السبت، 14 سبتمبر 2013

المستنقعات الأدبية

ثمة تناقض جوهريّ في ما يُسمى "المهرجانات الأدبية". هذا الزحام والضجة يتناقضان تمامًا مع فعل الكتابة. يُخرجونك من الصومعة الطوعية ويتوقعون منك أن تتحدث وتتفاعل مع الجماهير 24/7. وهكذا، بعد 24 ساعة تجد نفسك في حالة دفاع شرسة عن لحظات الهدوء والوحدة. ولكن هيهات.
الجوّ الذي يسود أروقة المهرجانات وكواليسها أنك يجب أن تكون في محادثة ما مع أحد ما طيلة الوقت. كأنّ الجلوس إلى طاولة وكأس وبعض المُسكّنات، وحدك، هو فشل للمنظمين. ثم أنّهم دفعوا الشيء الفلاني للتذكرة والفندق وبعض الدراهم لتشرب وتأكل وتشتري الملابس للدشدوشة، فهل يصحّ (أدبيًا وأخلاقيًا) أن تكافئهم بأن تكون على طبيعتك؟
ثم أنّ الطقوس في المهرجانات مربكة. كيف يمكن للمرء أن يتذكر أكثر من عشرين اسمًا (هولنديًا) في اليوم؟ وهذه الورطة تدفعك لتجنب الناس أكثر وأكثر منعًا للإحراج بأنك لا تذكر أسماءهم. هذه طامة حقيقية، تمامًا مثل التجوال في مدينة جديدة طيلة النهار وأنت نسيت مرهم الصماط.
والجمهور، لماذا يأتون؟ يستمعون إلى كاتب أجنبيّ لم يسمعوا به من قبل. هل هو الملل أم أنهم حقًا يحبون الأدب إلى هذا الحد؟ هذه معضلة جديرة بالتأمل، خصوصًا في زمننا الراهن، حيث تراجعت نجومية الأدباء لحساب جستين بيبر وشاكيرا. تُعجب بهؤلاء الناس الذين يأتون (رغم المطر) ويجلسون للاستماع إلى سؤالات وإجابات وبعض النصوص. تريد أن تفهمهم، لكنك تخجل من سؤالهم ببساطة: ماذا تفعلون هنا؟
أما الكواليس فهي كالرمال المتحركة. صداقت تنشأ وعداوات وحساسيات، ومستنقعات الإيجو التي نغرق فيها لحظة بعد لحظة تُصعّب من عملية التنفس، ناهيك طبعًا بالتحدث والتفاعل. لا أفهم الأدباء الذين يتقنون الكلام والصراخ والتحمس لفكرة ما لثلاث ساعات. ثم يا أخي، لا يهم أبدًا إذا كان يوسف زيدان أهم من صنع الله ابراهيم أم لا. بالتأكيد ليس لدرجة كبّ كأس الفودكا أثناء التشبير. وما يُنبت البقع الحمراء على جلدي حقًا هذه القناعة لدى الجميع بأنّ القصيدة/ الديوان/ الرواية التي يعملون عليها الآن تثير فضول الجميع لدرجة البحث عن أوراق معك بالحقيبة (بالصدفة) والبدء بالقراءة والتلحيس الذاتيّ المريب.
وبعد أن تتضح معالم الشلة، ومن دخل نادي الأدباء الكوليين ومن اكتفى بمنزلة "الضائع"، تتحوّل الكواليس إلى صراع ديكة بين الرجال على الأديبتين الجميلتين. هذا يزيد من منسوب التنافس التافه واستعراض العضلات والريش ومصارعة الديكة التي تخلف أضرارًا في الممتلكات والأرواح. كلّ هذه الانشغالات التي تتعبك وتودّ لو تجد نفسك بلحظة في غرفتك البيضاء الصغيرة لتقرأ ستاتوسات الشباب الثائر قبل النوم.
من جهة أخرى، لا شيء يضاهي المهرجانات للتعرّف عن كثب على من تقرأ لهم وتقرأ عنهم من بعيد، وغالبًا ما تتحطم الصورة الجميلة على كاسر الأمواج الفاضح، الذي يعيدك إلى رشدك ويؤكد مرة تلو الأخرى تلك المقولة العبقرية: الإعجاب عكس النظر، كلما اقتربت من الإنسان صار أصغر.
مع ذلك، لا تستطيع رفض الدعوات. إنها الفرص النادرة للتعرف على الناشرين والصحفيين والمنظمين أصحاب القرارات. مع أنّ هذا لا يعني أبدًا أنك كتبت/تكتب/ستكتب أدبًا جيدًا. لا علاقة بين المهرجانات والأدب الجيد، بالضرورة. أصحاب القرار الوحيدون هم القارئات والقراء، وهم من يقرر فعلا إذا كنت تستأهل هذه الاحتفالية أم لا. أما ما تبقى فهو سياسات على سياسات، وبعض دعوات الوالدة.
من حسن الحظ أنّ المدن الأوروبية عمومًا جميلة وتكسب على الأقل التعرف على كواليسها وحياتها. تنكشف على لغة جديدة وثقافة جديدة وأناس جدد. وتنسى للحظة المستنقع الذي خرجت منه والذي يفرض عليك عنوة الضلوع في مناوشاته الموحلة. هنا، على الأقل، الوحل ليس وحلك، وهنيئًا لك بهذا.
أمستردام جميلة والحشيش فيها جيد فعلا. ولكن هذا لمقالة قادمة.


