الأحد، 30 ديسمبر 2007

مراكش الحلم

1
مراكش لم تجرح الطبيعة ببيوتها البنية الفاتحة، فتراها من فوق، من الطائرة، تستظل بشمس المغرب الساطعة، تحتسي شاي الصباح الخريفيّ مع هضابها البنية، وتستظلّ برؤوس الجبال البيضاء المثلجة، في هذا الوقت من السنة. بعد ثلاث زيارات، تقع في حب هذه المدينة التي اجتذبت حب السينمائيين القدامى (هتشكوك، سلفاتوري)، وتشعر بأنّ ساحة "جامع الإفناء" هي ساحة خيالية لم تحدث حقًا، وبأنّ الناس فيها يهرعون (آلافًا، آلافًا مؤلفة) مُسرعين كي يطفئوا غبار الرمل في غروب صحراوي بارد.مراكش تجعل منك شاعرًا (رديئًا، على الأغلب) وتطلب منك أن تسجّل غزليات عربية لكل هذا الرمل ولكل هذه الصحراء، ولكل هذه البساطة الآسرة. أسواق مليئة، وشوارع مليئة، وحافلات مليئة، وميادين مليئة، وأناس بعدّ الأزل يبتسمون لأنك تتحدث إليهم؛ أعرف أنها رومانسية الفقر والعوز، ولكنها أيضًا رومانسية العربي المشرقي الذي حطّ في المغرب العربي، وأطلّ من شباك الطائرة على ميناء طنجة، كي يتذكر أنّ "البحر من ورائنا"، وليس لنا والله إلا انتظار العشاء بفارغ المعدة.




2
مراكش لا تنام. الحشود التي تملأ ميدان السوق المركزية في ساحة "جامع الإفناء" خرجت للتوّ من غفوة الظهيرة، وهي في سعيها نحو الليل الطويل تتكاثف مثل رمال الصحراء التي تُزيّن أطراف هذه المدينة، التي تتحصّن بجبال الأطلس وكأنها اختبأت خلفها من صحراء السهارى العاتية التي تحتل جنوبي-غربي المغرب. في الجموع رجال ونساء وصبية وأطفال. الأطفال يسعون لرزقهم، مثل جميع الأطفال في أية دولة فقيرة؛ يبيعون أفاعي بلاستيكية وصناديق خشبية فيها مفاجآت: أفعى صغيرة تنقض عليك، أو حشرة غريبة تخرج مادّةً رأسها وكأنها تتهيأ للسعك بقوة. مداعبات شقية من أطفال يركضون خلفك مئات الأمتار من أجل درهمين أو خمسة. أحدهم سأل باستغراب بعد أن أعطيته خمسة دراهم: "وكاش أورو؟" اعتذرتُ له، ولكنني اشتريتُ منه أفعى ثانية كي يسعد بالخمسة دراهم الأخرى، وبعد ربع ساعة رميتُ بالأفعيين، إذ أنني بدوتُ بلا شك، بالأفعيين والكاميرا وشنطة المسافرين الصغيرة التي تشبه "الباوتش"، سائحًا غريبًا سخيفًا، يبحث عن مكنونات "الشرق" المغرية، بين أكشاك المشاوي العلنية.لا يمكن أن ينجو المرء في الميدان الكبير من الباعة الذين يقفون أمام المطاعم الشعبية ويتعربشون كلّ ذاهب وآيب، وحتى إن نجا من وجبة الحلزونات التي تُباع بكثرة في ميدان مراكش المركزية، فإنه لا ينجو من رائحة لحم الرؤوس التي تملأ كل مسامة فارغة من مسامات الجسد. الطعام وافر، و"المطاعم" عبارة عن طاولات طويلة مرتجلة، يجلس إليها المرء كي يقتات زاده من لحم الرأس أو الحلزونات أو لحم الكوارع. هي وجبة سريعة، خاطفة، يملأ المرء فيها بطنه السعيدة بكلّ ما يلذّ ويطيب- فاليوم كوارع وغدًا فوارغ.في الزاوية المقابلة شاب فتيّ ينظر إليك ويبتسم. يجعلك تقترب منه، فيقترب منك بحذر ويخرج يده من جيب بنطاله، نصف إخراجة، فترى قطعة بنية ملفوفة بالنايلون الرخيص، ويسألك بابتسامة ماكرة: "حشيش؟.. حشيش؟.." تبتسم له إحراجًا وتبتعد ببطء وأنت تفكر في قذارة الزنزانة التي يمكن أن تجد نفسك فيها بعد ساعة، بعد أن يلقوا عليك القبض وأنت تشتري قطعة حشيش مغربية، إذا كيف يمكن أن يتأكد المرء من أنّ هذا الفتيّ الشقيّ ليس شرطيًا يتصيّد أصحاب الكيف؟في الركن المقابل شاب يبتسم أيضًا. يبتسم بحرارة، ثم "يغمز" بعينه دلالة التحبّب والترقب. زميل لي يغمزه بالمقابل، فتبتسم لنفسك وأنت ترى قصة عشق ذكورية جديدة تبدأ بالتكوّن أمام ناظريك، في بلد عربي مسلم يُحرّم مثل هذا العشق. زميلي يخبرني بأنّ هذه عاشر غمزة أو أكثر منذ أقلّ من ساعة، ويفتح عينيّ متسائلا: ألم تنتبه؟.. إنهم يملأون المكان؟.. أتأمل المشهد ثانية: عشرات الشبان من مختلف الأعمار، يتكئون على جوانب الممرات والبسطات ويبتسمون ويغمزون... هي ميدان عاشقة معشوقة إذًا، وأنا أسير فيها مطمئنا، غير عالم بأنّني مستهدف بغمزات صريحة تدعوني إلى ليلة عشق مغربية "غير شكل". زميلي عاد إلى الفندق برفقة فتى مغربي يانع، وأنا خلدتُ إلى حاسوبي النقال أفتش في لوحة مفاتيحه عن كلمات أقولها للعالم عن كذبة الاختباء الكبرى من وراء أوامر المنع والتحريم الغبية. العشق ينتصر في النهاية، رغم أنف الدين والرقيب والقيّمين على الأخلاق.


3
يحبون فلسطين كثيرًا. فما أن تقول إنك فلسطيني حتى تتفتح ألف بسمة على الوجوه. وباسم فلسطين تساوم على سعر هذا الشال وعلى سعر تلك الجاكيت وعلى ثمن هذه البدلة الصغيرة المزركشة التي تشتريها لعُمري أو لسارة. تحرجهم بأنك قادم من القدس (التي لا تطيق ذرة من ذراتها)، وعيب أن يأخذوا منك كل هذه الدراهم. تنتصر القدس في النهاية (بمساعدة بعض الوقاحة العربية في المساومة والمفاصلة)، ويستغرب الزملاء الأجانب كيف اشتريتَ بخمسين درهمًا ما اشتروه بمائتين. إنها الديناميكية العربية التي لن يتقنوها يومًا، حتى لو درسونا ألفي عام. ديناميكية الكلام والنظر والمحاججة والقَسَم على اليمين والشمال؛ "والله"، تتردد ألف مرة في محادثة من جملتين، ولكنه القسم الحياتي اليومي، غير المقدس. لا أحد يقصد أن يقسم باسم الله، ولكنها كلمة تتردد، أي "صدقني، رغم أنك تعرف أنني أكذب، وأنا أعرف أنك تعرف، وأنت تعرف أنني أعرف أنك تعرف"، وهكذا دواليك. هي المساحة الواسعة الممتدة بين عربي وعربي، يتقاسمان زادهما الكلاميّ والحضاريّ بلا عتب، وبلا مواربة، وبكثير من التفاهم التآمريّ.


4
إنه مهرجان مراكش السينمائي. مئات، وربما ألوف من أهل البلد، يقفون على جنبات الممر المرصوف بالسجاد الأحمر، ينتظرون مجيء النجوم كي ينقضوا عليهم بالصراخ والهتاف والأغاني. مشهد كأنه مأخوذ من كتب التاريخ القديمة. أين يمكنك أن تجد اليوم جماهير كهذه، تحتفي بغبار النجوم، وتهتف لأحلام الشاشة الكبيرة أن تعالي، فنحن نحبك براقة على البساط الأحمر.تدخل يسرا، ثم أحمد راتب، ثم تامر حبيب، ثم شريف عرفة، ثم نور الشريف. إنه احتفاء خاص بالسينما المصرية في مراكش. نجوم الطفولة يمشون الآن بحب كبير ويلوحون للجموع بحرارة. تجد نفسك فرحًا أيضًا بكل هذه السذاجة الطفولية، تلك السذاجة (وربما البراءة) التي قتلناها من زمان في عصر السلع السريعة والاستهلاك الرسمي. تتخلى عن سخريتك وكلبيتك، وتتبع أطياف النجوم الكثيرة وهي تعبر المدخل نحو الحفل المركزي، وتصفق مع مجموعة الصبايا المغربيات اللواتي يتحلقن ليحظين بنظرة من نور الشريف أو لبلبة. تتذكر جميع الأفلام والمسرحيات المصرية التي صقلت وعيك وبدايات تكونك، فعلمتك ما هو الجميل والمتقن، وعلمتك أيضًا ما هو السّيئ والمبتذل.إنها السينما، السبب الذي قدمت من أجله إلى هنا. يسمونها ورشة، وهي بالأساس ملتقى للتعارف والسهر والاستكشاف. ها هي السينما تحدث أمام ناظريك: نجوم ومعجبون وجماهير، كلهم يلتفون حول حلم واحد، حول هدف واحد: صناعة الأوهام. وكم تتفاجأ حين تُعجب بهذه اللحظات الجماهيرية-الحميمة. تتفاجأ وتصفق مع المصفقين. مرحى لكم، مرحى لنا، مرحى لذاكرتنا الجمعية: السينما.




الخميس، 13 ديسمبر 2007

مسرح وسينما: بين عكا وحيفا


المنتصرون المهزومون

الجنرال اليائس (محمود أبو جازي) يبحث عن وسيلة لتحقيق نواياه وأهدافه: قتل لجنة التخطيط التي لم تسمع بمشورته لردم نصف البحر الشمالي وبناء مُدن جديدة عليه. فالبحر يتوسط مكانين: الشمال والجنوب. وقد رأى الجنرال أنّ بناء سور في منتصف البحر وتجفيف نصفه الشمالي واستغلاله للتوسع هو الحلّ الأمثل، إلا أنّ لجنة التخطيط الحكومية التي يصبّ عليها جامَّ غضبه لم تسمع بمشورته، وبدلا من ذلك اندلعت حرب (يُفهم ببعض التلميحات أنها كانت حربًا نووية أو ما يشبهها) انتصر فيها الشماليون (طبعًا)، وهم يستطيعون التعرف على الجنوبيين المنهزمين عن طريق رائحتهم أو النظر في عيونهم، فالمسألة سهلة جدًا.

