الجمعة، 31 أكتوبر 2008

لا تصالح!

ليس بوسعي الإشارةُ إلى اللحظة الحاسمة، الدقيقة، التي تحوّل فيها شراء طاولةٍ للمطبخ مع 4 كراسٍ إلى حلم يحتلّ سلم أولوياتي في هذه الأيام، إلى جانب هبة عكا الأخيرة والتصريح الأخير لغالب مجادلة، الوزير "المسلم" الأول في دولة اليهود، بأنه توجد عنصرية في إسرائيل! ولكنّ أم محمود، الحاكمة بأمر اللات والعُزة، تعاملتْ مع الفكرة من منطلق صِداميّ (طبعًا): "أنتَ تريد إخراجي من غرفة العمل في الشقة والإلقاء بي في المطبخ كي تخلو الغرفة لك"- ردّدَتْ بعد أربع ثوان من شرح حلمي الجديد لها، حلم الشعوب الثائرة، في الأقطار الهادرة.

لم أكن قررتُ بعدَ إستراتيجيتي التي يجب اتباعها بعد مثل هذه الجملة، لأنني توقعتُ أنها ستأتي بعد 24 ساعة على الأقل، حين تفتضح نواياي الحقيقية، حيث كنت أعتقد (يا للسّذاجة) أنها ستنعجق وتنهرق وتنزلق في المنحدر الزّلق الذي نصبتُه لها: فمنذ أول يوم من زواجنا (قبل أربع سنوات و22 يومًا وبعض الفتات) لم أقترح عليها يومًا شراء أية قطعة أثاث، بل كنتُ على العكس أناصب العداء لأية فكرة تطرحها (مرة في الأسبوع) لشراء قطعة أثاث جديدة، بالحجّة المقنعة جدًا لأيّ رجل سَويّ: نحن نسكن بالإيجار وعندما يفتحها المولى علينا وعلى عباده الصالحين سنشتري بيتًا وسنؤثثه بما لذّ وطاب من أطايب "إيكيا"، كرم الله وجهها.

ما يهمّني ويهمّ جماهير شعبنا الصامدة في هذا السياق هو تضعضع حلمي بشراء طاولة للمطبخ، خشبية، صغيرة، متواضعة، قبل هذه الأزمة الحارقة. فإم محمود عارضت بشدّةٍ فكرة أن نشتري شرشفًا بسيطًا لطاولة المطبخ البسيطة، حيث أنني ادّعيتُ (بكلّ المنطق) أنها تحتلّ زاوية حميمية خبيئة في مطبخنا الصغير، بعيدة عن واجهة البيت الرئيسية المغطاة بالشراشف والمخدات والبطانيات والعمامات، والمرايا والتكايا والثريات، الملونات والمزركشات، وانبرتْ هائجة: أنا بختار الشرشف! من خلال تجربتي العريقة معها علمتُ أنّ الشرشف الذي يليق بسعادة طاولة المطبخ العتيدة سيكلف نفس سعر الطاولة وكراسيها الأربع، والطامة الطامة إذا قررتْ شراء شرشفيْن، أحدهما احتياطيّ -وبنظرها لازم- لأنني أترك ورائي سيلا مُنهمرًا من البقع الزيتية وآثار الطبيخ الكثيرة على الشرشف والكرسي وبلوزتي (الأمر الذي يعود في نظرها إلى سببيْن لا ثالث لهما: أنني رجل وأنني فلاح).

وهكذا دبّ الذعرُ في حسابي البنكيّ الذي لم يتعافَ من تخطّيه لإطار "الرصيد الدّائن" (كريديت) إلا قبل يوميْن اثنيْن، ورأيتُ في خاطر روحي كيف يرتفع منسوب الدّيْن ثانية في حسابي السلبيّ الأزليّ، فبدت لي فكرة شراء الطاولة وكراسيها الأربع كابوسًا ثقيلا، أعتقد أنه جزء من مؤامرة صهيونية يحيكها المستوطنون اليهود في عكا، كجزء من مخطط تطهير عكا العربية من الطاولات المطبخية.

