب(ة) ومستهجن(ة). وقد مضت عليّ حتى الآن 48 ساعة بالتمام والكمال وأنا facebookless، لا "ستاتوس" أغذّيه ولا "نُوتس" أضيفها ولا "إنبوكس" أنكشه ولا "أصدقاء" أضيفهم، ومع هذا، فأنا لا أشعر بأيّ نقص عضويّ أو نفسانيّ أو مَشاعريّ، وعجبي؛ فالنصف سنة التي ولّت أوهمتني بأنّ "كتاب الوجه" هذا غرض عصرانيّ ضروريّ للإنسان "الأبْديتيد" في حياتنا اللاهثة، مثل الهاتف المحمول والبريد الكهربيّ وقنوات الدِّش ومفاتيح السيارة الجديدة المتدلية من طرف جيب البنطال.

ومن دون أن أغرقكم بتنظيرات قد تعكّر مزاجكم حول "الفيرتوال" الذي حلّ محلّ "الواقع" وحول "السايبر سبيس" الذي حلّ محلّ "حيالله سبيس"، يسعدني أن أقول لكم إنني بخير، والجميع يُقرئكم السلام من أرض التخلف والرجعية، هنا في لابتوبي الذي لم يخشّ "فيسبوك" منذ 48 ساعة، ولم أسمع منه حتى الآن أية احتجاجات أو اعتراضات، اللهم إلا حشرجات البطارية المهترئة ومروحته التي تنافس المكيّف بهوائها الملتهب.

إذًا، فعملية استئصال الورم الخبيث لم تكن صعبة، رغم أنني حضّرت نفسي لنوبات "كريز" يرتفع فيها ضغطي وتتزغلل عيناي وتدبّ قشعريرة المدمن في بدني، طالبًا جملة "ستاتوس" فذلكية أو "نوت" جديدة تخلب الألباب أو رضًا ساديًا لذيذًا في تجاهل "طلب صداقة" من شخص(ة) ثقيل(ة) الظلّ، ثخين(ة) الزناخات. لم ألحظ حتى الآن عوارض فطام أو توتر في الكلى، ولم يغزّني بنكرياسي ولم يخذلني كبدي، وها أنا أكتب لكم من أرض اليباب، من الربع الخالي، حيث الحياة بلا تعقيبات تستدرّ التعقيبات، وصور عائلية حميمة تستدرّ تعقيبات حميمة.

وقد إلتاعت حماتي الفيسبوكية، كرّم الله ورقَ دواليها، حين رأتني أضيف صورة شذا الأولتراساوندية ("جَنينتنا" ابنة الستة أشهر بتوقيت ما قبل الولادة)، فبسملتْ وحوقلتْ واستعوذتْ وكبّرتْ، ثم عاتبتْ: "ديروا بالكو من صيبة العين!!" وهكذا، وللمرة الأولى، بدأت بتفحّص قائمة "أصدقائي" في "فيسبوك"، متقصّيًا أثر شخص(ة) "بعيون زُرق وسنان فُرق"، ثم تذكرتُ أنني لا أؤمن بالحسد وعيونه، وبأنّ العرب وصفوا الحاسد على أنه ذو "عيون زرق وسنان فرق" من أجل القافية فقط، كما يحبّ شعب العنتريات، فانصرفتُ عن هذه المخاوف ونبذتها (رغم أنني لم أضع صورة "دُشة" مرة أخرى؛ ولا تنام بين القبور...).

وقد بدأت نفسي تعوف هذا الـ "فيسبوك" منذ أكثر من شهرين، حين تيقنت، في إشراقة ليلية مظلمة، أنّ هذه المساحة الفيرتوالية صارت، تحت أناملنا، "ديوانة" عرب جديدة، نلتقي فيها للقلقة والدردشة وتمضية الوقت، تمامًا كما يلتقي معدومو الإنترنت في المقاهي الشعبية و"الكوفي شوبز" وأرصفة الطرق ومكاتب العمل والحافلات والتاكسيات والطائرات لطقّ الحنك. والحقيقة أنني لم أستفد من "فيسبوك" شيئًا يُذكر، اللهم إلا تعرفي على كاتب(ة) أو اثنين جيدين، وقد يعود هذا إلى عدم قدرتي على تسخيره بما يكفي من المهنية، أو إلى أنني أنتمي إلى جماعة لا تريد تسخيره لأمور تتجاوز "صباح الخير للجميع!" و"فقت اليوم مبعوص" و"طالعه على استراحه..." (وأنا مال أهلي؟!).

وكي أعفي الناس من أمزجة "ستاتوسي" وكي أستريح من أمزجة "ستاتوسهم"، سحبت الفيشه، فانسحبتْ وانسحبتُ.

فهل سأصمد؟؟


الاثنين، 27 يوليو 2009

لا غالب إلا هلسا



غالب هلسا؛ هذا الاكتشاف!