وفي المقابل تسعى المرأة (لنا زريق) نحو أمل مفقود في الخروج من هذا المكان الخانق بانتصاراته، وهي تقع في غرام أمومي لطفل بلاستيكي يبنيه لها "الفنان" (نهد بشير)، إلا أنّ الشاهد الأكبر على كل ذلك هو الجندي-الفزاعة (نضال بدارنة)، الذي يقف في منتصف الحقل حيث يعتزل الجنرال مع قنينة نبيذه ويشتم العالم كله. وعندما يستيقظ الجندي-الفزاعة ويصير "بشرًا" تتضح معالم مسرحية "الحقل الأخير"، وهي إنتاج مسرح "الجوال" الجديد، المشارك في المسابقة الرسمية في مهرجان المسرح الآخر في عكا، الذي بدأ عروضه يوم الأحد واختتمها مساء أمس الأول الأربعاء.

العلاقة التي تنشأ بين "الفزاعة" والجنرال تأخذ منذ البداية منحًى أبويًا، بسبب سذاجة الفزاعة وتعاملها مع الجنرال على أنه أبوه، مع أنّ الجنرال يرى في الفزاعة جنديًا يبعث فيه بُرَق آمال بتنفيذ خططه، حيث يحاول دفعه لأن يأخذ المسدس ويسعى لقتل أعضاء لجنة التخطيط. في هذا المحور، الجندي-الفزاعة العائد من غيبوية (كوما) إلى غيبوبة جديدة، تنبني أكثر لحظات المسرحية تشويقًا وجمالية وإتقانًا، أكثر بكثير من اللحظات الأخرى المُتمركِزة في العلاقة بين "الفنان" والمرأة، وهي العلاقة التي تظلّ عالقة في المساحة غير المريحة بين الفكرة الفلسفية من وراء الشخصيتين والعلاقة بينهما، وبين تطبيقها غير الناجح مسرحيًّا.

وإذا كان مؤلف المسرحية (نهد بشير) ومُعدّها المسرحيّ (سلمان ناطور) قد نجحا في بلورة شخصية الجنرال جيدًا، بمعية أبي جازي الذي يؤديها بإتقان، فإنهما لم ينجحا في المهمة حتى النهاية فيما يخصّ باقي الشخصيات، مع بعض التفاوتات. الشخصية الثانية التي تقترب من المتانة المسرحية هي شخصية الجندي-الفزاعة التي يؤديها نضال بدارنة؛ فمع أنها كانت كاريكاتورية، إلا أنّ ما أنقذها –أكثر من أيّ شيء- هو موهبة بدارنة المتميزة وقدرته على اجتراح كوميديا جميلة جدًا، تستغلّ العناصر الشعبية (وأحيانا الشعبوية) مُسخِّرة إياها في معيار صحيح من الأداء التمثيلي والتوجه الصحيح للشخصية والمواقف المسرحية بينه وبين أبي جازي. هذا هو العصب المركزي للمسرحية، وأبو جازي ينجح في حمل المسرحية على كاهليه، بجدارة، وبتميّز يندمج في ضمن الأداءات التمثيلية المسرحية التي نشهدها في هذه الأيام في "الميدان" بالأساس.

من هذا المنظور، يشكل مسرح "الجوال" السخنيني، بإدارة عادل إبي ريا، ظاهرة مسرحية لافتة للنظر، ولو استمرت بهذا الشكل وبهذا المنحى، فإنها سترقى بالمستوى المسرحي المحلي أكثر وأكثر، وربما (ويا ليت، من أجل المتعة والتنافس) ستكسر مونوبول "الميدان" كمسرح عربي ريبرتواري رائد ووحيد (حاليًا، وليس في جميع فتراته).

لقد واجهت مسرحية "الحقل الأخير" آلام مخاض عسيرة أثناء المراجعات وتبدّل المخرج إثر خلافات حادة، حيث استلم أبو ريا مهمة الإخراج قبل بدء العروض بفترة قصيرة، ومع ذلك، استطاع الطاقم أن يعرض مسرحية جيدة في مجملها، وقوية وجميلة في مواقف متعددة فيها، وبالأساس تلك اللحظات التي حملها أبو جازي، بمعية بدارنة، بدراية وسلاسة. المسرحية تنتهي بهطول مطر حمضي نووي كان الجنرال ينتظره، وهو يبيد الجميع إلا الجندي-الفزاعة الساذج، كمقولة سياسية وفلسفية. كما أنّ المرء لا يمكنه أن يتجاهل المقاربات الواضحة مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولا بأس في هذا أبدًا؛ ولكن خسارة أنّ المعالجة الدرامية لم تستطِع التخلص من الرمزية المبالغ بها في بعض المقاطع، ومن الحوارات "الثقيلة" التي يجب تجييرها وتطويعها خدمة للفكرة والسياق المسرحي، ومن المفرح أنّ الكاتب والمُعدّ (ومعهم الممثلون) لم يتورّعوا جميعهم عن دمج الشتائم اللاذعة، بعاميتنا الفلسطينية المليئة بالشتائم الملونة والجذابة، مما أضفى صدقية وواقعية وأمانة في بناء الشخصيات.



المهزومون المنتصرون
عُرضت في ضمن مهرجان حيفا الدولي للأفلام، الذي اختتم عروضه مساء أمس الخميس، سلسلة من الأفلام الفلسطينية الجديدة، في ضمن "يوم الفيلم الفلسطيني"، الثلاثاء، رأيتُ قسما لا بأس منها، والانطباع الذي يظلّ بعد هذه المشاهدة (ومشاهدات أخرى سابقة، وعبر الوقت) هو أنّ الفيلم الفلسطيني التوثيقي الذي ينجزه الجيل الجديد من السينمائيين الفلسطينيين (في جميع أماكن تواجدهم)، ينقسم إلى قسمين بارزين مختلفين تمامًا: القسم الأول ما زال مقيدًا بقيود التفكير النمطي المتقوقع في عدم المجازفة والاستسلام لمِنواليّة (شبلونة) توثيقية، أعتقد، شخصيًا، أنّ الدهر تنكّر لها منذ زمن. في ضمن هذه المجموعة فيلما "المسعودين" و"البيت المفقود"؛ الأول يروي قصة عائلة عربية بدوية من النقب، قال مخرج الفيلم يوسف أبو مديغم عنها إنها عائلة ليست من العائلات المسحوقة في النقب لأنه لم يرغب برواية قصة تكون "بكائية" وتتمحور في "ضربوني وعذبوني" (ترجمتي الحرة عن العبرية). المشكلة ليست في خيار المخرج، فهذا حقه الفني والسياسي، بل المشكلة في الطريقة غير المثيرة (كأقل ما يُقال) التي اختار بها رواية القصة، وهي طريقة نمطية، سطحية، غير مثيرة فنيًا، وبالأساس، وأهم من كل هذا، تعتمد النَفَس السَّرديّ الجذاب الذي يميّز جميع أنواع الأفلام الجيدة، أوثائقية كانت أم روائية.

الفيلم الثاني الذي ينتمي إلى هذه المجموعة، "البيت المفقود" من إخراج وفاء جميل، يروي قصة المخرجة في محاولتها إيجاد البيت الذي هُجّرت منه عائلتها في عكا، والتي تسكن اليوم قطاع غزة. الفيلم مسكون ومُثقل (ومن دون حكمة تُذكر) بصوت المخرجة الراوية، التي تفسّر لنا أحساسيها وما جرى وما يجري، بلغة تفسيرية لا يمكن أن نفهمها إلا استخفافًا بذكاء المشاهدين، على نمط الأضحوكة حول البرامج الأردنية: "حجة شايفينك عم بتلقطي زتون، ممكن تخبري الأخوة المشاهدين شو عم بتسوي؟"؛ فكل ما كانت تقوله زائد وغير لازم، ويمكن أن نفهم الفيلم القصير كله (19 دقيقة) من دون أية كلمة سردية روائية من المخرجة. هذا خطأ جسيم يرتكبه كل فنان سرديّ، يفضل اللجوء إلى نص سرديّ (مكتوب بصياغة لواعجية نفسانية في هذه الحالة) يشرح ويدفع الحبكة، بدلا من أن تتولى هذه المهمة الصور والمشاهد والحوارات، وإذا اجتمع السرد الزائد مع صور سينمائية ضعيفة فإنّ النتيجة تكون كما في هذا الفيلم.

في المقابل، وبتفاوت حادّ وكبير، يبرز فيلما "بريد أند بريكفسات" و"أنا في القدس". هذان الفيلمان يشكلان في نظري السّرد السينمائي القوي والمتين: دع الصور تتحدث، دع الشخصيات التي توثقها تبني عالمها بنفسها، وما عليك –كمبدع- إلا أن تجلس مراقبا وتختار بحدسك السينمائي المتطور أفضل السبل لتوليف (مونتاج) المواد الخام التي صوّرتها، وهذا ما حدث في هذين الفيلمين. كي يحدث هذا، يجب أن يتوفر العنصر الأكثر قدمًا في أية دراما: القصة المثيرة والشخصيات الجذابة (سينمائيًا، وليس شكليًا).

فجونا سليمان (مخرجة "بد أند بركفست") خرجت لتوثيق حيوات بضعة أطفال وعائلات في حي السّوق القديم في الناصرة، وعادت باثنتين وخمسين دقيقة من السينما التوثيقية القوية والمؤثرة والمُبدعة. ما لفت في هذا الفيلم هو قرار سليمان الشجاع والفني من الدرجة الأولى، التنحي جانبًا كمبدعة وإبقاء الحلبة لشخصياتها وصورها المثيرة: فلا صوت سردي في الخلفية ولا أسئلة وأجوبة تحقيقية ولا ظهور أمام الكاميرا. وهنا المكان لذكر عدسة إيهاب عسل الثاقبة، الواثقة، ولكن الحسّاسة، التي استطاعت أن تتحول إلى جزءٍ من المشاهد والبيئة، وربما يعود هذا أيضًا إلى أنّ سليمان وعسل هما من الناصرة، وأهل الناصرة أدرى بشعابها.

فيلم آخر ينضوي في ضمن هذا التوجه التوثيقي القوي، هو فيلم "أنا في القدس" للمخرجة منى جريدي، التي رافقت طفلا فلسطينيا من غزة يأتي في زيارته الأولى إلى القدس، وهناك يتعرف على كل ما رآه على التلفاز، عن قرب. هذه الدهشة التي رافقته ترافق المشاهد منذ اللحظة الأولى؛ فجريدي تنجح (مع كاتب السيناريو جبر فؤاد) في تحويل رحلته الطفولية شبه الساذجة إلى رحلة قاسية وعنيفة للمشاهدين، الذين يكتشفون مع هذا الطفل الغزيّ قساوة القدس واحتلالها وتركيبة بيئتها وتعقيداتها، من جديد. ومع أنّ الفيلم لا يُجدّد من ناحية الصور التي يجلبها، فهو ليس فيلمًا تحقيقيًا، إلا أنّ الجديد في مشاهده وحيثياته هو النجاح الكبير في إعادة إحياء الصور التي نراها كل يوم، بأضواء جديدة، وعن طريق مقولات جديدة، وبواسطة تصوير وإخراج لافتين وذوي حضور بارز.