ولكنّ الأزمة تطوّرت إلى ما هو أبعد وأخطر على قضايا أمّتنا (لا بدّ من الاتصال بالرفيق عبد عنبتاوي، مدير لجنة المتابعة، لعقد اجتماع طارئ للّجنة في مطبخنا): فقد انقلب السّحر على السّاحر، وبادرت إم محمود إلى اقتراح أخطبوطيّ جديد، شبيهٍ بمخططاتها الدائمة المُحكَمة في السيطرة على منافذ الهواء والماء في حيّز حياتنا المشتركة (عذرًا على استخدام كلمة "حيّز"- أعرف أنه يغيظ بشكل خاص الرفيق أيمن عودة). فقد اقترحتْ، بمزيج من البراءة/ التّساذج/ الحسم/ التصميم/ الخباثة، يعرفه جميع الرجال المتزوّجون، بأن أنتقل أنا، حضرة جنابي، الكاتب المثير لشيوخ الحركات الإسلامية، إلى المطبخ كي أطبع إبداعاتي التاريخية في اللابتوب الديناصوريّ الأسود، بينما تحتلّ هي غرفة العمل في شقتنا المتواضعة، كي تدرس للّقب الثاني، كما يليق بمحامية لامعة مثلها.

كانت هذه ضربة بالحزام تحت الحزام، ووجدتُ نفسي أتقهقر من موقع المتآمر الذكيّ المتشاطر إلى موقع المُدافع عن آخر مراكزه المعتبرة في الشقة: غرفة العمل. فأيّ كاتب هذا لا يمون على غرفة عمله في بيته (خاصة أنه عاطل عن العمل)، مع العلم أنني لا أمون على شيء آخر، والعزاء طبعًا، بيني وبين نفسي وبين الأصدقاء المتزوّجين، أنني أمون على غرفة العمل، فهي لي، أي نعم لي!

وأذكر أنني كنتُ في الأيام الغابرة سيد غرفة العمل، أحتلّ جنباتها بكتبي وأوراقي وحاسوبي، أصول وأجول وأسرح، بلا حسيب ولا رقيب، آمر وأنهي، أروح وأجيء، أجيء وأروح في مملكتي الخاصة، أكوّم الأوساخ فيها بلا حساب، أتجشأ متى أردت، أستريح من الغازات الباطنية كيفما رغبت. وبعد مضيّ ثلاث ساعات ونيّف من بدء حياتنا الزوجية فهمتُ أنني خسرت المعركة على البيت، بلا احتراب ولا قتال (تفو عالرجال!)، وهكذا لم تدُم الزبدة على (مؤخرات) العرب، ووجدتُ نفسي منذ سنوات أقاوم بكلّ ما أوتيت من قوة لخطط تغيير ترتيب المكتبات والكراسي في غرفة العمل، كي تلائم جلوسي وجلوس الأخوة الأعداء في تعايش مُثير لفخر رئيس الدولة، شمعون بيرس، الذي يعمل على دوراسيل. صحيح أنّ خطة تغيير ترتيب الغرفة كانت منطقية، حسبما اقترحت مارغريت تاتشر العكّية، وأنها ستوفر جوًا مُريحًا للاثنين للعمل فيها، إلا أنني حاربتُها بضراوة (نسبية، طبعًا نسبية)، وصرتُ لحوالي الشهريْن كالذي قال عنه المثل العربي العريق: "الجقارة بطيزي، بشخّ بلباسي".

ولكنّ الحتمية التاريخية فعلت فعلها (يتسخّم ماركس!)، ووجدتُ نفسي أتأقلم مع اقتراحات "التصميم الداخلي" الجديدة وأرضخ لها صاغرًا (كأننا نحن الرجال بهائم لا نفهم بالتصميم الداخلي، فنتصاغر دومًا أمام نظرات النساء التي تدبّ في أجسادنا شعورًا بالنقص لا يُمّحى: "كيف بدك حبيبتي"). فصرتُ، أنا وطاولتي وأوراقي وحاسوبي وطابعتي، عبئًا على الغرفة، يثير تأفف بلقيس، ملكة ساحة عرفة، في دخولها وخروجها من الغرفة، والعار العار إذا اكتشفتْ أنني لا أعيد كتابًا إلى مكانه أو لا أعيد كوب القهوة بعد الانتهاء من شرب قهوتي الفلترية إلى المطبخ وأجليه في أكثر من 60 ثانية (الآن، استعداد: إنطلق!).