أحاول الآن أن أتذكر تفاصيل سيرتي الذاتية، تلك السيرة التي أدّت بي إلى عدم قراءة غالب هلسا حتى نهايات الرابعة والثلاثين من عمري. كيف حدث أنني كنتُ جاهلاً إلى هذه الدرجة ولم يوبخني أحد حتى اليوم؟ كيف يحدث أن يحرق الإنسان 34 سنة وعشرة أشهر من دون أن يقرأ حرفًا واحدًا لروائيّ كبير كهذا؟ هل الأهل هم المشكلة؟ المدرسة؟ الجامعة؟ الأصدقاء؟ المحررون الثقافيون في الصحف؟ سياسة إسرائيل العنصرية؟ تآمرات دحلان؟

قبل يومين كنت في البقالة وسألني صاحبها "كيفك جار؟"... قال إنّ الحرّ ابن زانية وقلتُ بل إنه ابن مراغة، ثم مسحنا العرق عن جبهتينا. أحسستُ في نظرته ازدراءً ما. كنتُ انتهيتُ للتوّ من قراءة "الروائيون"، رائعة هلسا، وكنت لا زلت أفكر في انتحار إيهاب وفي شخصية زينب، وأحسستُ بأنّ جاري، صاحب البقالة، يعرف أنني لم أقرأ غالب هلسا حتى اليوم.

حاولتُ أن أتفادى نظرته المليئة بالتوبيخ، ولكنني لم أستطع. كنت على وشك أن أقول له بابتسام المُحرَج: "أما غالب هلسا إشي فلع، لا؟" عندما رأيته يسألني: "سوفت وَلا بوكس؟" أجبته: "سوفت". أنا أحبّ سجائر "الجمل" في تغليفها الورقي (الناعم) وليس في علبة الكرتون. أحسّ بهذه الورقية الناعمة نوعًا من التآمر على التغليفات المتبعة، على قساوة الكرتون الذي يمنع عنك تحسس السيجارة حتى وهي في العلبة (سأشعل سيجارة).

غالب هلسا، هذا الاكتشاف!

كنت بحاجة إلى رسالة بريدية من صديقي الجديد علي عيسى، المترجم، كي أبدأ بسبر أغوار هلسا. نحن نتآمر، علي وأنا، على مشروع ترجمة خاص بي، وقد أشركني في إحدى رسائله باستمتاعه برواية "سلطانة" لهلسا. قلتُ: "باطل عَ الرجال!" وبدفعة واحدة استعرتُ من المكتبة ثلاثة مجلدات كبيرة يتعدى وزنها الخمسة كيلوغرامات هي أعمال هلسا الروائية، الصادرة في مشروع هائل حقيقة عن دار "أزمنة" في عمان. تحفة للقارئين.

في طريق العودة أحسستُ بأنّ جاري في العمارة، عضو لجنة البيت، يقترب مني من بعيد، ورأيته يتأهب للتوجه إليّ. أحسست بثقل الموقف وقلت: عليّ وعلى جيراني! عندما اقترب مني قاب فحجتين أو أدنى بادرته مسرعًا:

"أما "سلطانة" ممتازة!"

نظر إليّ باستغراب وأجاب مترددًا:

"هاي اللي سكنت في الطابق الخامس؟"

طابق خامس؟؟

"بالنسبة لرسوم لجنة البيت جار... عليكو أربع أشهر."

وعدته بدفع المتأخر قبل أن يتورم، وفكرت وأنا في المصعد أن هلسا كان سيدخل هذا الحوار في رواية "الروائيون" عن الطبقة البرجوازية الصغيرة التي تبتعد عن الشعب وتعادي الشيوعيين. في البيت وجدتُ المجلد الثخين (تسعمائة وثمانين صفحة!) ينظر إليّ برضا كبير لأنني نجحت في قطعه بأسبوع. بقي مجلدان قلتُ لنفسي، ولكنني لم أقرأ مسرحية واحدة على الأقل هذا الأسبوع، كما وعدتُ نفسي منذ أشهر- وكما أفعل.

ستكون طامة حقيقية حقا لو اكتشفت أن هلسا كتب للمسرح. عندها سأعتزل التكتكة على اللابتوب (البعض يسميها بعبصة) طيلة اليوم وسأصير مدقق حسابات، كما حلم أبي دائمًا!


الاثنين، 20 يوليو 2009

أنضج أفلام مسيرته الفنية: إيليا سليمان عالقاً في «الزمن الباقي»


بعد «سجلّ اختفاء» (١٩٩٦) ثم «يد إلهيّة» (٢٠٠١)،
البحث متواصل عن لغة تلائم الرواية: إنّها «لغة البقاء»



اللغة ـفي وجودها وغيابهاـ هي الباقية في «الزمن الباقي» الذي قدّم عرضه الأوّل في رام الله قبل أيّام. «الزمن الباقي» انتهى منذ سنين، وما بقي هو الاستعادة والتأمل: هل سقطت الناصرة فعلاً أم استسلمت؟ وهل يعرف حقاً جندي جيش الإنقاذ أين تقع طبرية؟ التأمل الساخر اللاذع الذي لا يعترف بالنوستالجيا ولا بضرورة التذكّر: الذاكرة الفلسطينية ليست واحدة، والمتذكرون ليسوا متشابهين؛ إيليا سليمان (١٩٦٠) هو واحد منهم... لكنّه لا يبكي لدى تذكر سيرته، بل يضحك ألماً بملء سخريته.