أحد السينمائيين قال مرةً إنّ وظيفة المبدع، هي أن يُمكّن شخصًا يسكن قرب البحر منذ سنين طويلة، من أن يسمع صوت البحر الذي نسيه، مرة ثانية. سليمان وجريدي تفعلان ذلك، وبثقة سينمائية عالية.

الحق في (إعادة) القراءة


كلما طُرح موضوع "حقوق الإنسان" في العالمين العربي والإسلامي، تذكرتُ على الفور ما حدث مع د. نصر حامد أبو زيد؛ فهذا الباحث الديني المتدين (المصري)، الذي جرؤ في سلسلة مؤلفات قيّمة على قراءة القرآن من منظور جديد، وجد نفسه في منفى قسريّ في هولندة، منذ أكثر من عشر سنوات. فأعداؤه من رجال الدين والفقه رأوْا فيه "كافرًا" و"زنديقًا" و"مُرتدًا"، لأنه رفض ويرفض التفسير التقليدي المُتّبع للقرآن.

ولعلّ أوضح وأفضل ما يمكن أن يلقي الضوء على توجهه في التعامل مع النص القرآني، هو ما ورد في ملخّص لقاء إذاعي أجراه معه ميشيل هوبنك من إذاعة هولندا العالمية (وترجمه محمد عبد الرؤوف)، فيقول أبو زيد: "... يحتوي القرآن على العديد من الآيات التي يصعب أن تتفق مع المعايير الدولية للديمقراطية الحديثة وحقوق الإنسان. فالقرآن يجيز الرقّ ويجيز عقوبات قروسطية مثل قطع يد السّارق وفرض الجزية على غير المسلمين، كما يمارس التفرقة ضد المرأة في عدة مواضع، مثل منحها نصف ما يحصل عليه الرجل في الميراث. وبتجاهل هذه الآيات "غير الديمقراطية" في القرآن، فإنّ الإصلاحيين حرموا أنفسهم من فرصة الردّ على الأصوليين السلفيين الذين يُصرّون على تطبيقها، وهذا وفقا لأبي زيد هو مكمن فشل الإصلاح الإسلامي حاليًا. ويُوضح أبو زيد ذلك قائلا: "أعتقد أنّ حركة إصلاح الفكر الإسلامي قد وصلت لطريق مسدود. فطالما ظلّ القرآن بمعزل عن النقاش، فليس هناك من طريق للخروج".

ويضيف أبو زيد أنّ الإمكانية الوحيدة لإصلاح حقيقي في الإسلام تكمن في فهم تاريخي للقرآن. فهو يشير إلى أنّ القرآن ليس بنصٍّ جامد يحتوي تشريعات قانونية جاهزة، وصالحة لكل الأمكنة والأزمنة. بل يجب النظر إليه كخطاب ديناميكي متعلق بالحاجات الإنسانية في مكان وزمان مُحدّديْن؛ فهو يحتوي على كل من قيم كونية وتطبيقات تاريخية لهذه القيم. وإذا ما أردنا معرفة الحكمة وراء هذه التطبيقات، يجب علينا أن ندرس السّياق التاريخي. وكمثال على هذا الطرح يذكر أبو زيد الآية التي تمنح المرأة نصف الميراث الذي يحصل عليه الرجل، ويحاجج أبو زيد بالقول إنه "بالنظر إلى هذه الآية في سياقها التاريخي، فإنها تُعدّ في الواقع خطوة كبرى إلى الأمام، لأنه قبل ذلك الوقت لم يكن للمرأة الحق في أيّ شيء على الإطلاق. لذا، فإذا ما طبقنا المقصد الكامن لهذه الآية في وقتنا الحاضر فسنجد أنها تشير إلى أننا يجب أن نعتبر الرجل والمرأة متساوييْن كليًّا أمام القانون". ما يقوله أبو زيد، المتخصص في فقه اللغة العربية، إنّ النص الديني الأصلي هو "مُنتج ثقافي، بمعنى أنّ الله يخاطب البشر وفقاً لثقافتهم".

نشأ أبو زيد في أسرة ريفية بسيطة في إحدى قرى طنطا في 10 حزيران 1943. أنفق على نفسه واستكمل دراسته الجامعية وحصل على ليسانس اللغة العربية من كلية الآداب جامعة القاهرة 1972 بتقدير مُمتاز، مما مكّنه من استئناف دراسته العليا، وتم تعيينه معيدا بقسم اللغة العربية جامعة القاهرة في نفس العام 1972. وفى عام 1976 حصل على ماجستير الدراسات الإسلامية من نفس الكلية، بتقدير ممتاز، فتمت ترقيته إلى مدرس مساعد، وعندما حصل على الدكتوراه عام 1982، مع مرتبة الشرف الأولى، عمل مُدرِّسًا بنفس القسم. وفي عام 1987 ترقى لدرجة أستاذ مساعد. وعندما قدم أبحاثه للحصول على درجة أستاذ تكونت لجنة من أساتذة جامعة القاهرة، بينهم د. عبد الصبور شاهين، الذي اتهم في تقريره د. نصر بالكفر، وتلقى المتشددون الاتهام وحدثت القضية المعروفة التي انتهت بترك نصر الوطن إلى المنفى، منذ 1995، بعد أن حصل على درجة أستاذ، بأسابيع.

وكيف أجبروه على نفي نفسه؟... نظراً لعدم توفر وسائل قانونية في مصر للمقاضاة بتهمة الارتداد، عمل خصوم أبي زيد على الاستفادة من أوضاع محكمة الأحوال الشخصية، التي يُطبَّق فيها فقه الإمام أبو حنيفة، والذي وجدوا فيه مبدأ يُسمّى "الحسبة"، طالبوا على أساسه المحكمة بالتفريق بينه وبين زوجته. واستجابت المحكمة وحكمت بالتفريق بين أبي زيد وزوجته قسراً، على أساس أنه لا يجوز للمرأة المسلمة الزواج من غير المسلم! وفي النهاية غادر أبو زيد وزوجته د. ابتهال يونس، الأستاذة في الأدب الفرنسي، القاهرة نحو المنفى إلى هولندة، حيث يعمل نصر حامد أبو زيد الآن أستاذًا للدراسات الإسلامية بجامعة لايدن.

في 25 تشرين الثاني 2005، أعلنت مؤسسة "ابن رشد للفكر الحرّ" في برلين عن منحها جائزتها السنوية لأبي زيد، "لكفاحه المتواصل من أجل إعادة قراءة معاني القرآن قراءة مستقلة عن التفسير التقليدي، دافعاً حريته الشخصية ثمناً لذلك (...) المفكر الإسلامي المصري والباحث في علم اللغة العربية والعلوم الإسلامية نصر حامد أبو زيد ينقد القراءة التقليدية للقرآن ويدعو إلى تفسير علمي مُدعّم بالحجج، ينطلق من النصّ ليصنّفه في سياقه التاريخي فيُفرّق بين المعاني العقائدية والمعاني التي فرضها السّياق التاريخي. والباحث يؤكد أنّ القراءة المعاصرة للقرآن يجب أن تستعين بمناهج علوم اللغة والتاريخ، خاصة وأنّ النصّ القرآني يحتمل قراءاتٍ وتفسيراتٍ مُختلفةً. وقد ظهرت في التاريخ الإسلامي قراءات وتفسيرات متنوعة قبل أن يحتكر المسلمون المتشدّدون تفسيراتهم الأحادية المنفردة لمعاني الكلمات الإلهية، والتي حصروها في إطار المسموحات والمحرمات، لا غير (...) أبو زيد يريد منع استغلال السياسة للدين كما هو الحال في العديد من الدول العربية والإسلامية، ويرفض ما يمارسه دُعاة التعصّب الديني في إدعائهم لمرجعية الإسلام لتبرير أعمالهم، تماماً كما حدث في العصور الوسطى، حيث جرى تبرير محاكم التفتيش في أوروبا بالمرجعية الدينية المسيحية. ويبدو أنّ المؤسسة الدينية في مصر لا تشعر بالقدر الكافي بخطورة هؤلاء المتشدّدين في استغلالهم للدّين لأهداف سياسية، بل ترى الخطر في تحليل وتفسير الإسلام من قِبل عالم مثل أبي زيد. هذا وضع شاذ ومقلق وخطر"- جاء في بيان تسليم الجائزة.

ويرى أبو زيد أنّ التيار الرئيس من حركة الإصلاح الإسلامي نجح في تحدّي وتجاوز سلطة الإسلام التقليدي، لكنه عجز حتى الآن عن وضع القرآن نفسه موضع البحث والمناقشة، لأنّ فقهاء العصور الوسطى اختزلوا الإسلام في نظام مفصل من الأحكام الفقهية، التي اُعتبرت صالحة لكل زمان ومكان. فمنذ أواخر القرن التاسع عشر تحدى الإصلاحيون المسلمون، مثل محمد عبده، سلطة هذه التشريعات وطالبوا بالاجتهاد في فهم القرآن والسنة أكثر توافقا مع متطلبات العصر الحديث. ولكن، ووفقا لرؤية أبي زيد، فإنّ الإصلاحيين فشلوا في تجاوز الرؤى السائدة وسط أغلب المسلمين، بأنّ القرآن هو كلام الله الذي يجب أن يُطبَّق في كل الأماكن والأزمنة. وعوضًا عن مواجهة هذا التحدّي فضّل أغلب الإصلاحيين التعامل مع القرآن بطريقة براغماتية: فهم يستحضرون الآيات التي تلائم مقاصدهم، فقط، ويتجاهلون تلك التي لا تتلاءم مع هذه المقاصد".

حول الحدود في الإسلام يقول أبو زيد: "إنّ الأحكام القانونية التي ورد ذكرها في القرآن -المسماة حدودًا- كالجلد والصلب والقتل (ولا أذكر "الرجم"، إذ ليس له أساس قرآني، إلا هذا الزعم العجيب بأنّ آية الرجم تم نسخها من المصحف، دون إلغاء حكمها) يكشف الدرس التاريخي أنها ليست أحكاما قرآنية؛ أي لم يُنشئها القرآن. هي أحكام مستعارة من الثقافات والتقاليد السابقة، من اليهودية والقانون الروماني، وربما من تقاليد أقدم. هذه العقوبات ليست أهدافا مُرادَة لذاتها، لأنها تنتمي إلى زمن لم يكن يُمكن التمييز فيه بين المجرم والإنسان العادي، إلا بإحداث هذه الآثار-العلامات في الجسم.