الاثنين، 9 سبتمبر 2013

كمّامات، اللي على بالو كمّامات!


وهكذا، في صبيحة هذا اليوم المبكرة، وجدتُ نفسي واقفًا أمام حارس أمنيّ يوزّع الأرقام للطابور الذي سينعقد "بعد قليل" من أجل توزيع الكمامات على من يطلبها، تخوفًا من أن يقوم بشار الأسد بإلقاء القنابل الكيماوية على رؤوس مَن في دولة اليهود، إذا قام براك أوباما بإلقاء القنابل على رؤوس من يقاتلون من أجل "الله، سوريا، بشار" (ليس بالضرورة بهذا الترتيب). إنها ورطة أخت شلن، أن تقف في الطابور لتتزوّد بمعدات وقائية توفرها لك (كمواطن) الجبهة الداخلية الإسرائيلية. مع ذلك، الورطة ليست هنا. الورطة هي التفكير في الأطفال الذين قد (قد) يتعرّضون للكيماوي ولا تجد ما تحميهم به لأنك رفضتَ أن تكون جزءًا من هذه المهزلة. ولكن بعد أن شاركتَ في مهازل لا نهائية في هذا الوطن الغريب، تتنازل عن كبريائك العربيدة وتذهب لتقضي يومًا كاملاً متأمّلاً عجائب دولة إسرائيل.
من الأمور المشرّفة التي تبسط وترفع الرأس أنّ اليهود أيضًا يتأخّرون وتخرب برامجهم "لأسباب تقنية". شعب الهايتك يبدأ توزيع الكمامات في الساعة 11:45 بدلاً من التاسعة، ونحن نتحدّث عن مقرّ التوزيع في "كنيون عزريئيلي" في حيفا، الواقع بجانب منطقة "مَتام"، المجمّع الهايتكي الأكبر والأكثر تقدمًا. يا شماتة أبْله زازا. لقد عوّضتني هذه اللحظة عن عشرات المرّات التي لم يعمل فيها الميكروفون في أمسياتنا الثقافية؛ فإمّا أن ترافق الأمسية كلها "وشّة" غريبة مصدرها أنّ السلك الطويل فيه 14 ثقبًا كان أولها في حرب 67، وإما أن يكون حامل الميكروفون من الصنف الحرّانيّ الانهزاميّ الذي لا يعرف إلا "بوزة" طأطأة الرأس. ناهيك طبعًا بالمشاكل التقنية الأخرى كأن لا يعمل المُسقِط (Projector) أو أن يعمل شريط الفيديو ولكن بلا صوت، أو أن يُنادى على اسم متحدّث(ة) في الندوة ويتضح أنه(ها) قرّر التغيب في آخر لحظة "لسبب طارئ". وهكذا...
وبعد الشماتة، لا بدّ من الاستدراك والقول إننا ما زلنا، نحن العرب الصامدين في وطننا الذي لا وطن لنا سواه (سوى فنادق أريحا وشرم الشيخ)، نحمل الرقم القياسيّ في نسيان كلّ الأشياء الهامة التي يجب أن نحضّرها في المعاملات الرسمية: فأكثر من واحد(ة) نسي بطاقة الهوية! يا أخي، ألا تعرف أنّ هذه الدولة تطلب منك بطاقة هوية إذا أردت التبوّل في ماكدونالدز، ولا تجلب معك بطاقة هوية لأخذ كمّامة؟ شخص جلب ورقة بيضاء مثلثة صغيرة واضح أنه مزعها من ورقة بيضاء في دفتر المدرسة التابع لابنه، ويريد أن يأخذ كمامة لزوجته. "لا ينفع" يقول ابن عمنا الحازم، "هذه تعليمات من الجيش. يجب إبراز بطاقة الهوية". الشاب العربي لا يتنازل بل يجنّد ادعاءات وتسويغات قاتلة: "יעני אתה רוצה שאני אחזור מחר ולעמוד בתור עוד-פעם?" (يعني هل تريدني أن أعود غدًا وأن أقف في الطابور مرة أخرى؟). للمشاهد الصهيونيّ يبدو هذا الادّعاء واهيًا وضعيفًا، لكنه يعبّر عن أكبر عذابات الإنسان العربيّ التي تخيفه وتقلقه وترعبه أكثر من الكيماويّ والبيولوجيّ وبنادق السّيسي: الوقوف في الطابور.
الوقوف في الطابور يناقض بشكل أساسيّ وجذريّ ووراثيّ مفهوم العربيّ لموقعه في المجتمع والحيّز العام. فالعربيّ بدويّ مغامر، يركب ظهر المجنّ ولا يقدر على تضييع وقته في احترام دور الآخرين أو قبول المهانة في أنه غير مهم بما يكفي كي يفسحوا له المجال حين يُطلّ بطلعته البهية. العربيّ إنسان سريع و"حامي"، كيف يمكن إرغامه على الوقوف لساعة أو أكثر لأخذ غرض ما. من سيأخذ باله من الدورة القمرية؟ المغيظ في الأمر حقًا أنّ غالبية الذين يقفون في الطابور لا شيء آخر ينتظرهم بالضرورة، أهمّ من التزوّد بهذه الحاجة الضرورية. اللهم إلا الأرغيلة (في البيت أو العمل، فالأمر سيّان). إنها حالة اغتراب جذريّة بين (معظم) العرب وبين (معظم) اليهود. الطابور هو لغيرنا، أمّا نحن فأصحاب العزّ والذين خيلهم تدوس المنايا. لذلك، حين يكون نصف المنتظرين تقريبًا من العرب في طابور عموميّ، يحلو للمرء أن يتتبع الأعذار والحيل والابتكارات التي يبتدعها الكثيرون. سأتركز في واحدة وأعدكم بالمزيد حين يوزّعون بنادق الإم سكستين.
إنّ أكثر ما يسعد العربيّ القحطانيّ في دولة اليهود، هو وصوله إلى مكان يُشرف عليه منظمون يهود صارمون، وليكتشف (هذا العربيّ القحطانيّ) أنّ ثمة عربيًا في طاقم المنظّمين. بلحظة واحدة يتحوّل المنظم العربيّ (الذي لا يَمُون على شيء عمومًا) إلى ثالث القبلتيْن وحائط المبكى وتمثال العظرا الذي ينزّ كوكاكولا في قرية رميش. ترى المُتحرجمين يتحرجَمون حوله وكأنه رضوان حارس الجنة. "قل لي يا رضوان، وينتا بفتحوا؟.."؛ "خيا أنا معي رقم 659 وجاي من آخر الدنيا، بلكي تدبّرنا؟"؛ "إنتي من وين يا رضوان؟ لا؟ّ بتعرف محمد؟ الأصلع.. يا زلمي اللي عندو سوبارو".. هكذا تجد نفسك، من باب الفضول لا أكثر، تنضمّ إلى المتحرجمين حول رضوان (رضوان الله عليه). تتابع وتشاهد المأزق الذي وقع فيه رضوان.