وهكذا وجدتُ نفسي، مؤخرًا، جالسًا إلى طاولة الصالة الكبيرة (المتهالكة)، داحشًا نفسي بين حائط الصالة وبين الطاولة المطروحة في الممرّ المُتاح بين مدخل الشقة وطقم الصالون الأسود، مُحتضنًا حاسوبيَ النقال بقوّة كي لا يقع على الأرض إذا أتيتُ بحركة مفاجئة تسحب كابله الكهربائيّ الملفوف حول كرسيّ بسبب ضيق المساحة. وقد اسودّت الدنيا في عيني حين خطر في بالي خاطر طارئ: هنا سأقضي ما تبقى من حياتي، مدحوشًا في هذه الفسحة، وسيجدونني ميتًا بعد حين، قرب طاولة الصالة الكبيرة، وقد التفّ كابل الكهرباء الحاسوبيّ حول رقبتي وأنا عالق في الهواء بين الطاولة والأرض، وسبابتي تشير بعنفوان عنيف نحو صورة "كليوبترا الأسوار"، في خطاب صامت عرمرم سيُعَنونه لا شكّ الصديق فراس خطيب في الكتيّب الذي سيحرّره لذكرى أربعيني: "حليحل يتهم!" (وسيناقشه وائل واكيم، الصديق المصمم، ببرود راماوي قاتل: بنفعش العنوان كلمة وحده؟؟).

هكذا تحوّل الحلم إلى كابوس، وهكذا وجدتُ نفسي الليلة، محشورًا بين الطاولة والحائط في الصالة، أكتب حشرجات حلمي المتواضع بطاولة صغيرة حقيرة للمطبخ، ألقي بأم محمود وأوراقها عليها، بينما أعود سيدًا لغرفة العمل والكتابة، أجلس طيلة اليوم متصفّحًا لمواقع الإنترنت ومشغولا بالتشات والشتات، مُحمّلا ربّ الدنيا ألف "جميلة" بأنني أكتب رواية عصماء، فأرجوكم الصمت!

"لا تصالح!" وجدتُ نفسي أتمتم وأنا أصرخ على صورة أم محمود في الحاسوب؛ "لا تصالح"، إلا إذا قبلتْ بوضع طاولة المطبخ التي سأجلس إليها في الجهة المقابلة للثلاجة، واشترت شرشفًا لها بسعر رخيص. هذه هي شروطي، وإلا:

لا صلح؛

لا اعتراف؛

لا تفاوض!

الأحد، 12 أكتوبر 2008

كل كارهٍ للعرب هو ترومبيلدور


(نُشر بالعبرية في "واينت"، 11 تشرين الثاني 2008)

يشكّل اليهود في دولة إسرائيل 81% من السّكان؛ يسيطرون مباشرة وعن طريق حكومة الشعب اليهودي على 93% من الأراضي؛ يسيطرون على الجيش والشرطة و"الشاباك" ومصلحة السجون والموساد والاستخبارات العسكرية والحكومة والوزارات الحكومية والمواصلات والأغذية والمياه والموارد (ومؤخرًا- يسيطرون على عدة دول في المنطقة)؛ هم من يسنون القوانين في الدولة، يقرّرون ما المسموح وما الممنوع، يستحوذون على مقاليد القوة والسلطة؛ هم أسياد المكان، نظريًا وعمليًا.

ولكن، في كل مرة يقوم بعض العرب بتكسير واجهات محلات وزجاج سيارات، يتبنى اليهوديّ القادر على كل شيء، فورًا، ذهنية الضحية المطلقة، يعود إلى تاريخه (المؤلم) ويستقي منه مصطلح الضحية المناوب. في هذه المرة كان المصطلح "بوغروم"، وقبله "ليل البلور"، وربما الآتي في الدور هو "التطهير". يبدو أننا سنجد أنفسنا، نحن العرب، في المواجهة القادمة بين العرب واليهود، "مديرين لمراكز اعتقال" في الجليل. والسؤال السؤال: ما كمية السخف التي يمكن أن يحشوا بها الناس (المتهالكين بدورهم كي يحشوهم بالسخف)؟

لقد أدى دخول عربي في ليلة "الغفران" إلى حيّ مختلط (فيه غالبية يهودية) بسيارته إلى أعمال عنف واسعة، تجاوزت "الخناقات السنوية العادية" في عكا. الجميع أذكياء الآن: يسمعون عن عكا، العناوين تصرخ، الدماغ اليهودية تتناقش في السوبرماركت وفي غرف الانتظار لدى الطبيب فيما يجب صنعه مع هؤلاء العرب، إلا سكان عكا العرب؛ فهم بوسعهم أن يعدّدوا أمامكم عدد البيوت العربية التي هُوجمت في السنوات الأخيرة، وعدد السيارات التي أحرقت، وعدد الهجمات التي كانت ضد العرب، والجزء المضحك من الميزانية البلدية المخصص للبلدة القديمة، وحملات البيع والتصفية التي تجري للممتلكات وللمباني العربية في داخل البلدة القديمة.