"في زماننا هذا يوضع المجرم خلف أسوار السجون. على المسلمين أن يميزوا بين هذه العقوبات "التاريخية"، وبين "العدل"، الذي هو الهدف والغاية، وهو مبدأ جوهري سارٍ في القرآن كله."

ويدرك نصر أبو زيد أنه بالنسبة لأغلب المسلمين فإنّ الفهم التاريخي للقرآن هو خطوة كبيرة، وهو ما يشرحه قائلا: "يخشى المسلمون من أنّ الكشف عن البعد الإنساني للوحي وللقرآن سيحوّله إلى نصّ بشري؛ هذا أمر مفهوم؛ ولكنه يجب ألا يعوّق جهودنا لفهم القرآن في سياقه التاريخي".

نصر حامد أبو زيد يسعى من أجل حقه الأساسي في أن يقرأ ويعيد القراءة في نصوص تقوم عليها حيواتنا ومسلكياتنا (الأغلبية على الأقل)، ووفقها تتحدد ملامحنا كأمة وكشعوب، وحتى يتم ذلك، فإنّ منظومة حقوق الإنسان في العالمين العربي والإسلامي (وعندنا أيضًا، في مجتمعنا العربي الفلسطيني) ستظلّ تنحصر في ندوات وكراسات تصدر بدعم خارجي، ليس إلا. هذه هي المعركة الأساسية والأولى والأهم، المعركة على القرآن وتفسيراته، والباقي رتوش برتوش.

(مُكاشَفة: غالبية هذه المقالة تجميع ورصد واستعراض لمقالات أخرى، وليست من وضع الكاتب بالضرورة، مما اقتضى التنويه.)


(زاوية "المتأمل" في ملحق صحيفة "فصل المقال")

هذه شِلتُنا


في أزمة مسرح "الميدان" الأخيرة، في سلسلة الأزمات منذ سنوات فيه، احتجت المتزحلقة في تناقضاتها بأنّه توجد "شلة" في المسرح متكاتفة ومتماسكة وهي تعمل ضد شخص ما أو أشخاص، ثم أراقت احتجاجها حبرًا على ورق، مثبتة جهلا ماحقا في العمل الثقافي والمسرحي بشكل عام، وهو التئام العاملين والمبدعين فيه في مجموعات فكرية وثقافية ومَشغليّة، تتفق على نفس المبادئ وعلى نفس الطرق وعلى نفس الوجهات. وفي غالب الأحيان، تتضارب هذه الرؤى مع رؤًى أخرى، لمجموعات أخرى، مما يُنتج مجموعاتٍ وشللاً لا تتفق مع بعضها البعض، كأقل ما يُقال، ولكن اختلافاتها تكتسب طابعًا جماهيريًا خاصًا، فضائحيًا أحيانًا، لأنّ أفرادها تحت الأضواء وفي العناوين، مع أنّ طوش الشلل بين المحامين والدكاترة والمهندسين وعمال البناء والنجارين، لا تقل ضراوة وعنفًا وهبوطًا، ولكنّ لا أحد يعيرها اهتمامًا؛ فمن يكتب عن خناقة المحامي الفلان في مكتب المحامي فلان، ضد المحامي علان الذي يعمل في مكتب المحامي علنتان، وعلنتان وفلان الأولان كانا شريكين ثم تشاجرا، ثم تفاضحا، ثم تبهدلا؟

(وهنا المكان للتدقيق: كلمة شلة هي عامية (في "لسان العرب": الشُّلَّة: الدِّرْع والنيّة والشُّلَّة: الأَمر البعيد تطلبه، والشَّلَّة: الطَّرْدُ) وأصلها الفصيح ثلة ("تاج العروس": الثلة بالضم: الجماعة منا، ومنه قوله تعالى: ثلة من الأولين. وثلة من الآخرين. قال الزمشري: ويقال: فلان لا يفرق بين الثلة والثلة: أي بين جماعة الغنم وبين جماعة الناس. الثلة بالكسر: الهلكة"). إذًا، فالثلة هي الجماعة، والاجتماع هو كُنهها، لا فرق بين الآدمين والحيوانات.)

هذا صحيح منذ فجر التاريخ، وهو ليس اختراعًا "ميدانيًا"، بل سبقنا إليه مبدعونا في الوطن، والشلة الأكبر تكونت في ظل الحركة الثقافية التي رعاها الحزب الشيوعي الإسرائيلي والجبهة. ولا نقول هذا من باب التقريظ أو "اللي بيتو من قزاز"، بل نقوله من باب المعلومية والتثبيت، ليس إلا، من دون أحكام أخلاقية سلبية، بل بالعكس تمامًا- هذا هو الطبيعي والسّويّ والمفروغ منه. فترى كُتابا يجتمعون سوية ويأتلفون تحت غطاء مجموعة تعمل لتأسيس تيار أو نهج بديل (مثل حالة "شوام" الأخيرة)، وترى مخرجا مسرحيا ومؤلفا وكُتابا ينتجون المسرحية تلو الأخرى، مع ذات الطاقم، لأنهم يتفقون على كل شيء، أو على معظم الأشياء، ويكفي أن نراجع بعض أراشيف الصحف والمجلات والمسارح الفلسطينية عندنا قاطبة، كي نرسم خارطة دقيقة لهذه التكتلات الثقافية. ولا يسعني هنا إلا أن أبارك، بصفتي الشخصية غير الشللية، على هذه المجموعات التي تحاول سوية سبر أغوار ما نسميه العملية الإبداعية، على مختلف أشكالها، واستبيان كُنه ما يعنيه الخلق، بجانبه الإنساني الدُنيوي.

والأمثلة العالمية والعربية كثيرة ولا حصر لها: مجلة "شعر" التي أسّسها ورعاها وقادها رهط من الشعراء المحدثين في الستينيات والسبعينيات في لبنان والعالم العربي، حتى تحول اسم هذه المجلة إلى رديف لجيل كامل من المبدعين، سُمّيوا "مجموعة شعر"، وعلى رأسهم أنسي الحاج وأدونيس. كما لا ننسى المجموعات الشعرية العراقية في تلك الأزمنة وما قبلها، والتي اندرج فيها السياب والبياتي وغيرهما، حين كان العراق نهضة الحداثة (لمن يرغب، يمكنه مراجعة كتاب "شارع الأميرات" لجبرا ابراهيم جبرا، عن الحياة الثقافية في العراق ونشوء الشلل الإبداعية والثقافية في تلك الأزمنة).

ومن هناك يمكن أن نعرّج عائدين بالزمن إلى فترة شكسبير المسرحية والأدبية، حيث جمع جيمس بربيجي، كمدير، من حوله مجموعة مسرحية أنتجت وأخرجت أعمال شكسبير إلى النور، ومن بعده ريتشارد باربيج الذي أدّى غالبية الأدوار الرئيسية وقتها في مسرحيات شكسبير (هاملت، عطيل، ماكبث، شايلوك، الملك لير، وحدث ولا حرج). وقد كانت هذه المجموعة متجانسة في أعمار أفرادها وفي اهتمامها المسرحي (تأليفا وإخراجا -مع أنّ المفهوم لم يكن متطوّرا وقتها- وتمثيلا)، وشكّلوا وقتها ما نسميه اليوم "البوهيمية" اللندنية.

ومن إنجلترا إلى إيرلندا، حيث تشكلت مجموعة (شلة) من الكتاب المسرحيين في مطلع القرن العشرين، ومنهم: ويليام باتلر ييتس، ليدي غريغوري، جون ميلينغتون سينج، وأصغرهم سنا شون أوكيسي، حيث شكلوا سوية "شلة مسرح بابي ثياتر". وفي سنوات الستين المتأخرة، وبالذات على خلفية مناهضة الحرب الأمريكية على فيتنام، تأسست عدة مسارح جماعية كونتها "شلل" مسرحية، مثل "سان فرنسيسكو ميم تروب"، أو "مسرح كومبسينو" الخاص بالمهاجرين المكسيك، أو مسرح "الخبز والدمية" الذي أسّسته "شلة" بيتر شومن، ولكن أكثرهم شهرة في هذا المنحى كان "ليفينغ ثياتر" التابع لجوليان بك وجوديث مالينا. ولو قُيض لي أن أكون ملحاحًا أكثر لأوردت أمثلة أخرى، ولكن سأكتفي بأمثولة أخرى من بولندة، حيث نشأت وعملت وأنتجت "شلة" تديئوش كانتور، التي كانت شلة بالمعنى المتطرف للكلمة، حيث كانوا "كومونة" مسرحية ضلعت بالفن التشكيلي أيضًا (ولن ندخل غمار شلل الدادا وشلل الروسيين ماياكوفسكي وغوركي).

لماذا كل هذا؟.. أولا، كي تُوضع الأمور التاريخية والثقافية في سياقها الطبيعي، حول بديهية اجتماع مبدعين حول نهج ومسار ورؤية مشتركة، ولكن السّبب الأهم هو درء الاتهام عن هذه الظاهرة الإبداعية الخلاقة والجميلة، وتثبيتها كمتطلب أساسي لا غنًى عنه للعمل والإنتاج. ولكن ما يقضّ السكينة، حقًا، هو ليس الجهل والتباهي به، بل أنّ مُطلقي هذه الويلات هم أنفسهم أبناء لشلل ثقافية وشعرية وتشكيلية، ونحن لا نعيب عليهم هذا، ولكن نعيب عليهم أن يتهجموا على ظاهرة هم جزء منها، وهم نسوا أو تناسوا الحديث الجميل: لا تنهَ عن خلق وتأتي بمثله!

فليس أجمل من طمأنينة المرء وهو يسعى مع رفاق درب، يستميتون من أجل هدف معين (الشيوعية، الاشتراكية، القومية، الفن من أجل الفن)، يساندونه ويساندهم، ينهلون منه وينهل منهم، يحملونه ويحملهم. من لم يضلع في العمل الثقافي والإبداعي المرهِق (خصوصا في حياتنا هنا في هذه البلاد الغبية)، لا يمكنه أن يثمّن قيمة الشلل والمجموعات التي تقوم، سعيًا نحو برّ اليقين، أو، وفي الغالب، الاكتفاء بشرف السعي، فقط.

قال المقرّظون "أنا في شلة، إذًا أنا موجود". هذا صحيح في الكثير من جوانبه، ولا ننكر حق التفرّد والانعزالية اللذين يختارهما مبدعون مختلفون. ولكن، هل يدرك بعض المُقرّظين أنهم غير موجودين، لا في الشلة ولا وحدهم؟



طاش ما طاش

تململ وتبعثر نبيل عمر، مستشار الرئيس الفلسطيني، في استوديو قناة "الجزيرة" في واشنطن، ليلة الثلاثاء، وبدلا من أن يدلي بحججه حول ملتقى أنابوليس السخيف، اختار أن يهاجم "الجزيرة" لأنها تعطي الوقت لاستوديو الدوحة أكثر من واشنطن، "مع أنّ الحدث يجري في واشنطن"، كما قال. ولماذا الغضب؟ لأنّ استوديو الدوحة استضاف د. عزمي بشارة، كمحلل لمجريات أنابوليس، بحث ألقى الضوء في بث مباشر على خطابات بوش وأولمرت وعباس، رافضًا الانضمام إلى جوقات التبعية العربية التي دفقت إلى أنابوليس لتحتفل بـ... لا شيء.