ما يفعله سليمان في «الزمن الباقي» أنّه يعيد صياغة اللغة، لغة التذكر ولغة الحكي. لغة العادي اليومي، لغة السياسة، لغة البقاء. أيّ بقاء يصوره لنا سليمان؟ إنه بقاؤه هو، فالفيلم قصته: قصة والده زمن النكبة وبعدها، قصة العائلة والأم والناصرة، قصة «البلد». وما زال مشروع سليمان السينمائي يتطور في هاجس مُلحّ: كيف يروي الفلسطيني قصته؟ بأي مفردات؟ إنه يبحث عن لغة للرواية، لغة سينمائية «تلائم» الحدث وواقع الحال.

لا شكّ في أنّ «الزمن الباقي» هو من أنضج أفلام سليمان حتى الآن، ولا شكّ في أنّه أفضلها من الناحية السّردية والفنية. سليمان يملأ الفيلم بالحوارات بين الشخصيات (نسبياً)، وهو تحوّل لافت في مسار صاحب «سجل اختفاء» و«يد إلهية». ومع هذا، يظلّ الصمت (عدم الكلام) هو الحوار الأتمّ والمتواصل. وعلى هذا الصمت الطويل الصاخب، رُكِّب شريط صوتي قد يكون من أجمل ما شهدته السينما العربية وأغناه. الفيلم طافح بالموسيقى والأغاني التي كانت نَفَس الفترة وكلامها: عبد الوهاب، أسمهان، ليلى مراد، نجاة، وصباح فخري. فإذا بالنص يتحاور مع الصورة والموسيقى، خالقاً حالة سينمائية متصاعدة، متينة.

ينقسم الفيلم إلى ثلاث مراحل تاريخية: النكبة، السبعينيات وأيامنا الراهنة (الناصرة ورام الله). نجح سليمان في نقلها بمهنية عالية بواسطة الموسيقى والتصميم الفني للفيلم (شريف واكد). إنّها محطات مفصلية في روايتنا الفلسطينية، وبالأخصّ لفلسطينيي الداخل. وقد نجح سليمان في انتزاع الناصرة وحيفا والجليل والمثلث من براثن التعريفات (الإسرائيلية) الجديدة، ليعيدها إلى سياقها الفلسطيني الأصلي. السياق الذي تاه ويتوه في معمعة التقسيمات السياسية الحاليّة التي فرضها منطق المحتلّ. إنّه ردّ اعتبار لنا، لفلسطينيي الجليل والمثلث والنقب: من هنا مرت النكبة، من بيوتنا وأراضينا وبلداتنا.

بل إن إيليا سليمان يذهب أبعد من ذلك. رأيه أكثر حدة: النكبة ما زالت مستمرة، وهي تشوّهنا. تشوّه لغتنا وحاضرنا ومستقبلنا: الجار السّكّير (طارق قبطي الممتاز) الذي غرق في قنينته، وفي كل سكرة يخرج بحلّ سحريّ آخر؛ الجهاز التعليمي الذي أجبر آباءنا على غناء «بعيد استقلال بلادي/ غرد الطير الشادي»، وتعاون معه المديرون والمعلمون من آبائنا أيضاً. يقسو هذا السينمائي المميّز، وينكأ الجرح بلا هوادة. إنه فلسطيني غاضب وخائب الأمل، إلا أنّ غضبه يُترجَم سخرية مُرةً تنتج فكاهة غريبة، سوداء قاتمة. فكاهة فلسطينية. هل يمكن الضحك وأنت تشاهد توقيع رئيس بلدية الناصرة على وثيقة الاستسلام في 1948، والصورة التي التقطها مع الحاكم العسكري؟ هل هذا ممكن ومسموح؟

وإذا كانت الكوميديا هي «التراجيديا مضافاً إليها الزمن»، فهل يمكن في «الزمن الباقي» (والمتبقي) أن نضحك على جيش الإنقاذ الذي لم ينقذ شيئاً؟ وعلى وضع فلسطينيي الداخل، بكل تشويهاته الثقافية والاجتماعية؟ هل ما بقي لنا هو الشبان العرب الثلاثة في المشهد الأخير، يلبسون مثل «موسيقيي الراب» مع كوفيات وشارات النصر؟ هل هي مقاومة جديدة عصرية؟

الفيلم يبدأ بمشهد غريب: سائق تاكسي يهودي يُقلّ سليمان من المطار، إلا أنّ عاصفة قوية تهبّ فيتوقف السائق ويعلن عدم قدرته على الاستمرار في السفر، لأنه «لا يعرف أين هو». سليمان يجلس في الخلف، في العتمة، صامتاً، لكنه يقول لنا بهدوء: اليهودي لا يعرف المكان ولا يعرف الوصول إليه، وأنا (نحن) عالق معه!

كلنا عالقون في «الزمن الباقي». فلنضحك قليلاً...