لليهودي الذي سيبدي اهتمامًا في عكا بعد هذه اللحظة، نعرض عليه أن يقرأ الصفحات الأخيرة في الصحف، فسينظر ويجد بيتا "أوثنتيك" على البحر، معروضًا للبيع بصفقة ممتازة. بدأوا بيافا والآن عكا. فلتحيَ الصهيونية المتجدّدة عند شواطئ البحر المتوسط البرّاق والخالي من العرب!

نحن نعيش في قلب مهانتنا وألمنا. لكنّ لا أحد يهتم بهذا إلا عندما يُهاجَم اليهود (لعدة ساعات، لمرة واحدة، كردّ على أخبار حول قتل عربي. هذا ليس تبريرًا للتدمير الذي رافق هذه الهبة، لكنّ الهدف توخي الدقة). وبنظر الكثيرين، كانت هذه البداية التي لم يسبقها شيء، ومن هنا يجب الاستمرار بالدم والنار. وللحظة، تحوّل أفيغدور ليبرمان، نبي الترانسفير والتحويلات المالية رهن التحقيق، إلى المنقذ القومي: هو فقط من يستطيع "علاجهم"، هو من يفهمهم ولا أحد غيره. في جوّ الفاشية والكراهية الذي هيمن على المكان لا أعرف ما إذا كانت مقولة "يفهم العرب" هي مديح أم مذمة.

الجو السائد هنا يُذكّر بالغضب الذي اندلع في البلاد بعد تفجر الانتفاضة الثانية: إنهم يصرخون "الموت لليهود"! لم تكن أية مشكلة في أن يتحوّل نداء "الموت للعرب" إلى النشيد الوطنيّ غير الرسميّ لدولة إسرائيل "الديمقراطية"، ولكن كيف يتجرّأ هؤلاء "العربوشيم" على الردّ؟ كلّ عنف هو مُستنكَر كردٍّ أيضًا، ولكننا بتنا في مرحلة نفضّل فيها أن نكون مُستَنكَرين (في نظر التيار العام ووسائل إعلامه)، على أن نرى حياتنا تنهار أمام ناظرينا، لأنّ اليهود من مهاجري الدول العربية ومن خريجي المستوطنات لم ينجحوا في التغلب على كراهيتهم للعرب. ليتعالجوا!

"يجب أن لا يستغرب أحد إذا قام اليهود في جميع أرجاء أرض إسرائيل بحمل السلاح كي يدافعوا عن أنفسهم من العرب، في الوقت الذي تجلس فيه شرطة إسرائيل ساكنة"- هكذا صرخ ودمدم عضو الكنيست أرييه إلداد ولم تهتزّ الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط. كان يجب قراءة إعلانه هذا، جيدًا، وكما يجب: لا يكاد يخلو بيت يهودي في إسرائيل من السلاح (أسلحة الجيش، الشرطة، الأجهزة الأمنية أو مجرد عادة مُحببة)؛ ففي الدولة التي يسود فيها مبدأ "كل مواطن جندي"، فيما الباقي متختصون أمنيون متقاعدون، لن ينتظروا إلداد ليدعو إلى تسليح الأغلبية المهيمنة والسائدة في الدولة. وإلداد ليس غبيًا؛ لكنه أراد فقط أن يذكّر اليهود بأنهم يمتلكون الأسلحة في البيوت ويجب أن لا يخشوا من استخدامها، فالساعة مواتية والجميع يتغنى بفرح وبشهوة مستعرة: العرب يقومون ببوغروم ضدنا- فهيا إلى المعركة!

عمليات التدمير التي يزرعها العرب في المواجهات مع اليهود، تنبع من الاغتراب والغربة اللذين خلقتهما أجهزة الدولة؛ الغضب الحاصل جراء هذا يجب أن يُستغلّ لبناء برنامج سياسي واجتماعي، لبناء خطة عمل مع أهداف، لوضع استراتيجية حاسمة في وجه نظام الحكم والأغلبية اليهودية. وبدلا من هذا، يُفجر البعض منا غضبه على سيارات ومتاجر من ننظر إليهم على أنهم الممثلون الفوريون للسلطة الظالمة والجائرة. صحيح أنّ هذا يشكل وسيلة للتنفيس، إلا أنه يمكن أن يحبط جميع النضالات العادلة التي نكتب ونتظاهر ونتنظم من أجلها. هذا أمر متسرّع وغير منصف تجاه المتضرّرين، والأهم أنه غير حكيم.