وزاد عمرو بتهجمه على بشارة وألمح إلى أنّ "الجزيرة" تفضله على غيره، واستسهب في غيه حين ألمح إلى ترك بشارة لوطنه قسرًا بعد حملة الشاباك ضده. ولكن ما يثلج الصدر ردّ بشارة الواضح عليه وعلى ما يمثله هذا الفاسد الذي حظي ببعض رصاصات الفلسطينيين الشرفاء قبل سنة أو أكثر، لفساده. ولن ندخل في تفاصيل الردّ، ولكن لنكتفِ بنموذج من الديماغوغية البراقة التي انتهجها عمر في نقده لبشارة: ماذا تريدون منا؟.. نحن هنا مع الأشقاء العرب. ألا يعجبكم هذا؟

قال هذا، مع أنّ بشارة انتقد بالأساس غياب الضلوع العربي حقيقي في قضية فلسطين وتحويلها إلى قضية الفلسطينيين ،فقط، أي أنه كان يدعو إلى عودة العالم العربي لاحتضان فلسطين، وليس الهرولة إلى لقاء بائس وسخيف في أنابوليس. لن نقول إنّ عمرو عانى فهم المسموع وقتها، فهو أذكى من ذلك، ولكن كانت هذه أمثولة في بث وحي ومباشر كيف يمكن لهذه المجموعة من أبناء شعبنا الفلسطيني وقيادته أن تزوّر وتكذب وتقلب الحديث، عنوة ومن دون خجل، من دون أن ينسوا طبعًا أن يلبسوا على وجوههم أقنعة الزعل والعتب ونبرة "بديش ألعب".

شكرًا لـ "الجزيرة" لأنّ بشارة ضيفها الأساسي في هذه المرحلة التعيسة التي نحياها، وتخيلوا أن نبيل عمرو أو ياسر عبد ربه كانوا ضيوفها ومُحلّليها!



(زاوية "المتأمل" في صحيفة "فصل المقال")

عن "قدسية" المسرح و"دُنيَويِّة" المَسرحيين


أستبق نفسي، وأستبقكم، لأقول سلفًا إنّ المسرح ليس مُقدّسًا، وإنّ خشبته ليست منسوجة من أجنحة ملائكة الرحمن، والعَرَق الذي ينصبّ عليها لم يُنشَل من نهر الكنج أو من بئر زمزم، كما أنّ النصوص التي تُمثّل وتُتلى فيه ليست من وحي واحٍ أو من نهل خالق، بل هو، المسرح، بأهله وفنونه وحرفيّته وجمهوره، دُنيَويّ، مُرتبط بحيثيات الدنيا المُعاشَة وبتفاصيلها وبمشاكلها وبمُنغّصاتها، بجدّيتها وبهزلها، ما هو سامٍ منها وحقير، وما هو أصيل منها وذليل.

وقد استفحل تقديس المسرح في جنباتِ حيواتنا، هنا، الآن، حتى إنّ بعضهم (ممّن لا يفقهون بالمسرح ونواحيه إلا القليل) يقولون في
لحظات ألم وتألّم (مُزيّفة في الغالب) إنهم لا يصدقون "أنّ أمورًا كهذه (أيَّ شيء لا يروقهم، لا يهمّ ما هي هذه الأمور) تحدث في المسرح، رمز القدسية"! فبناء مثل هذه الهالة حول فعل هو في كينونته وصُلبه فعل إنساني يأتي للتدليل على مفهوم الإنسانية والإنسان، هو تضييع لفرصة ذهبية للتعامل مع المسرح كما يتعامل معه في الغالب الغرب والشرق الأقصى، على أنه تعقيب على الواقع، وليس عكسًا له، وهذا التعقيب غالبًا ما يكون قاسيًا وبذيئًا (من دون شتائم بالضرورة) ولا يرحم في دينونته وارتباطه بشؤون الدنيا القبيحة والهابطة.

(بعض العرب يدّعون أنّ المسرح هو صِنعة عربية، ويستشهدون بالسّماجة والكُرَّج والمُحبّظين والحكواتية، وما هم بهذا مُصيبون، إذ أنّ مُقوّمات الفرجة العربية التي بدأت في عصر بني أمية وازدهرت عند العباسيين وتبدّلت وتغيّرت عند الفاطميين وغيرهم، ليست هي مقوّمات المسرح الذي يعرفه العالم اليوم. وحتى مارون النقاش، رائد المسرح العربي الحديث الذي ألف وأخرج أول مسرحية عربية عصرية عُرضت في العام 1847 في بيروت ("البخيل" لموليير)، نَهَلَ من الغرب وفنونه واستعار نصّ موليير وطرائق الفرنسيين في التمثيل والغناء والرقص على المسرح، وفي أثره سار السائرون أمثال يعقوب صنوع والريحاني، حتى يومنا هذا. ونضيف، من باب السرعة والعجالة، أنّ المغرب العربي طوّر وما زال يطوّر أساليب فرجة مُرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالفرجة العربية القديمة، وعلى رأسهم الطيب الصديقي، ولكنّ هذه الفِرَج السلفية في بعض جوانبها تظلّ الشواذ التي تدلّ على القاعدة، اليوم).

إذًا، فإنّ رفع المسرح، كفعل وحالة مُقدّسيْن، فوق الدُنيويّ الجاري اليومي، فوق "الهابط" و"القذر"، هو قتل لروح المسرح وهدفه كفعل درامي-تغييري-تحريضي لتشجيع المتلقي على إعادة نظره في حياته التي يحياها. والمسرح في هذا مَثَلُه كمَثل أحد المُعلمين الذين أغدقوا عليّ بوسائل مُعينَة على الفهم الدرامي، حين قال إنّ وظيفة المبدع (والسياق هو الإبداع الدرامي) أن يعيد للسّاكن بجوار البحر (وقد توقف عن سماع صوت الموج) قدرته على سماع صوت الموج ثانية. وأجد في هذا الفعل الباعث على القلق سببًا أولَ ورئيسًا لسوء فهم المسرح على أنه مُقدّس، والقُدسية كما نعرف تتوخى الطمأنينة والتسليم والخنوع. فالمسرح، كفعل إبداعي حقيقي، هدفه تكسير القدسيات والمقدسات، وإلا لخالف ماهيته الأولى التحريضية. وهو في هذا يتبع ما قاله المتنبي "على قلق كأنّ الريح تحتي"، فإذا وصل المسرحي إلى أرضية صلبة لا ريح تحتها فليعتزل، هذا من دون الحديث عن جميع الذين لم يسمعوا هبوب الريح من تحت أقدامهم ولو مرة واحدة في حيواتهم.

كما لا يفوتنا أن نلتفت في هذا السياق إلى أنّ الفعل المسرحي- الخشبي يستند في الأساس إلى الصراع وحيثياته، والصراع غير قائم في المُقدّس ووجوده فيه غير وارد، حتى في أكثر العقول توفيقية. فالصراع، كموقف دراميّ ووجوديّ، هو حصيلة السّعي نحو بعث الاضطراب والخلخلة، نحو القضاء على كاتم أصوات الأمواج، كي تعود للهَدر ثانية. فبحرٌ من غير أمواج هادرة هو بحر ميت، حتى لو كان مقدسًا، وأكاد أجزم أنه ميت لأنه مقدس.

وقد يكون المجال اتسع الآن لإيراد الجملة التي تدور في رأسي وهي: "المقدس الوحيد في المسرح هو الدّنَس، ليس إلا".

فالدَّنَس، كحالة فكرية طليقة، هو التجسيد الحقيقي لكل مسرح يسعى لصفع المشاهد(ة) وبعثه إلى بيته في نهاية العرض، آمرًا إياه بأنه عندما يضع رأسه على المخدة، وقبل أن يغمض عينيه إغماضة النوم الأولى، فليتوقّف للحظة وليحلّق في سقف الغرفة المعتم وليسأل نفسه: هل أنا دَنِسٌ إلى هذه الدرجة؟...

في العام 1975 كتب الشاعر والباحث الثقافي العربي المعاصر أدونيس (محمد سعيد) ما أسماه "بيان المسرح"، ثبّت فيه رؤيته إلى وضع المسرح العربي، وسعى، في هذا المانيفست المتين، إلى تبيان مواطن الضعف التي تمنع العربي (ذا الثقافة الإسلامية؛ أي جميعنا، مسلمين ومسيحيين) من إنتاج مسرح كما نودّ أن يكون، أي على شاكلة المسرح الغربي، والمسرح الياباني كذلك. فأدونيس يكتب بوضوح أنّ المسرح ضد الأيمان وضد المقدس، وأنّ الثقافة الدينية التي تمنح المرء جميع الأجوبة الجاهزة والناجزة عن حياته ووجوده وموته وتفاصيل البعث والحساب، إلى جانب إرشادات الأكل والشرب والنوم والمضاجعة، لا تترك مَجالا لطرح الأسئلة التي يسعى المسرح إلى طرحها؛ أسئلة التشكيك في كل شيء، حتى في الذات الإلهية. فمن وجهة نظر أدونيس ليس بوسع العرب (حتى الآن على الأقل) أن يكتبوا "ناطرين غودو" الخاصة بهم، لأنهم لا ينطرون "غودو"، فهو عندهم موجود وقائم من الأزل إلى الأبة(على عكس ما يُشاع عن أنّ كلمة "غودو" هي كلمة اخترعها صموئيل بيكيت ولا تعني شيئًا، إلا أنها كلمة فرنسية وتعني "أُليّه"، أي تصغير لكلمة إله، God. وفي رأيي أنّ هذا اللبس في فقدان معنى الكلمة ضَيَّق من مفاهيم المسرحية والتعامل معها كثيرًا، فالبَطلان ينتظران إلها صغيرًا، وهو لا يأتي، وعملية انتظارهما التي تبدو فارغة وعبثية، هي حيواتنا جميعًا، في الواقع).