(رابط المقالة في "الأخبار" البيروتية)


الثلاثاء، 7 يوليو 2009

الحاسة السادسة

اللمس. يدها عليّ، يدي على شعرها، على بطنها، قدمي على قدمها، يدها تعبث بي، يدي تعبث بها.

اللمس كحاسة سادسة، تتعدى الحاسة الخامسة المعتادة، المألوفة. البحث عن خصوصية في اللحظة، في اقتراف الملامسة، في الاستحواذ على الجسد. ألمسكِ فأنت لي. بين يدي، ليس مجرد التصاق اللحم باللحم، بل إعلان نوايا: أنا أتحسّسك لأنك لي، فريستي، أشمكِ بيدي، أعبث بكِ بيدي. ألمسكِ لأنني سيد جسدك. تلمسينني لأنك سيدة جسدي.

الحاسة المهملة، اللمس. القدرة على استشعار الحرارة، البرودة، الرغبة، الصدّ، القربى، البعد، الشهوة، الرطوبة، الجفاف، العرق، السوائل، سوائلي عليها، سوائلها عليّ. ألمس جسدها لأنه مفتاح اللقاء. كيف يبدأ اللقاء من دون لمس؟

ألمس وجهها وهي تمتصّني. تلمس وجهي وأنا أمتصّها. الرائحة في الأنف مثل الرعشة في اليد: الإثنان يهيّجان، اللمس يؤكد الهيجان: ها هو حاصل أمامي!

ألمس ما بان من جسدها وألمس ما تحت الثياب. الثياب لا تفسد اللمس بل تقويه. تعبث اليد بالملابس وتستقرّ فوق العضو (أيّ عضو) المختبئ. إنه عضو مختبئ الآن ولكنه في متناول اللمس. عضو مستتر تقديره اللمس. أتتبع الجغرافيا، أمرّ على التضاريس فهي مكشوفة بضوء يدي، هنا تدويرة وهنا انخفاض وهنا ارتفاع. اللمس دليلي السياحيّ.

اللمس لغة التآمر. لغة المشاكسة التي قبل، والهدوء الذي بعد. إصبعي تحفظ متاهات جسدها وإصبعها تحفظ متاهات جسدي. اليد تلمس، ولكنّ اللسان يلمس أيضًا. والثديان. والعجيزة. و"الذكر". و"الأنثى". اللمس يملأ الأمكنة فهو إذًا المكان. مكان اللمس. غابته الكثيفة. الجّسد.

اللمس هو الجسد وباقي الحواس هي تعقيبات عليه.

ألمسها وتلمسني. هكذا نحن، متلامسان.


الثلاثاء، 9 يونيو 2009

الإعلام الإسرائيلي ربح الانتخابات اللبنانية



مَن يقرأ الصحف الإسرائيليّة الأساسية الثلاث («هآرتس»، «يديعوت أحرونوت» و«معاريف»)، صباح أمس الاثنين، يخال لبنان جزءاً من إسرائيل أو إسرائيل جزءاً من لبنان. لا أذكر متى أولت جريدتا «يديعوت» و«معاريف» صفحتها الأولى والصفحات الداخلية الأولى لشأن عربي ـــــ دولي في غير سياق عمليّة تفجيرية أو عملية مقاومة أو حرب.

«معاريف» وضعت صورةً كبيرةً للأمين العام لـ «حزب الله» حسن نصر الله مع عنوان حاسم: «نصر الله: خسرنا». أمّا الصفحات من 2 إلى 4، فجاءت كلّها مخصّصة للانتخابات اللبنانية. وفي «يديعوت»، وضعوا على رأس الصفحة الأولى «نيغاتيف» أسود حمل عنوان: «تقارير لبنانية: حزب الله خسر». أما الصفحتان الرابعة والخامسة، فقد تناولتا موضوع الانتخابات. وفي «هآرتس»، وُضعت صورة كبيرة احتلّت الصفحة الأولى، وتصدّرها خبر رئيس عن الحدث اللبناني، إضافةً إلى تخصيص الصفحة الثانية كلّها (قطع كبير) للموضوع.

الانتخابات في لبنان؟ منذ متى تستأهل شؤونٌ مدنية ــ سياسية في بلد عربي كل هذا الاهتمام؟ ماذا حدث للصفحات الخلفية المعتمة؟

لا يمكن تفسير هذا إلّا من خلال منظور واحد ووحيد: إسرائيل تتعامل مع الانتخابات اللبنانية كمسألة أمنية محضة. وإذا كانت المسألة أمنيةً، فهي على رأس سلّم الأولويات طبعاً. هذا هو سرّ الاهتمام، وإلّا فلم يكن الموضوع ليحظى بأكثر من خبر عابر في أسفل الصفحة العشرين.

إسرائيل ـــــ وإعلامها ـــــ يريان في لبنان (جنوبه ومركزه) جبهةً إسرائيلية، تطلق بشأنها التقديرات والتحليلات، تبشِّر وتنذر، تبني السيناريوهات وتدعم التيارات وتطلق الوعود والوعيد. هذه مسلكيّات دولة ترى في نفسها وصيةً أو مسؤولة عن دولة أخرى. هذه ليست وصاية كولونيالية عادية؛ إنّها وصاية أمنية ـــــ سياسية تنقسم إلى قسمين: قسم الحرب والدكّ والتدمير، وقسم الدعاية والترويج و«الدبلوماسيات»، بين دكّ ودكّ.