الرضاونة قسمان: الأول خجول، حائر، كل ما يريده هو أن تنتهي الساعات الثماني وأن يخلع "الفِست" الأخضر اللميع وأن يعود إلى غرفته وآيفونه. أمّا القسم الثاني –والعياذ بالله- فهم ينتظرون مثل هذه اللحظات. ومع أنهم لا يمونون على شيء إلا أنّ حركة أجسادهم تتغيّر فجأة، وأمام أكثر من عشرة أشخاص من العرب العاربة يشعرون بأهمية عظيمة، ويبدأون بنعف الإجابات الأكيدة، يسارًا ويمنة. وعندما تقول صبية إنّ "اليهودي اللي غاظ" قال أمرًا مخالفًا، يتلعثم رضوان المختال ويستدير فجأة بثقة وهو يطلب التريّث بأصبعيه، ويتوجّه إلى المسؤول اليهوديّ وكأنه ذاهب إلى اجتماع تشاوريّ قبل ضرب العراق. ومنعًا للإحراج والاعتراف بأنه أجاب على سؤال لا يعرف عنه شيئًا، يقول بثقة وهو عائد: "معلش خيتا، غيّروا النوهاليم".
الحقيقة أنني أشفق على المتزلفين العرب من رضوان. فقبل فرض اليهود لمنع التدخين في الأماكن العامة، كان الكلام مع رضوان يبدأ بحركة إجبارية: يقترب الرجل المتزلف من رضوان، يمدّ يده إلى جيب بلوزته على الشمال، يُخرج علبة سجائر "تايم"، وفورًا يُخرج سيجارتين من العلبة ويمدّ واحدة لرضوان من دون أن يسأله. هناك من يتحمّسون لهذه الحركة ويلقون السيجارة من منتصف المسافة بحيث تصطدم برضوان وتقع على الأرض، فيبادر المتزلف بإخراج سيجارة أخرى من العلبة وهو يصيح بحماسة: "فلّت، فلّت.. دخّن معلم." والآن، وقد ذهبت هذه المتعة السجائرية إلى الأبد، فإنّ الحركة الإجبارية التي صارت تسبق التزلف أمام رضوان هي النظر إلى السمارتفون قبل سؤاله: "قل لي ياخي، وينتا بفتحوا؟.. أنا من الثماني هون." ومع أنك تعرف جيدًا أنه لم يكن في الثامنة هنا (ربما طيفه الأخاذ)، إلا أنّ هذه الكذبة البيضاء (مثل كل حياتنا المبنية على الكذب الأبيض) تندرج بشكل طبيعيّ في سياق الحديث. فلماذا يتعب المرء رأسه في تنقية الحقيقة من أطنان الكذب الأبيض؟ هل جئنا للتكمّم أم لمقاتلة الناطور؟
وبرغم معاناتي (كمواطن صالح ومطيع) في الطوابير إلا أنني في المحصلة أحبّها. في عيادات المرضى، في البنوك، في السوبرماركت. إنها المجسّ الأصدق لانعدام علاقتنا نحن العرب في دولة اليهود مع أمرين: علاقتنا مع مؤسّسات الدولة، وعلاقتنا مع الحيز العام، الشارع والمؤسسات التي تخدمنا. إنها الوجه الآخر لمن يشتري سيارة فولفو جديدة وفي بيته عفش و"برادي" من أغلى الأنواع، فيما القمامة مكدّسة في الشوارع حتى باب بيته.
ولأنّ العرق دسّاس والجاجة ما بترمي طيزها، تقترف بنفسك إثم الاتكال على رضوان وتحاول التقرّب منه أيضًا علّك تعرف متى يفتحون، وربما لتتحسّس قليلاً إذا كان ادعاء "أنا جاي من عكا أخوي" سيسري على رضوان وجلاوزته من أبناء عمنا. ولكنك تختار طريقة أذكى وأكثر حنكًا ونخبوية: "إنتي خيّا بتقرا موقع قديتا؟.. بتعرف زاوية كويريات؟"