لم يكن هذا التعامل "القدسي" أو "المقدس" مع المسرح ليبعث على الكتابة أو المحاججة لولا أنه يشكل –في نظري وفكري- عائقًا أساسيًا أمام تطوّر لغة مسرحية عصرية بعيدة عن وشائج وشجون ومبتذلات المسرح الفلسطيني خصوصًا، والعربي عمومًا، التي تطرح قضايا الإنسان في قالب عصيب شديد المراس والجدّية، لا يتعدى كونه "كيتش" مُبتذلاً، تأثر كثيرًا في نظري من أسلوب تمثيل وإخراج المرحوم يوسف وهبي، غفر الله له على جميع خطاياه المسرحية. فنحن لا زلنا نرى، في العام 2007، ترسّبات يوسف وهبي في مسرحنا؛ نرى الثقل والمحدودية والاختباء وراء الشعارات المحتشمة -ليس في مضامينها، فكلنا ثوريون طبعًا- بل في مدى صفاقتها ووقاحتها، حيث أنّ المسرحي المهذب واللطيف وغير الوقح هو في النهاية موظف صغير "يختم كرته" وينتظر تصفيق الجمهور المؤدّب في نهاية العرض الاحتفالي، وينتظر تمجيد كاتب أخرق في جريدة نهاية الأسبوع عن كون عمله "جديًا" و"ملتزمًا" و"عميقًا" و"فلسفيًا"، بدل أن يكتبوا ما يصرخ به كل طفل في وجه الملك العاري: هذا عمل مُمل، جاف، سطحي، شعاراتي، مبتذل ومُهين- ولكن، والأهم: هذا عمل جبان!

هذه الجدية المفرطة في التعامل مع الفعل المسرحي مَردّها إلى القناعة بأنّ المسرح "مقدس"، أي أنه ساحة وغىً يروح فيها الفلسطيني ويجيء، حاملا وطنه بالكفّ اليمنى، وسيفه بالكفّ اليسرى، "ومافي خوف مافي خوف، الحجر صار كلشنكوف". نحن نعرض إلى هذا ببعض السخرية، لا استخفافًا بفعل المقاومة وشعاراتها، بل كي نثبت ما لم يثبته أحد حتى الآن، سوى واحد أو اثنين كما أعرف، بأنّ الغالبية الساحقة من المسرحيات الفلسطينية التي أنتجت حتى اليوم، يمكن أن تُختزل في مقالة سياسية شعاراتية من ألف كلمة أو أقل في صحيفة "جدية" وملتزمة، وكفى المسرحيين شرّ النزاع. من لديه شعار سياسي ليطرحه فليكتب مقالة، فالمقالة لا تكلف شيئًا بينما تكلف المسرحية الواحدة عشرات وربما مئات ألوف الشيكلات. ومن يعتقد أنّ المسرح مقدس فليفتح بسطة أمام المسجد أو الكنيسة وليبِع مشاهدَ دراماتيكية "عميقة" للرائحين والغادين.



مطر
لن أستزيد في تعصبي للمطر وكرهي للصيف، فقد استزدتُ وأفضتُ فيما مضى، ولكن لن يَضير مُحبي المطر أن نشدّ على أياديهم في هذه الأيام الجميلة، في وجه مُحبّي الصيف والحرّ ومُبغضي الشتاء، قاتلهم الله شرّ قتال.

ويكفينا أنّ الخدر هو المطر، لأنه يخدّر الناس في بيوتهم، فهذا فعل الشتاء بنا، وما أجمله (مع كثير من النبيذ). ولا يقلّ جمالا أنّ المُستمطِر هو الرجل السّاكت، حيث يُقال: "مالَكَ مستمطرًا؟"، أي ساكتا. وحُكي عن مبتكر الكلابي قوله: كلّمتُ فلانا فأمطرَ واستمطرَ، أي أطرق. واستمطرَ: سَكَتَ، واستمطرَ الرجل: استكن من المطر. واستمطر للسّياط: صبر عليها (معجم "تاج العروس"). ففي المطر السكوت والصبر، وفي الصيف الجلبة والضوضاء.

والمطر يبعث الناس على الحبّ وقول الشعر، حتى من ذهب عقلهم (من "الأغاني"): وقال الهيثم بن عدي في خبره، حدثني عبد الله بن عياش الهمداني، قال حدثني رجل من بني عامر، قال: مطرنا مطرًا شديدًا في ربيع ارتبعناه، ودام المطر ثلاثا ثم أصبحنا في اليوم الرابع على صحو وخرج الناس يمشون على الوادي. فرأيت رجلا جالسا حجرة وحده فقصدته، فإذا هو المجنون جالس وحده يبكي فوعظته وكلمته طويلا وهو ساكت لم يرفع رأسه إليّ، ثم أنشدني بصوت حزين لا أنساه أبدًا وحرقته:



جرى السّيلُ فاستبكاني السيلُ إذ جرى

وفاضـــــت له من مُقلتي غروبُ

وما ذاك إلا حين أيقنتُ

أنه يكونُ بوادٍ فيهِ قريبُ



(زاوية "المتأمل" في صحيفة "فصل المقال")

خلّي الرّحم صاحي



أستُهلّ بيان صحافي وصل بريد الصحيفة الإلكتروني، الخميس الماضي، بهذا المستهلّ: "طالب النائب الشيخ عباس زكور (القائمة العربية الموحدة والعربية للتغيير)، اليوم الخميس، وزير الصناعة والتجارة بتوفير الميزانيات خلال السنوات القريبة القادمة لإيجاد وبناء أماكن عمل وتحسين كافة الشروط والتسهيلات من أجل دمج النساء العربيات في سوق العمل، ومن ضمنها بناء حضانات للأطفال تحت جيل 3 سنوات في البلدات العربية". هذا جميل طبعًا، هذا الخوف والتخوف من البطالة المتفشية بين النساء العربيات، ولكن للمعادلة شق آخر في بيان زكور، صاغه كما يلي: "حذر النائب زكور من المعطيات الخطيرة التي نشرتها دائرة الإحصاء المركزية الاسرائيلية هذا الأسبوع والتي أظهرت انخفاضا متواصلا في عدد الولادات لدى النساء العربيات، وبالمقابل ارتفاعا في عدد الولادات لدى النساء اليهوديات، الأمر الذي جعل بعض وسائل الإعلام العبرية تتساءل عن إمكانية حدوث انقلاب ديموغرافي في إسرائيل لصالح الولادات اليهودية". ويستمر البيان: "وبحسب ما نشرته دائرة الاحصاء المركزية فقد بلغ عام 2000 معدل عدد الولادات للمرأة العربية المسلمة 4.7 أولاد، وقد انخفض هذا العدد عام 2005 إلى 4.1 أولاد، ثم انخفض عام 2006 إلى 4 أولاد. وبالمقابل بلغ عام 2000 معدل الولادات للمرأة اليهودية 3 أولاد، وانخفض هذا الرقم عام 2005 إلى 2.8 أولاد، ثم ارتفع عام 2006 إلى 2.9 أولاد".
حتى هنا الاقتباسات. زكور قلق إذًا من "انقلاب ديموغرافي"، وهذا القلق تترجم في السابق في دعوة سابقة له هذه السنة، تحثّ النساء العربيات على تحويل أرحامهنّ إلى أداة نضالية، "تبذر" الأرض بذرًا، أرضَ فلسطين التاريخية، بالأطفال تلو الأطفال، حتى يتسنى لنا، بإذن الله تعالى، تحقيق أغلبية عربية في دولة اليهود، حتى سنة 2050 أو 2080، لا يهمّ؛ ما يهمّ هو أن تعتزل النساء كل نشاطات أخرى وأن يشترينَ الفستق الحلبي والجرجير ويُطعمنَ أزواجهن بكثرة، كي يظل الرجل العربي الفلسطيني مناضلا أشوسَ في السرير، يزرع الطفل تلو الطفل في رحم زوجته، فالمعركة حامية، و2050 تقترب، وماذا سيقول عنا الجيران لو لم نلد 10-15 ابنا وابنة (مفضل ابن، ولكن نحمد الله في كل الأحوال)؟
من كان يعتقد أنّ تصريحات النائب زكور السابقة حول تجهيز أرحام أمهاتنا وأخواتنا وزوجاتنا للانضمام إلى المعركة، هي تصريحات عابرة نتجت عن حماس زائد لعضو كنيست طازج يده طرية وخفيفة على زناد البيانات الصحافية- فقد خاب ظنه. ها هو زكور مُستمر في حرصه، وربما هوسه، الديموغرافي، ومعطيات الدائرة المركزية للإحصائيات تثبت تخوفاته، ولذلك، فهيا يا مسلمين ويا نصارى، إلى الجهاد (السّريري)!
ليس هناك ما هو أكثر رجعيةً من نهج زكور في هذه القضية؛ فأولا، من قال إنّ تفريخ الأطفال هو الحلّ لمشاكل الأقلية العربية الفلسطينية في دولة اليهود، وهل يعتقد أحد حقا أننا حين نصير أكثر من اليهود بواحد سنسيطر على الدولة حقًا؟ وثانيا، ألا يكفينا إجرام وجهل وإهمال، حتى نزيد من أعباء العائلات العربية، فبدلا من أن يسعى الأهل لتربية وتعليم وتثقيف ولديْن أو ثلاثة، عليهم أن يسعوْا لتوفير الخبز الحاف لستة أو ثمانية، حيث يربون جميعهم ليكونوا أنصاف أميين؟ وهل سأل أحدهم نساءَنا إذا كُنّ يرغبنَ في أن يتحوّلنَ إلى مفرخة تفقيس من أجل القضية، وإذا كانت القضية "ما بتنحل إلا بدولة وهوية"، فأية هوية سننُتج في العام 2050 أو 2070، وأية دولة سننُشئ؟ دولة عالم خامس تغصّ بأبنائها الطيبين (والحفاة، العراة، الأميين)؟
ثم لنكن صريحين قليلا: ما الفرق بين هذه الدعوات وبين دعوات المؤسسة الصهيونية لتحويل الرحم "العبري" إلى مصنع للجنود يحمون الشعب اليهودي؟
لا أجد حقا أيّ رابط بين شقّيْ البيان الصحافي الذي ابتدأنا به، سوى هذا الرابط: زكور يسعى من أجل توفير حضانات للنساء العربيات، وذلك لتشجيعهنّ على الخروج للعمل، كي يتحملنَ مع أزواجهنّ عبء تربية 6-10 أولاد، ولكن من دون أن يعطل هذا على رغبتها وقدرتها على الإنجاب المُجنَّد، بحجة "وين بدي أحط لولاد؟". يعني عصفورين بحجر: أنجبنَ يا نسوة، واعملنَ، وسيرى الله عملكنَ ورسوله وزكور.