من المثير لأشدّ القلق أنّ الحلّ الوحيد الذي يجري تطبيقه على الأرض للمشاكل التي تعانيها المدن المختلطة (خلافا للخطط الخمسية التي تبلى في الأدراج) هو جلب طلاب مدارس دينية يهودية ومستوطنين لتقوية الأحياء اليهودية. هذه زعرنة أيديولوجية نقية، وتفكير فاشي استبدادي هدفه زرع الإرهاب والهلع لغرض تنظيف الأحياء العربية من "النجاسة" العربية. كل مُلتهم للعربوشيم هو بطل، كل كارهٍ للعرب هو ترومبيلدور.

من المخيف أن تحيا في عكا في هذه الأيام، ومن المخيف أكثر أنّ الجميع عاد إلى حياته الروتينية في الدولة، في الوقت الذي تستمرّ فيه حملات التدمير اليهودية وبأقصى قوتها. أمس (السبت، 11 الجاري)، أحرقت أربعة بيوت عربية وحتى خلودي للنوم في الواحدة ليلا كانت هناك عائلة عربية محاصرة في بيتها، تصلي من أجل معجزة. ولكن المعجزات لا تحصل في البلاد المقدسة (ما عدا مقتل رابين في نظر مئات آلاف المسيحانيين)، ولا تزال هذه البلاد تنزف كراهية أسيادها.



الثلاثاء، 7 أكتوبر 2008

الكتب في الممنوعات!


منذ العام 2000، وتحديدًا منذ اندلاع الانتفاضة الثانية، تغيّرت إسرائيل بعمق على المستوى القيادي الرسمي وعلى المستوى الشعبي. فمن وجهة نظرهم، "خذلهم العرب والفلسطينيون" بعد أن أعطاهم الإسرائيليون "كل شيء" (مفاوضات كامب ديفيد الثانية). وهذا يفسر الهجمة الشرسة على العرب الفلسطينيين مواطني إسرائيل، متمثلة بهجمة على القيادة السياسية والأحزاب وعلى مؤسسات المجتمع المدني.

ومن "جسر للسلام" تحول العرب مواطنو الدولة في غضون أقل من ثماني سنين إلى كابوس يقض المضاجع، وينعكس هذا في نموّ خطاب الفصل العنصري والترحيل وقبول المجتمع الإسرائيلي لهذا الحل في جميع الاستبيانات الحاصلة في السنوات الأخيرة. من هنا، يبدو إلغاء تصريح استيراد الكتب الممنوح لصالح عباسي، صاحب مكتبة "كل شيء" في حيفا، استمرارًا طبيعيًا لهذه السياسة، بحجة الاستناد إلى بند قانوني إسرائيلي ينصّ على "منع استيراد بضائع تجارية من دولة عدو".

وهكذا، يصبح من المستحيل اليوم على قارئ عربي من حيفا أو الناصرة أو أم الفحم أن يقرأ آخر إصدارات "دار الآداب" أو "رياض الريس" لأنّ كتبهم صارت، رسميًا ونهائيا، "ممنوعات أمنية". إنها عودة صريحة وشفافة إلى منظومة الحكم العسكري، وهي الفترة التي امتدت من وقت تأسيس إسرائيل إلى العام 1966، حيث خضع الجليل والمثلث والنقب إلى حكم عسكري في الديمقراطية الإسرائيلية الناشئة، مُنع العرب خلالها من التنقل أو كسب رزقهم من دون تصاريح من الحاكم العسكري.

وتميّزت تلك الفترة بمحاولة إذابة وقمع للهوية العربية الفلسطينية لدى الأقلية التي بقيت آنذاك في ظل الدولة الفتية، وذلك عن طريق إنشاء وسائل إعلامية (صحف، ومن ثم صوت إسرائيل بالعربية، صوت المخابرات الإسرائيلية) هدفها ضرب الأصوات الوطنية ومحاولة فرض خطاب سياسي-ثقافي متقبل للهوية الإسرائيلية الجديدة. ووقتها، لم يكن من الممكن استيراد كتب عربية من العالم العربي، وكانت الناس تستمع إلى خطابات جمال عبد الناصر عبر المذياع، سرًّا، وبعد أن يغلقوا الأبواب والشبابيك.