القنوات الثانية والعاشرة والأولى، المحطّات الإسرائيلية الكبرى كلّها تعاملت مع الانتخابات اللبنانية على أنّها حدث مفصلي إسرائيلي: المعلّقون على الشؤون العربية احتفوا بالانتخابات، وحلّلوها كما لو أنهم يتحدثون عن «كديما» و«العمل». المشكلة تظل في الجهل المطبق لدى الشعب الإسرائيلي في ما يخص ثنايا وخفايا -وحتى ظواهر- السياسة اللبنانية. وبهذا تظل الكلمة الفصل في الشأن للمعلِّق «المستعرب»، فهو يفهم على العرب»!

إنّه انفتاح في ضمن أجندة أمنية بحتة وضيقة، وهو يدخل ضمن استراتيجيات الحرب المتواصلة على لبنان: في لبنان، نقصفهم بسلاح الجو والأرض... وفي إسرائيل نقصفهم بتحليلات المعلّقين والمحذّرين من «حزب الله» وشركائه... حتى يحين القصف القادم!


(نُشرت هذه المقالة في "الأخبار" اللبنانية، الثلاثاء 9 حزيران 2009)



الخميس، 21 مايو 2009

الأدب الفلسطيني في الداخل محور ندوة أدبية وسياسية في نابولي




* مشاركة الكاتب علاء حليحل في الندوة واستعراض كتاباته وترجماته إلى الإيطالية *


عُقدت في مدينة نابولي الإيطالية، السبت الماضي، ندوة أدبية وسياسية احتفاءً بصدور رسالة الدكتوراة البحثية التي أنجزتها الباحثة والناشطة السياسية إيزادورا ديامو، تحت عنوان: "الفلسطينيون في إسرائيل- الهوية الثقافية". وشارك في الندوة الكاتب علاء حليحل، د. شفيق قرطام، رئيس الجالية الفلسطينية في نابولي، صبري عطية، السفير الفلسطيني في إيطاليا، ومختصون إيطاليون في السياسة الشرق أوسطية، وأدارها الصحافي الإيطالي رومولو ستيتشي.

وتناولت رسالة الدكتوراة المنجزة أخيرًا الأدب الفلسطيني في الداخل في المرحلة الراهنة، مركزًا على الكتابات الشبابية والجيل الجديد منذ مطلع التسعينيات وحتى اليوم. وتناول البحث كُتابًا وكاتباتٍ، منهم: سهير أبو عقصة-داود، بشير شلش، أيمن كامل إغبارية، عدنية شبلي وهشام نفاع. وقدّمت ديامو مداخلة خلال الندوة تناولت فيها رسالتها للدكتوراة وأسهبت في استعراض الكتاب والكاتبات الفلسطينيين من عرب الداخل وتعريف الجمهور بهم.

واستعرضت ديامو في الرسالة المنشورة، مطولا، الكتابات القصصية والروائية لحليحل ونشرت بعض القصص مترجمة إلى الإيطالية، منها: "زوجي سائق باص"، مقطع من رواية "السيرك" ومقاطع من الرواية الأخيرة "الأب والابن والروح التائهة"، وغيرها. وقرأ حليحل خلال الندوة مقاطع من كتاباته بالعربية وأجاب على أسئلة الحضور، فيما قرأ ممثلان قصتيْن من تأليفه مترجمتيْن إلى الإيطالية.

وتناول د. قرطام في متن الندوة موضوعة العرب الفلسطينيين في إسرائيل، مشددًا على المراحل التاريخية التي مرّوا بها منذ قيام دولة إسرائيل، ومتوقفا عند محطات هامة مثل "يوم الأرض"، الذي شبّهه قرطام بـ "سقوط الباستيل" بالنسبة لعرب الداخل، من ناحية أهمية هذا اليوم في تشكل الوعي الوطني والقومي للأقلية العربية الفلسطينية.

وألقى السفير الفلسطيني عطية كلمة ترحيبية أشاد من خلالها بجهود ديامو المستمرة في مجال الثقافة الفلسطينية وأثنى على دورها السياسي الكبير الداعم للفلسطينيين ولقضيتهم في نابولي وإيطاليا عمومًا.


الثلاثاء، 5 مايو 2009

مين أنا؟




(مقطع من مسرحية "خبر عاجل" من تأليفي والتي ستبدأ عروضها في 12 أيار الجاري في مسرح "الميدان" في حيفا... المقطع يدور بين رنا، مستمعة على الهواء وبين عضو الكنيست شاكر السيد الموجود في استوديو التلفزيون... المسرحية من إخراج عامر حليحل وتمثيل: ميسرة مصري، شادي فخر الدين، حنان حلو، دريد لداوي وعنات حديد.)


رنا/
مين أنا؟... عربية، إسرائيلية... مش إنتي بتفهم بالسياسة؟

شاكر/
إنتي طبعًا يا أختي فـلسـ...