يونس
توفي هذا الأسبوع الفنان المصري يونس شلبي، بعد نزاع مرير مع المرض. يونس، البطل الكوميدي بجدارة، رحل عن العالم بمأساوية كبيرة. فنهايته كانت صعبة ومهينة، حتى اضطر إلى استجداء أثمان الدواء والعلاج في آخر أيامه. فبعد أن تخلت عنه نقابة الفنانين المصريين وباع كل ما يملك لتغطية نفقات العلاج والأدوية، استجاب وزير الصحة المصري لندائه لتوفير نفقات علاجه على حساب الدولة أسوة بزملائه من الفنانين. وقد بلغ ثمن فاتورة مستشفى "المقاولون العرب" الذي أجرى فيه العملية الجراحية الأخيرة أكثر من 30 ألف جنيه!
وعن وضعه الصحي المتردي، قال شلبي في تموز 2005 إنه أجرى عدة عمليات جراحية، منها زراعة شرايين في قدميه وقلب مفتوح وأخيراً عملية لحام عظام القفص الصدري بمستشفى "المقاولون العرب"، وإن ذلك كلفه الكثير من المال، مما جعله يعاني مادياً، خاصة أنه ظلّ لفترة طويلة يعالج من جلطات كثيرة تعرض لها في الساق والمخ وتلقى علاجاً لفترة طويلة في أحد المستشفيات السعودية المتقدمة. وقال شلبي: "أنا لم أطلب من أحد أن يعالجني لأنني قدمتُ للدولة الكثير وكنت أقوم بدفع الضرائب المستحقة عليّ، وحان الوقت الذي تقوم فيه الدولة بردّ الجميل لأبنائها، ولذا كنت أناشدها أن تكرمني كما كرمت العديد من الفنانين في الإنفاق على علاجي، فهذا آخر ما كنت أتمناه في ظل ظروفي الراهنة، خاصة أنني أقوم بشراء أدوية غالية السعر (...) قمتُ ببيع كل ممتلكاتي في المنصورة من أجل توفير نفقات العلاج، وقد تكلفت الكثير وكان المبلغ الذي يطالبني به مستشفى "المقاولون العرب" فوق طاقتي، وأنا لي 6 أبناء ما زالوا في مراحل التعليم ويحتاجون مصروفات عالية من أجل استكمال دراستهم. وأنا أصبحت الآن لا أملك شيئاً سوى السّتر، لأنّ النقابة التي أنتمي إليها لم تقم بأيّ عمل تجاه أيّ واحد من أبنائها؛ ففي مثل هذه الحالات كان يجب عليها أن توفر لي الرعاية الصحية الكاملة، وحتى الآن لم أرَ نقيب المهن التمثيلية ولم أسمع صوته، وليس للنقابة أيّ دور في علاجي أو حتى مساعدتي مالياً، خاصة أنّ النقابة لا تسأل عن فنان يعاني المرض. وأسأل نفسي اليوم: "هل دورها الوحيد هو عقد الاجتماعات والتصريحات فقط؟ أم أنّ دورها إنساني بالدرجة الأولى ومساعدة الحالات الخاصة لأيّ فنان؟" وقالت زوجة شلبي إنّ زوجها يعاني الآن عدم التركيز في بعض الأحيان.. وذلك بسبب الجلطات التي تعرّض لها في المخ (جريدة "حديث المدينة" المصرية، 13 تموز 2005).
هكذا مات يونس شلبي، وهو الذي أضحك جيلا كاملا. أضحكنا لأنه "ما بجمَّعش" ومات "ما بجمَّعش".


(زاوية "المتأمل" في ملحق صحيفة "فصل المقال")

تُعسًا للسياسة، مرحًى للفنّ؟



يثير فيلم "العرض الأخير" (أو "زيارة الفرقة الموسيقية"، بالعبرية)، مُجددًا، مسألة لا تزال تشغل السينما الإسرائيلية المحلية، والفلسطينية أيضًا، وهي ببساطة: لمن نصنع السينما؟ للجمهور المحلي أم للجمهور العالمي، طمعًا في بيع تذاكر في العالم، أم نصنع سينما تلبي رغبات المُموّلين (الأوروبيين في الغالبية الساحقة)؟ ولا تزال هذه المسألة حاضرة بقوة في السينما الإسرائيلية والفلسطينية لأنّ التمويل السينمائي يأتي في معظمه من الغرب، من إنتاجات مشتركة مع جهات وصناديق أوروبية، وبالأخصّ الحديث هنا مُتركّز في السينما الفلسطينية التي لا تملك أية مصادر تمويل فلسطينية، على عكس السينما الإسرائيلية التي تتمتع بدولة ومؤسسات وميزانية سنوية تتراوح بين 70-80 مليون شيكل، ومع ذلك فهذه ميزانية ضئيلة جدًا يتوجب أن تكفي لتمويل أفلام روائية وتوثيقية وتجريبية ولتمويل ودعم مراكز السينماتك والمهرجانات ومعاهد التدريس، وغيرها.
ومما يدفع إلى طرح هذه المقارنة أو المقاربة بين السينما الفلسطينية وتلك الإسرائيلية، في سياق هذا الفيلم الذي حاز جوائز السينما المحلية وجوائز أخرى دولية، وجرف وما زال الإعجاب في جميع أنحاء العالم، هو أنّ إسرائيليين وفلسطينيين عملوا على إعداده والمشاركة فيه، جنبًا إلى جنب، مع أنّ كلمة فلسطين لا تظهر في أسماء الدول المنتجة، إذ أنّ الفلسطينيين في الفيلم هم من الأقلية العربية الفلسطينية في البلاد، وبالتالي ظللنا مع جهة إنتاج إسرائيلية (وهذا يطرح مسألة لا يزال البعض يرى فيها إشكالية، أن يعمل فنانون فلسطينيون في السينما الإسرائيلية، ولكن لهذا باب آخر).
المسألة التي بدأتُ بها سأعود إليها: فيلم "العرض الأخير" هو فيلم مصنوع للغرب، أي لأوروبا، وبالتحديد وفق الذوق الفرنسي، من ناحية الكتابة والإخراج والتمثيل والتوليف والموسيقى. بعض هذه العناصر ناجحة فيه إلى حدّ كبير (الموسيقى، وبعض التمثيل، وبالأساس خليفة ناطور الممتاز) وبعضها جاء وفق المعيار (الشبلونة) التي لا زالت تُخضع لها جميع من يريد أن يصنع فيلما فنيا (أو "صغيرًا"، كما يُحبّ السينمائيون تسميته وهم يتمايلون فوق فنجان إسبرسو، كأنّ الفيلم الكبير ليس فيلمًا جيدًا). أهم مواصفات هذه المعايير: كُن بطيئًا. وبعد أن تكون بطيئًا يُفضل أن تُبطئ قليلا آخر، ثم بطّئ قبل المنتصف، وبعد المنتصف، ولا تُسارع في الحبكة، ولا تبنِ تشويقًا، وإياك إياك أن تجعل المشاهد يهتم بما سيجري وينتظر النهاية بشوق، ولا تكتب قصة مع بداية ووسط ونهاية ولا تبنِ شخصيات متكاملة، واجعل المشهد يدوم دهرًا، ولا تُسارع في الوتيرة في الفصل الأول والثالث من الفيلم، فعندها سيقولون عنك إنك "هوليوودي"، أي تجاري، أي غير فني، أي غير مثقف، أي غير عميق، أي غير فنان، أي أنك "لم تفاجئ"! هكذا، يكتسب فعل المفاجأة مفارقة مسلية: بدلا من أن يفاجئنا الكاتب والمخرج في الفيلم نفسه، في حبكته، في تطور قصته، يفاجئنا بمدى فنيته وضلوعه في البُطء وعدم المفاجأة. أي أنك مفاجئ في جرأتك على عدم المفاجأة. يعني زي غودار.
لا أريد أن أكون متعصبا ومتطرفا مثل ثلة "الفنانين" السينمائيين الذين يرفضون كل مبنى "هوليوودي" كلاسيكي للفيلم كقصة (مع أنّ هذا المبنى هو من وضع أرسطو، أعزائي، ولكن لا مجال للخوض في هذا الآن)، ولن أنفي هذا التوجه في العمل السينمائي كلية، ففيليني وتريفو أبدعا في مثل هذا التوجه، بينما أنتج غودار وغيره من الجيل الفرنسي، "الموجة الجديدة"، سينما مُملة، "فلسفية"، إدعائية وغير مثيرة، ما زال ضحاياها من السينمائيين الشباب يسقطون على جوانب الأفيشات، يومًا بعد يوم. هذا الفيلم وغيره كثير عُمل كي يلائم ذائقة الأوروبيين بالأساس، وهي ذائقة لا بأس بها، ولكنها ليست الذائقة التي يحبها ويطلبها أهل هذا المكان. ستقولون: هذه مقولة الفنان الفنية ولن يغيرها من أجل العرض والطلب. لا بأس، ولكنهم يغيرونها من أجل العرض والطلب، إنما في السوق الغربية وليس من أجل السوق المحلية. هذا هو الفارق برُمته!
ففيلم "العرض الأخير" أوغل في هذا التوجه، واختار مخرجه عيران كوليرين أن يصنع فيلمًا على هذا النسق، فيلمًا لا يستغل بداية ممتازة مثل ضياع فرقة شرطة الإسكندرية المصرية في بلدة في جنوب إسرائيل، كي يأخذنا في رحلة اجتماعية-سياسية-مؤلمة-مفرحة كما يتوقع كل من يجلس ليشاهد الفيلم. فكوليرين يعالج هذا الموضوع بقفازات حريرية، وهو يتجاهل السياسة الكامنة في كل لحظة من لحظات الفيلم، عنوةً ووقاحة، كي يقول لنا، ولنفسه بالأساس: لقد صنعت فيلما فيه عرب ويهود ولم يكن عن السياسة. هذا حقه طبعًا، ولكنه لي، كعربي في دولة إسرائيل وفي الشرق الأوسط، فيلم سخيف يجاور التفاهة في مشاهد ومقاطع معينة، وهو في مُجمله، رغم جمالية بعض عناصره، ورغم بعض اللقطات الجميلة التي تدخل في باب "الإنسانية"، لا يرقى بأيّ شكل من الأشكال ليكون فيلمًا جديرًا بالإعجاب، لأنه اختار ببساطة أن يتنازل عن صراع أساسي في الفيلم. ومع ذلك، يحتضن العالم هذا الفيلم، ولنفس السبب: فيلم عن عرب ويهود ولا يطلقون النار على بعضهم البعض! يا للفرح!
مرة أخرى: من حق المخرج والكاتب أن يفعلا ذلك، ولكن عندها، في وسط هذا التجاهل المريب وغير المفهوم، لا يُفهم في نهاية الفيلم لماذا اختار فرقة مصرية ولم يختَر فرقة تايلاندية مثلا. فتبديل قومية أعضاء الفرقة الموسيقية لن يؤثر للحظة على مجريات الفيلم وسيره وسيظل في نظر صانعيه ومُحبيه من المشاهدين "أمثولة (أليغوريّا) إنسانية عن الحب والبحث عنه" (طبعًا، مع تغيير حبيب شحادة حنا لنوعية الموسيقى من مصرية إلى تايلندية). لا بأس في ذلك، ولكن قرار التعامل مع فرقة مصرية هو قرار مصيري يجب احترامه من طرف القيّمين على الفيلم، ولا يمكن تجاهله، عمدًا وعن سابق إصرار، بدعوى أننا لا نريد إنجاز فيلم سياسي. لا بأس، لا تنجزوا فيلما سياسيًا، وافعلوا ذلك باختيار "أغيار" من قومية أخرى، ولكن لا يمكن فعل ذلك باختيار أكثر المواقف سياسية في العالم وإفراغها من السياسة التي فيها، فهذا عدم فهم أساسي للقصة التي تطرحها؛ هذا ليس هروبا من السياسة إلى "الإنساني" (وأنا لا أعرف ما الفرق بينهما صراحة)، بل أجندة سينمائية وسياسية لم تخرج إلى حيّز التنفيذ كما يجب.


