السبت، 6 أبريل 2013

سنتان على اغتيال جوليانو: قتيل الحرية


كم من السهل أن نصوغ بيان استنكار لذكرى مقتلك الثانية. سنحمّل الأمن الفلسطيني والإسرائيلي التقاعس عن معرفة القاتل وقد يُجرون مع أحدنا لقاءً إذاعيًا. وسنتحدّث عن مآثرك ومشروعك وسنرفع نخبك في مقهًى على ناصية الخيبة

هكذا يا جوليانو مضت سنتان. لم نحتفِ بك هذه السنة كما فعلنا في السنة السابقة، ولم نتابع ملف اغتيالك لنعرف من الجاني (أهو في الشرطة الإسرائيلية أم الأمن الفلسطيني أم الشاباك الإسرائيليّ؟). بعد اغتيالك اجتمعنا بالرئيس الفلسطيني محمود عباس واليوم لا أعرف من هو السخيف في كلّ هذه المهزلة: نحن الذين جررنا أنفسنا إلى مقاطعته أم الألسن التي مدّوها لنا في الجلسة وبعدها- ألسن كاذبة ومنافقة وجبانة. “جوليانو شهيد الحرية” ردّدنا بعناد، ولكننا نسينا أنّ الشهيد لا يُحاسَب على موته؛ لا أحد يُصرّ على معرفة الجاني، فهو شهيد وحيّ يُرزق هناك. أنت قتيل الحرية ونحن نسينا لماذا قتلوك أصلاً.
إنها الدنيا يا صديقي، لا أحمّلها فوق طاقتها ولا أجلد ذاتنا بكَ. من الطبيعيّ أن ننسى ومن الطبيعيّ أن ينسوا. الحياة أقسى ممّا يمكن أن نتصوّر –وأنت خير من يعرف ذلك- وهذه الجبانة تفتك بنا بلا رحمة. لكن ليس من الطبيعيّ أن نخون كلماتنا وشعاراتنا بهذه السرعة. ألم أقل لك من قبل إنّ من قتلك قتل فينا بقية أخرى من الرغبة في الحياة؟ كيف نحافظ على شمعتك مُتقدة وشموعنا انطفأت أو على وشك أن تُطفأ؟ هل رأيت حالنا المسرحية والأدبية والسينمائية وهل تعتقد أننا قادرون -بخمولنا- على حمل قضيتك كما يجب؟
لم أزر قبرك ولو مرة واحدة بعد دفنك. لا أحبّ القبور ولا زيارتها. أشعر بزيف ما وأنا أحاول أن أصطنع هدوءًا وقورًا فوق القبر، وأنا أعرف أنك لم تكن هادئًا ولا وقورًا. في السيارة التي أقلّت جثمانك من حيفا إلى حاجز صندلة إلى مقبرة الكيبوتس الغريبة، لم نتوقف عن الضحك والبكاء. كان مزيجك الغريب يطغى على الجوّ وأنت ممدّد في السيارة الطويلة في نعشك، لا تضحك ولا توبخ ولا تصرخ كما كنت تفعل في السنوات الأخيرة: “إنتو العرب…!”
نحن العرب. نعم، نعترف. نحن كذا وكذا وكذا، وأنتَ كنتَ “نصف عربيّ”، وكان هذا نصفك المُشوّه. وأنت “نصف يهوديّ” وهذا كان أيضًا نصفك المُشوّه. ومن هذيْن النصفيْن نما إنسان جميل مثلك. أليست هذه الأرض المقدسة، تُنبت السمن والعسل من قلب الدماء؟ ولكنها قذرة أيضًا، هذه الأرض، ولعوبة وحقيرة، وهي –كما سماها الجميل الثاني الذي غاب، طه محمد علي- “هذه العاهرة!”.
لم أعد إلى مسرح “الحرية” من بعدك. الشباب والصبايا حافظوا عليه ولكنني لم أعد حتى لزيارة. لا أطيق الجلوس في صالة الطابق الأرضيّ حيث أكلنا كميات خيالية من الحمص وشربنا كميات غير إنسانية من القهوة السوداء. أشعر بأنها خيانة مجلجلة لك. أعرف أنني انهزاميّ؛ كان عليّ أن أحبّ المسرح أكثر وأن أزوره أكثر وأن أصرّ على الإسهام في إنتاجاته الجارية، ولكنني لم أفعل. أنا غاضب يا جوليانو على مخيم جنين. أتصدّق؟ حتى الآن. غاضب وحاقد. ستقول إنّ القاتل لا يمثل ناسه، وسأوافقك، لكنّ صمتهم المُدوّي (حتى اليوم) جعلهم شركاء في الجريمة. أبناء أمي وبلدي ووطني.
كم من السهل أن نصوغ الآن بيان استنكار لذكرى مقتلك الثانية. سنحمّل الأمن الفلسطيني والإسرائيلي التقاعس عن معرفة القاتل وقد يُجرون مع أحدنا لقاءً إذاعيًا. وسنتحدّث عن مآثرك وعن حجم مشروعك الذي لا يتكرّر. وبعدها؟ سنرفع نخبك في مقهًى على ناصية الخيبة، وسنعود إلى مشاغلنا أصغرَ قليلاً. هل رأيتَ كم صغرنا- في عيون أنفسنا بالأساس؟ هل رأيتَ كيف فقدناك دفعة واحدة وبلا مقاومة؟ ولكن عليك أن ترضى بهذا يا جوليانو، فالمقاومة للدبابة فقط، أما الفن والفنانين فلهم الصفحات الأخيرة، بعد إعلانات “سيارات للبيع”.
أحبك جوليانو. لا زلت أحبكَ. كأنك طيرٌ بحريّ يحلق فوق رأس ابنتي شذا وهي عند بحر عكا تطارد الموجات الكبيرة. ترفع سبابتها بفرح وتصرخ منفعلة: “بابا شوف”! هل رأيتَ كيف صرتُ رومانسيًا انفعاليًا بعد غيابك، وخنتُ السخرية والتهكم المريريْن؟ إنه الصدأ يا عزيزي، صدأ الآلة وصدأ النفس وصدأ العزيمة. من المفرح أنّ الجيل الذي سيرث مِلحَنا غاضب وثائر أكثر منا، وعلى هذا نشكره. وهل تصدّق أنني للتوّ استخدمت عبارة “الجيل الذي سيرثنا” كأننا في الثمانين؟ هذا ما تفعله رصاصات غادرة في ساعة الزمن.
سأحفظ لنفسي حقّ كتابة نصّ آخر لك في الذكرى الثالثة، وسأحفظ لك حقّ السخرية مني ومن نصوصي.
سلامات رفيق.