رنا/
لإنو أبوي بقلي إنو إحنا إسرائيليين وإمي بتقللي إنو إحنا عرب.

شاكر/
يعني يا أختي شوفي...

رنا/
بس أنا حاسة إني لا هاي ولا هاي.
شاكر/
طبعًا، إنتي فلسـ...

رنا/
يعني لازم الواحد يكون عربي أو إسرائيلي؟ بنفعش أكون عادية، هيك يعني خوش بوش؟

شاكر/
خوش بوش؟ لأ يا أختي، إنتي عم تحكي عن مسألة هوية وإنتماء! إنتي فلسـ...
رنا/
هديك المرة حكوا بالتلفزيون إنو هاي الهوية مش كتير comprehensive.

شاكر/
لأ يا أختي هاد تحريض عنصري على العرب!

رنا/
بس اللي كانوا يحكوا عرب...

شاكر/
معناتو إزا عرب أكيد كانوا يناقشوا المعضلة والصيرورة اللي منواجهها إحنا العرب في إسرائيل لإننا من جهة إسرائيليين ومن جهة فلسـ...

رنا/
يعني أنا إسرائيلية؟

شاكر/
لأ يا أختي، مش القصد! إنتي فلسـ...

رنا/
مإنتي قلت إسا إننا إسرائيليين!

شاكر/
مزبوط يا أختي، إسرائيليين في الانتماء التقني.

رنا/
تقني؟ يعني زي مدرسة أورط؟

شاكر/
مش القصد يا أختي، خليكي مركزة معي.

رنا/
تفضل.

شاكر/
خلينا نبدا من الأول. في الثماني وأربعين وقعت النكبة!

رنا/
بس أنا مين أنا؟

شاكر/
إنتي عربية جزء من الأمة العربية، ومسلمة جزء من الأمة الإسلامية، وفلسطينية جزء من الشعب الفلسطيني، وإسرائيلية معك هوية إسرائيلية، واسكنك من الناصرة أو حيفا إنتي جليلية، وإزا من باقة بتصيري من المثلث، وإزا من رهط صفيتي نقباوية...

رنا/
... وأنا إيش من هادول؟

شاكر/
أنتِ كل هذه الأمور مجتمعة. هذا هو غنى الفلسطيني الأصيل المتشبث بجذوره وأصوله وأرضه ومستقبله.

رنا/
وأنا هادول كمان؟

شاكر/
طبعًا!

رنا/
واو، مكنتش عارفة... لحد إسا كنت مفكر حالي بروتستانت!



الخميس، 2 أبريل 2009

ثلاث قصائد لشربل عبود

قليلون هم الكتاب الحقيقيون؛ وعندما يحظى المرء بواحد منهم صديقًا ورفيقًا يكون قد قطع نصف الطريق إلى إيثاكا.

أنشر هنا بسرور بالغ ثلاث قصائد للصديق شربل عبود، صاحب ومدير مكتب "رؤى للترجمة" في حيفا، وكاتب متين، أحبّ كتابته وذكاءه النصي الفطري، مع أنه نادر النشر، رغم أنني واثق من أنه غزير الكتابة.

تهيب هذه المدونة بشربل وتستحلفه بكل الآلهة، السماوية والأرضية، بأن يُكثر من النشر وأن يأخذ دوره الذي يجب أن يأخذه في حياتنا الأدبية والثقافية.

أعتذر على هذه الخطبة العصماء المتأثرة والمؤثرة، وهاكم القصائد:


شربل عبود

وامدحْ ليلاًً..

كي تدخلَ قلبَ حبيبتِكَ الطيّبةِ القلبِ عليكَ
اكتسابَُ مَهاراتِ القردِ الأولى: تقشيرُ المَوزِ لها، مثلاً.

كي تدخلَ قلبَ حبيبتِكَ العائدةِ الآنَ إلى البيتِ،
ذُمَّ النّهارَ الطّويلَ بلا رحمةٍ،
وامدحْ ليلاً
يأخذُ عاشقَينِ إلى شَمعتينِ وتفّاحةٍ.

كي تدخلَ قلبَ حبيبتِكَ المُعلنةِ الحربَ على الفوضى
رتّبْ غرفةَ نومِكَ: صورة الديكِِ فوقَ غطاءِ السريرِ إلى أعلى،
وإلى جهةِ الشبّاكِ يُوجّهُ مِنقارَه.

كي تدخلَ قلْبَ حبيبتِكَ العمليّةِ في كلّ شيْْءٍ
لا تخرجْ من غرفةِ نومِكَ دونَ غرضْ،
لا ولا ترجعْ من دون غرضْ،
وتَمتّعْ بالمُوسيقى في تلكَ الأثناءِ
وفكّرْ بالخُطوةِ المُقبلة!

كي تدخلَ قلبَ حبيبتِكَ المُوسيقيّةِ الأجواءِ
عليكَ، بِحُبٍّ، عدمُ ارتكابِ الكلامِ،
إلى أنْ يُنهيَ ذاكَ المغنّي رسالَته
حتى آخر حرفٍ يتوتّرُ فيها،
أو حتى يتلو التوقيعَ أخيرًا؛
ما بعدَ الرابعةِ صباحًا!