السبت، 7 سبتمبر 2013

في أعقاب مجنونة إياد طنوس...


في لحظة فيسبوكية خاطفة وصلتُ إلى "مجنونة إياد طنوس". كالعادة: لايك على شير يقودانك إلى الزوايا المعتمة في قائمة "الأصدقاء" (لموقع "قديتا")، وهناك تكتشف أنّ أكثر من صبية "عشقت" فنانًا (مغني أعراس في الغالب) وسمّت نفسها في العالم الافتراضيّ مجنونته، تيمّنًا بأنه قيس وهي ليلى، مع الفارق البسيط أنه ليس قيس وهي ليست ليلى. ثم تكتشف أنّ "مجنونة إياد طنوس" لا تشعر بالوحدة القاتلة في عالم "المجنونات المتيّمات"، فهناك أيضًا "مجنونة محمد القاق" و"مجنونة محمد زبيدات". توقفتُ عن الإحصاء هنا.


في بادئ الأمر تلجأ إلى المصحف المحيط، "جوجل"، وتبحث عن الرفاق الذين يشحطون وراءهم مجنونات متربّصات. في كلّ ما يخص "فنانينا المحليين" يقودك جوجل إلى شمس الشموس "بانت"، وهناك تقرأ خبرًا مفرحًا عن إطلاق أغنية جديدة لإياد. أول ما فعلته هو الركض سريعًا باتجاه التعقيبات لأقرأ ما كتبته "مجنونة إياد طنوس". لكن... لم تكتب! غريب. هل كتبت باسم مستعار؟ ولكن "مجنونة إياد طنوس" هو اسم مستعار. (هل هناك مُسمّى لاسم مستعار لاسم مستعار؟) هل هي "نصراوية" أم "أليسسا" أم "أحلى سوسو رمله" أم "اسيل رهط" أم "سخنينية" أم "ג'רי חיפה"؟ أم "اليسا" (بسين واحدة)؟ أم "محمد 27 سنة"؟ وهكذا...


التعليق رقم 11 كتبه "فنان" وعنوانه "إياد خنوس"، ونصّه: "فعلا احنا بزمن المسخره غيمه مبوصره وبتمرق" (التعبير غيمة مبوصرة، يعني طالعلها باصور، جديرة بالتأمل اللغوي. علي مواسي: شدّ حالك). جميع الدلائل تشير في هذه المرحلة إلى أنّ كاتب هذا التعليق الحقود هو "مجنونة محمد زبيدات". ومحمد زبيدات هو أيضًا فنان محليّ شاب، وعنوان الخبر الأول في "جوجل" يُحيلك إلى شمس الشموس مجددًا تحت العنوان التفاؤلي: "النجم محمد زبيدات يستقبل 2013 بالزهري".[1] ثم هرعًا إلى التعقيبات في الأسفل. ما هذا؟؟ أين "مجنونة محمد زبيدات"؟ خيبة أمل عاتية تلمّ بالمرء حين يكتشف أننا مقصّرون حتى في هذه. ألا توجد معجبات حقيقيات في هذا البلد؟ يكتبن التعليقات في كلّ مكان، ويتربّصن بالفنان المحلي وهو يقود سيارته بين الحفر في شوارع وطننا؟ ألا توجد مجنونات حقيقيات مثل مجنونات جيمي هندريكس وألفيس بريسلي وجيمس دين وشعبان عبد الرحيم[2]، يلقين بأنفسهن على المنصّة المرتجلة في تعليلة دار الشنشاوي في حارة الشيخ زينكو؟ تشعر بخيانة من نوع غريب، لم تشعر به من قبل. فأنتَ لست معنيًا ولست طرفًا وهذه "المجنونة" لم تخنكَ أنتَ. إنه التضامن مع محمد زبيدات وإياد طنوس. هل سنجد حزنًا أكبر من الحزن الذي سيرافق غناء طنوس وزبيدات في قمة التعليلة، والشباب من حولهما سكارى بلا ديدورانت: "آه يا قهيوة، وآه يا سيجارة.. عشق الغوالي بدو شطارة"؟... [3]


في المقابل، تجد أسماء مستعارة لنساء من نوع آخر، تقف على رأسهن وفي مقدمة الميادين، الرفيقة "كبريائي أساس وجودي" (هكذا بالأصل). ومع أنّ الاسم يوحي بتعامل مختلف مع العلاقات الجندرية-الميتابطريركية في مجتمعنا ما بعد الآيفون 5، إلا أنّ "كبريائي أساس وجودي" ليست إلا صيغة أقلّ انفعالا من "المجنونات" العاديات، وهي توحي باسمها المستعار بأنها "عصيّة" وليست "طريّة"، مع أنّ تحليلاً سيميائيًا ماركسيًا أو لاكانيًا لتعقيباتها في إحدى المناوشات الفيسبوكية، يثبت أنها تتحرّق لتجد "فنانا محليا" تنجنّ به، لكنها تنتظر أن يقوم هو بالخطوة الأولى، أو أن تتنازل مجنونة أحدهم عن جنونها لأحد الفنانين المحليين، فـ "كبريائي أساس وجودي" لا تسمح لها كبرياؤها بأنّ تُجنّ بفنان ممسوك. 