"بدنا ناكل بدنا نعيش"
تذكّرتُ هذا الأسبوع الشعار أعلاه "بدنا ناكل بدنا نعيش/ أكلكن بكفيش"، الذي كنا نردده بحماسة في ساعات الظهر في المخيمات الكشفية الصيفية التي كنت أواظب على حضورها، عندما سمعتُ بإضراب كتاب السيناريو في أمريكا، الذي "اندلع" مطلع هذا الأسبوع. وتلخيص الدافع أنّ نقابة كُتاب السيناريو الأمريكيين والذين يعملون في أمريكا وقعوا في منتصف الثمانينات على عقد جماعي يمنح الكاتب (2) سنتات (يعني قرشين بالعربي) عن كل نسخة "دي في دي" تُباع من أفلام كتبوها للسينما الأمريكية. كما أنّ بث وبيع الأفلام والمسلسلات التلفزيونية عبر الإنترنت لم يكن في الوارد عندها، وقد خرج كُتاب السيناريو من هذا المولد من دون حمص، أيضًا.
والحقيقة أنّ المرء يحار في هذا الصدد، ما إذا كان عليه أن يتضامن مع كُتاب السيناريو في أمريكا أم لا؛ فمن جهة هم كخلق الله جميعًا، "عمال" يناضلون من أجل تحسين ظروف معيشتهم، ومن جهة أخرى: يا ليتنا نحصل على عُشر ما يحصلون، فيمكن للمرء أن يسخر من نضالهم بجرة قلم: نضال ترف برجوازي. فهذا نيك كاونتر، رئيس تحالف منتجي السينما والتلفزيون يقول إنّ الاستوديوهات اقترحت على الكُتاب أن يُجرى بحث تسويقي تُفحص فيه مسألة الأسواق الجديدة (الانترنت والدي في دي) ومن ثم يُصاغ عقد جديد، "ولكن الكُتاب غير معنيين بمثل هذا التوجه"، أضاف. وهذا باتريك فيرون، رئيس نقابة كُتاب السيناريو، يقول: "توجهنا الأساسي هو: إذا حصلوا على النقود (أي: المنتجون وأصحاب الاستوديوهات) فيجب أن نحصل نحن أيضًا". واضح وبسيط. وسبب الحيرة واضح وبسيط: لكُتاب السيناريو في أمريكا نقابة قوية جدًا، يتقاضون مبالغ ممتازة لقاء المسلسلات والأفلام التي يكتبونها، ومن يعمل مع استوديو هوليوودي يبدأ بمفاوضتهم لقاء سيناريو لفيلم سينمائي "من نص مليون وطالع". دولار بالطبع.
ومع ذلك، هنيئًا مريئًا، فنحن مع ثورات الكُتاب أينما كانت، حتى لو كانت مخملية ومُرفهة ولا تنبع عن جوع، بل عن مغص حفيف في أحد تلابيب الأمعاء الرفيعة.

عُمري

قبل أسبوعين ولدت مايا، زوجة أخي عنان، مولودًا أسمياه عُمري، وهو من تلك اللحظة عُمرنا جميعًا. ومع أنّني لم أرَ عُمري حتى اليوم إلا نائمًا، إلا أنني أعيش منذ تلك اللحظة تباريحَ العشق كَعمٍّ جديد: صُورُه في كلّ جهاز رقميّ يحمل ويرسل صورًا: على خلفية الحاسوب، في الهاتف النقال، في الكاميرا وفي ذاكرتي الجماعية-الرقمية (الإنترنت). وأنا من شدّة حبي له أبعث له مراسيلَ شوق، مع أنه لا يفقه من عالمه بعدُ، إلا وجبات الماتيرنا والسيميلاك (ما الفرق بينهما؟) وحمام الصباح الدافئ.
ومن غرائب الأمور أنّ الطفل في العائلة يُعيد جميع من حوله ليكونوا أطفالا، وعادة ما تتولى الأم سرد القصص عن الأبناء والبنات الذين كانوا يومًا أطفالا، فذاك فعل كذا، وذاك قال كذا، وكلهم مُتحلقون حول المولود الجديد، يضحكون تارة من القصص والطرائف، وينظرون تارة إلى الطفل الجديد الغاطط في نَوْمةٍ مُغمَّسة باليانسون والقرفة وزيوت التدليك الصحية وأربعة-خمسة أنواع من العطور. فغرفة عُمري أشبه بحانوت "السوبر فارم"، وتجدون فيها المراهم والزيوت والصوابين والشامبو والمُطريات والمُسليات والمُنعِّمات والطيّبات، وقد تجدون ربما قليلاً من السمن البلدي واللبنة المُدحرجة.
وقد اكتشفت والدتي أنّ مقولة العرب "أعزّ الولد، ولد الولد" هي مقولة صائبة دارية ثقّابة، وكلما رأيتُ عُمري بين يدي جده، خلتُه يقول لأخي عنان، كما قال الفضل بن الربيع عن حفيده:

مدّ لك الله الحياة مدّا حتى يكون ابنك هذا جدّا
مُؤزرًا بمجده مردى ثم يفدى مثل ما تفدى
كأنه أنتَ إذا تبدى شمائلا محمودة وقدّا

ثم يصير كل فعل غير جدير يبدر عن الحفيد الأول أعجوبة إلهية لا سابق لها، تستحق الصراخ والتطبيل والتزمير: فها هو قد ابتسم، أو ضحك، أو تجشّأ، أو نام، أو استيقظ، أو شخّ، أو تبوّل، أو أكل، أو شرب. يصطفّ الجميع في طابور مُزدحم كي ينظروا إليه وهو نائم، مثل الأحمقة، يتنافسون من سيراه وهو يفتح عينيه، وتندلع خناقة عصبية تتستّر ببعض الضحك والمزاح بيني وبين عمه الأصغر، عامر، حول الأسبقية غير المسبوقة في فلسطين التاريخية، التي يحاول أن ينفرد بها أحدنا، بشأن من نجح أولا في حمل عُمري على فتح عينيه والنظر إليه، وكأنه الشاعر الغريض يصف حالنا حين تغنى، فقال:

نظرتْ عيني إليها نظرة تركتُ قلبي لديها مُرتهَنْ
ليس حُبٌ فوق ما أحببتُها غير أن أقتلَ نفسي أو أُجنْ

ولا أحد يسألك إذا ما كنتَ تريد أن تصير عمًا. فلا طرح دولة جميع مواطنيها ولا الميثاق العالمي لحقوق الإنسان ولا خطاب ناديا الحلو الأخير في الكنيست- لا شيء يمنحك حق الرفض أو القبول بهذا المنصب الجديد. تنام ذات ليلة ثم تستيقظ وأنت عم. وأول ما تشعر به هو أنك هَرمتَ دهرًا، فكل الأعمام الذين كبرتَ في ظلهم كانوا في الأربعينيات أو أكثر من أعمارهم، فتقف أمام المرآة في الصباح وتبحث عن العم الكهل الذي انتحل شبابك الذي تصارع على نهاياته، وتحاول أن تقود هذا الكهل بهدوء ومن غير مشاكل صوب باب الشقة، وتقول له برضًا مفتعل: أرجوك أن تعود بعد عشر سنوات، فأنا ما زلت في الثالثة والثلاثين، والأعمام عادة صُلعان وذوو كروش ويعلقون مفاتيح السيارة في قماشة البنطال التي حول الحزام ولهم أولاد من ذريتهم، وهم عادة "عايفين اللي عندهن" (باستثناء الكرش، وضعي تمام).
أخرج إلى الدكان وأحسب جميع مَن في الشارع ينظرون إليّ نظرة مختلفة، نظرة مليئة بالاحترام لمناسبة عموميتي الجديدة، وأخالُ البائعَ الغاضبَ دومًا قد صار يحترمني أكثر من العادة (أي عندما أشتري من عنده بأكثر من مئة شيكل)؛ فهو يسألني عن الأخبار ويتحدث عن ظلف العيش وسوء المعيشة والأولاد والهموم، فأشعر بأنني يجب أن أنغمس معه في الحديث، بصفتي عمًّا، فأفكر في جملة جيدة وذكية أقولها عن "الحفاظات" الغالية التي يُهدرها عُمري خمس أو ست مرات في اليوم، حسب شهيته، إلا أنّ قريحتي تخونني، فأعدِلُ، وآخذ الباقي وأنسحب بهدوء، ولكن برزانة واحترام للموقف. فالأعمام لا يخرجون من الدكاكين هكذا، أسوة بباقي الخلق؛ الأعمام يخرجون من الدكاكين مرفوعي الهامة، مشدودي الظهر. فقد زاد عدد أصوات العائلة في انتخابات المجلس للعام 2025 بصوتٍ واحدٍ!
لا رادَّ للقضاء والقدر في هذه الحالة. ولا حاجة؛ فعُمري علّمنا كيف يكونُ الحبّ من جديد وكيف ترقص الدنيا على إيقاع نظرة منه وهو ينتقل بهدوء من ذراعي عمه إلى ذراعي عمته، ويعرف أنّ الأمير القطري يحسده على هذا الدلال.
وطبعًا، لجميع المُهتمين، وأولهم أمي وحماتي: "فش إشي عَالطريق، وبديش أشدّ حالي"!

القاتل
دهستُ قطة قبل نيّفٍ وأسبوعين. كانت تضطجع وسط الشارع عند مدخل عكا، ولم ألحظها إلا وقد رفعت رأسها قبل أن تنفرم بقسوة تحت عجلات السّيات إبيزا الزرقاء.
في الليل جاءتني القطة في المنام وقالت مُزمجزة: لا شكّ أنك تنام الآن قريرَ العين إذ تقول لنفسك لا بأس فالقطة بسبع أرواح. ولكنني بروح واحدة وأنا ميتة الآن، وأنت قاتل!
ولكنني بعد تلك الليلة نسيت أنني قتلت تلك القطة. لم تخطر في بالي إلا الآن، ومن أجل الكتابة، ليس إلا، وليس من أجل الحداد أو محاسبة النفس، حاشا وكلا.
إذًا، هكذا يصير المرءُ قاتلا محترفا؟