كي تدخلَ قلبَ حبيبتِكَ المُولعةِ بأفلامٍ مُبهمةِ المبنى
والمعنى..
شاهدِ الفيلمَ مرّاتٍ قبلَ العرضِ الزّوجيِّ،
لكي تبلغَ القصّةَ!
فالكلامُ على الأفلامِ خروجُ المُمثّلِ عنْ نصِّهِ.

كي تدخلَ قلبَ حبيبتِكَ الطيّبةِ القلبِ،
عليكَ، إذًا،
ألا تتدرّبَ كيف تسيرُ على حبلِ السيرك،
مع لَبُؤَة
لكن،
أن تعبرَ حبلَ غسيلٍ، في ساحةِ بيتِكَ،
من دون بلَلْ!



أنا النخلة الصامدة!

هل تَراني
أنا النخلةُ الصّامدة
أعطني ساعة
ساعة واحدة
يا حبيبي
وخذ كلّ تاريخ بابلْ

أنا يا حبيبي.. أنا مَنْ تُحبّْ!
المُذيعُ الدّخيلُ الذي يقرأُ النشرةَ الآنَ للمرّةِ الألفِ
لا يملأ القلبَ دفئًا
وهذا الشّريطُ السّريعُ الذي يحملُ الجندَ من جبهةِ النخلِ
في شاشةِ البؤسِ
يحكي عن الجندِ في الأمسِ
عن ظهرِ قلبٍ إذا شئتَ أتلو عليكَ الخبرْ..

دعْ حبيبي قليلاً
حديثَ النّخيلِ الطويلَ.. اشْربِ الصّدرَ غضًّا صباحًا
وذُبْ في دمي...
واحْكِ لي بعدَها ما يقول الرّئيسُ الخَسيسُ البَعيدُ،
الجماعاتُ،
والقادةُ القاتلونَ،
القُضاةُ
الإذاعاتُ
والقاعدةْ...
أعطني ساعةً واحدة
يا حبيبي
ولا تكسرِ القاعدةْ!

إقتربْ نحْوَ نبضي قليلاً.. وداوِ اشتياقي
إلى ريحِ هذا الصباحِ الجنونيّ
ثمّ احْك لي كلّ ما شئتَ
عن شاعرٍ يشبهُ الشّعرَ..
ثمّ احْكِ لي عن نشيدِ المطرْ..
أعطني المقطعَ المَطلعَ الآنَ منهُ
وخذْ كُلَّ أبياتِه يا قمرْ!

هل تَراني
أنا النخلةُ الصّامدة
أعطني ساعة
ساعة واحدة
يا حبيبي
وخذ كلّ تاريخ بابلْ



غُرَر

ماذا سيقولُ البحرُ
لصيّادي السّمكِ الآتينَ إليه
في فجرِ الأوّل من أيّارْ؟
سيقول لهم:
أليومَ أنا لا أعملُ
والسّمكُ الكامنُ
في أحشائي لا يعملُ
عودوا إن شئتم في غير نهارْ!

ماذا سيقولُ اللهُ
لمَنْ يصدقُ
في الأوّل من نيسان؟
سيقول له:
اليومَ كذبتَ عليَّ
اليومَ أنا إنسانْ!

ماذا سيقولُ العامُ
لمَن يصحو سوداويًّا وحزينًا
في الأوّل من كانون الثاني؟
سيقولُ له:
اليأسُ ضروريّ والحلمُ ضروريّ
في الأوّل والثاني
وهما للعملةِ وجهانِ!

ماذا سيقولُ القطُّ
الهائجُ الأرواحِ لصاحبِه المتأنّي
في الأوّلِ من شهرِ شباطْ؟
سيقولُ له:
عندي عملٌ يتكاثرُ، فاكْرم،
لا تمنحني حليب الأكلِ نقاطْ!

ماذا سيقولُ العاشقُ
لامرأةٍ تتجاهلُ وردَ خطاه الأولى عن خجلٍ،
في الأوّلِ من آذارْ؟
سيقولُ لها:
ما احمرّ الخدّ سدى
وشقائق نعمان الجرمقِ غارت
وتمرّد طيرُ الحبّ وغارْ!

ماذا سيقولُ الشاعرُ
للأرضِ المحروقةِ
في الأوّل من شهرِ حَزيرانَ؟
سيقولُ لها:
نعطي النايَ ليلتنا.
نتذكّرُ ما دمنا نحيا.
ما كانَ لنا منهُ
هو ما كانَ!

ماذا سيقولُ الشاهدُ
للربّ الأعلى عنّا نحن القتلى
في الأوّل من أيلولْ؟
سيقولُ له:
أيلولُ هو الأقسى!
إن شئتَ العدلَ لنا
مررّهُ على خيرٍ
لا شيء سوى مرّره على خيرٍ.
هذا هو ما سيقولْ!