وفي حوار ضاجّ على أغنية "نيالي فيك" لمحمد زبيدات، كتبت "مجنونة محمد زبيدات" كمقدّمة للأغنية: "هي الاغنية بهديها للناس الغالية ع قلبي كتير زجد نيالي فيهم لانوو في ناس تعرفت عليهم وكتير حبايبن وبيسوا كل العالم بحيهم كتير وقد ماراح اوصفهم مستحيل اخلص الله يسعدهم ويخليلي اياهم وين ماكانوا لاني من دونون ولاشي هم معنا السعادة بالنسبة الي لما احكي معهم او شوفهم ....ونيالي فيكم نيالي بشوف حالي فيكم" (هكذا في الأصل). وقد توّجَتْ (عملت تاج- tag) في الرابط 10 مرابطات ومرابطين، من بينهم أحجية الفيسبوك "كبريائي أساس وجودي". التعقيب الأول كان من الأحجية شخصيًا: "تسلميلي يا عمري ولله وانتي كمان بـــــــــــمـــــــــــوت فـــــــــــيـــــــــــكــــــــي" (مع سمايلي بالشفتين الحمراوين- هكذا في الأصل). مجنونة محمد القاق لا تتأخر في الرد: "حياتي انا نيالي فيكي"، وعلى هذا قسْ. 


وللمرة الأولى منذ أن بدأت كتابة هذا النصّ الاستعلائي شعرت بالتضامن الحقيقيّ معهنّ. ولمَ لا؟ لماذا لا يُحببن مغنيًا أو فنانًا؟ هل حبّي لأنطون تشيخوف والطيب صالح مثلا أرقى أو أجمل؟ أسئلة عديدة بدأت تدهمني وبدأ الشعور بالذنب يأكل بعضًا من أعضائي الداخلية. ثم قرّرت في حمية الانفعال أن أكتب تعقيبًا إيجابيًا على هذه المحادثة النشطة الحماسية. حسنًا سأكتب... ماذا سأكتب؟ وهل يصحّ أن أكتب باسم "قديتا"، رمز النخبوية والاستعلاء؟ حتى لو كتبتُ "ولقد ذكرتك والرماح نواهل مني..." فسيُقرأ تعقيبي كاستعلاء. حسنًا سأكتب جملة بعربية ركيكة مليئة بالأخطاء. وهذا؟ أليس استعلاءً؟ أليست شعبوية مفرطة من أجل التودّد الفارغ من أيّ مضمون؟ وكيف سأجرؤ على كتابة تعقيب مشوب بالأخطاء، هل سأسلم من شرطة اللغة في الفيسبوك؟


في النهاية قرّرت ألا أعقب وأن أترك الحديث لمجنونة محمد زبيدات، في ستاتوس بوست وجوديّ من الدرجة الأولى، يحمل الشيء ونقيضه، من استدامة الحب إلى الأبد وحتى الاستعداد لعبارة "ذه إند": "ليت فى الحب {قانون } : إن آلحبيب لآ يفارق حبيبه حتى آلموت ~ ♥كل العلاقات مجرد فيلم سينمائي فكن مستعدا لعبارة: THE END" (هكذا في الأصل).[4]


[1]  اللون الزهري حمّال أوجه في مجتمعات المجنونات، حيث عتبت إحدى المريدات لإياد طنوس عليه لأنه تصور باللون الزهري وهي لا تحب هذا اللون على الرجال. للتوسع يُنظر إلى تعقيب مجنونة محمد القاق على ستاتوس مجنونة محمد زبيدات المتعلق بالقصف الأخير لسوريا.
[2] هذه مزحة.
[3]  من جهة أخرى لم يخب أملي: التعقيب الثاني كتبه "أمير عاشق الأحزان صبايا حلوين" (هكذا بالأصل) وعنوانه "ضيفوني صبايا حلوين وبس" (هكذا في الأصل). كنت سأشعر بالحزن إذا لم أجد "ضيفوني صبايا" واحدًا على الأقل. شكرًا أمير عاشق الأحزان.
[4] مجنونة إياد طنوس معقبة: "يا امي شو جاريه السرقه ههههههههههههههههن" (هكذا في الأصل).