الاثنين، 30 مارس 2009

فسحة أمل فيرتوالية


لم أكن أعلم من قبل أنه يمكن للمرء المنتسب إلى قبيلة "فيسبوك" أن يعلن عن ارتباطه بشخص ما في علاقة "صحبة"، يعني علاقة "تك تك تك يا ام سليمان"، بين امرأة ورجل، غير متزوجين. وقد تفاجأتُ حقًا، اليوم، حين رأيت في أعلى الصفحة إحالة فرحة تفيد بأنّ الرفيقة "إكس" بدأت علاقة غرامية مع الرفيق "واي"، والحاضر يعلم "الزّد" (بلا ملاحظة)!

وفورًا تحققتُ من الشوط الكبير الذي قطعه بعض أبناء شعبنا في السنوات الأخيرة، بتأثير الإنترنت والهواتف المحمولة والتقنيات الأخرى، حيث صارت حيواتنا الحميمة مكشوفة على الملأ، بلا حدود، وبلا غضاضة (عذرًا على استعمال كلمة غضاضة لأنها مسجلة بالطابو على اسم شخص آخر).

وقد لاحت في ذهني أضحوكة عابرة تتجسّد في سهولة التمدّن اللا محتملة، حيث تعلن فلسطينية شامخة من الجليل عن ارتباطها (بلا زواج) بفلسطيني مشرئب من... الجليل، بلا خوف من المجتمع أو التقاليد أو العادات أو أربع-خمس بلوكات تطير باتجاهها. وتخيلت أنّ هذه الواقعة تمّت قبل أربعين سنة مثلا، أو ثلاثين، حيث يخرج منادي القرية ويدور بين البيوت صائحًا: سميحة بنت أبو القاسم صاحبت متعب ابن أبو العاصي، والليلة رايحين يحضروا فيلم في كرميئيل!

وإمعانًا في التخيّل ستخرج نساء في بعض الأزقة وترشّ الأرز على المنادي، أو ربما ترسل صديقات المحتفى بها أطقم مناشف أو عطور للمُصاحِبة الجديدة، وسيتصل بعض رجال القرية بأبي القاسم مهنئين مصاحَبَة بكره لبكر أبي العاصي، متمنين للمصاحبين سهرات "تمزمز" لذيذة عند البيادر ليلا (أول سنة بوس وعبط وتحسمس فوق الصدرية)، أو تحت الخروبة البعيدة خلف أرْظيات أبو مفلح.

وأكاد أرى أخ الفتاة "إكس" التي أعلنت للتوّ صحبتها الغرامية، يشتري لها واقيات مطاطية منعًا للحوادث غير المرغوبة، ويوصيها باستعمالها بحكمة لأنها نادرة الوجود وغالية، والموسم هذه السنة "كيف منتي عارفه خيتا، مش شد إيدك". كما أنّ خالات الرفيقة "إكس" سيتصلن من القرى التي تزوجهن "لها" ويباركن ويسألن ويستفسرن، وستوصي جميع الخالات الصبية التي صاحبت للتوّ بعدم الزواج و"إوعك تغلطي هالغلطة!" و"خليكي هيك على راحتك"، و"تتجوزيش قبل ما تجربيلك عشرة عشرين شب"!

لا يمكن الجَسر على ما كنا عليه زمان، وما نحن عليه اليوم، من دون هذه التفكّرات البوست-فيسبوكية، التي تحيلنا إلى تفكرات نيو بوست-مصاحباتية: هل تخطينا مرحلة التكتم على العلاقات الحميمية خارج قيود وسجون المجتمع (الزواج، الخطوبة، التعليم على العروس وقراءة الفاتحة على ابنة عم العريس، مع أنّ عمره 5 سنوات وهي لم تخرج أسنانها بعد)؟ أم أنّ الفيسبوك وأخوانه يُنشئ واقعًا غير متكافئ: تقاليد وقيود في الحياة اليومية، وفسحة أمل فيرتوالية غير مفهومة على شباك الأثير العنكبوتي؟

لا أملك الأجوبة الشافية ولكنني لا أستطيع أن أمنع نفسي من الاستسلام للإغراء ودعوة المُصاحِب "واي" ليكون في قائمة أصدقائي كي أتعرف على بروفيله عن قرب. أنا أعرف المُصاحِبة "إكس" ويجب أن أعرف صاحبها الجديد عن قرب. ولكنه لا يعرفني ولا أعرفه، فهل أرسل له دعوة صديق؟

سؤال محير فعلا لا يقل تعذيبًا عن قرار جدودي "نسقي البندورة اليوم ولا البيتنجان"، ولكنني في كل الأحوال سأنتظر الصور الجديدة على بروفيل الرفيقة "إكس"، فهي آتية لا ريبَ فيها، تمامًا كما لو أنّ أبا القاسم –والد الرفيقة "إكس"- كان سيخرج قبل ثلاثين عامًا في شوارع القرية ويُري الناس بفرح كبير صورة ابنته وهي تتكئ بدلال على صدر صاحبها "واي" وهو يمسك ردفيها من الخلف، ثم يقول بتأثر بالغ: طالعه لإمها ليبرالية، بترفع الراس!