بعد نكسة 1967 بدأت المفارقات التاريخية المضحكة-المبكية: صار بالإمكان التواصل بين "عرب الداخل" وبين عائلاتهم وأخوتهم وأشقائهم في جنين وغزة، وبدأت حركة ثقافية تبادلية نشطة، برز خلالها النهم الكبير للعرب في إسرائيل بالقراءة والتواصل الثقافي مع محيطهم الطبيعي. وما زاد المفارقة، اتفاقية كامب ديفيد المكروهة، فهي كانت السبب في إعطاء تصريح من الرئيس المصري الراحل أنور السادات، إلى عباسي، الذي حمل التصريح وتوجه فورا إلى القاهرة وعاد بحوالي ثلاثين ألف كتاب، يشهد هو على بيعها خلال أيام قليلة في ساحة "بيت الكرمة" في حيفا.

وكيف للمفارقة أن تكتمل من دون العدوان على لبنان في العام 1982؟ فصديق عباسي اليهودي ضمن له الدخول إلى صور، ومرة أخرى عاد عباسي بآلاف الكتب إلى الداخل وباعها أيضًا في أيام قليلة. مشوار الكتاب العربي والثقافة العربية في الداخل مرتبط باحتلالات وفتوحات إسرائيل، كونها الطريق الوحيدة التي كانت متاحة نحو الخارج. وبعد اتفاقية السلام مع عمان تحولت عمان إلى همزة وصل أوتوماتيكية بيننا وبين العالم العربي؛ فلم يتوقف الأمر عند استيراد الكتب، بل صارت اللقاءات الثقافية مع العرب والفلسطينيين من الدول العربية تُعقد في عمان، متغلبة على منع دخولهم إلى حيفا ويافا، وعلى إحراج استقبالهم بختم جوازهم الأجنبي بختم إسرائيلي. إنه حصار ثقافي جديد، يبغي العودة بنا إلى تلك الفترة، فترة الابتعاد عن السياسة وتفضيل الركض وراء لقمة العيش وترقّب أيام أفضل.

منع الكتب والقراءة شبيه بإحراق الكتب في الشوارع، في المحصلة. كان هذا اليهودي هايني هنريخ الذي قال: "في المكان الذي يحرقون فيه الكتب في الشوارع، سيأتي يوم ويحرقون الناس أيضًا".

الأربعاء، 1 أكتوبر 2008

هيّا إلى المدوّنات

إفتتح قبل يومين الصديق العزيز والزميل الصحافي فراس خطيب مدونة جديدة له وهي بهذا تنضم إلى المدونات القليلة التي افتتحها مبدعون وكتاب وفنانون وصحافيون وناشطون من فلسطينيي الداخل، مع أنّ تقليد فتح المدونات صار تراثًا يكاد يكون تقليديا اليوم في العالم العربي وغزة والمناطق الفلسطينية المحتلة (بوضعها السياسي اليوم: المُختلة) عام 1967.

ولكن يبدو أنّ المدوّنات هي خيار الفقراء والمطارَدين؛ فهي خيار الفقراء لأنّ تكلفة فتح مدونة لك على الشبكة العنكبوتية هي صفر من الدولارات أو الريالات أو الشيكلات. بضعة كبسات وخيارات (مع أنّ هذه مهمة شاقة للبعض من جبناء التقنيات!) وأنتَ عنوان جديد على الشبكة الكبيرة. صارت لك مساحة متخيلة، مفترضة (فيرتوال) تستطيع فيها أن تصول وتجول، وتعلم الناس أصول فلسفة ابن عربي أو تعلمهم كيف تُصنع الكبة في الجش (كبة إم علاء) والفرق بينها وبين الكبة في الناصرة (كبة إم العبد التي لم أذقها حتى الآن- ولهذا مقال في مقام آخر!)، أو أن تعلمهم أن يحبوك أو أن يحبوا كتاباتك- والأمران سيّان.

ومن خلال تجوالي في عالم المدونات العربية اكتشفت كون المدونات في معظمها مُعدَّة للمُطارَدين من خلق الله، فترى المدونات المصرية عالمًا هائلاً من السياسة والاحتجاج والكليبات المصورة لأحداث سياسية عاصفة تجري في مصر، ولكن التلفزيون المصري لا يبثها. جنة من المعلومات والمعلومات البديلة وحرية كتابة وحرية ردّ، وأحيانا لدرجة الشتم "الشارعي" الإنترنتيّ (أمثلة: "إيه اللي انت كاتبو ده يا ابن المتناكه؟"؛ "الود ده خول والا إيه؟"؛ "الشرمطة دي لازملها حد بقى!"؛ "والله واكبرت يا (فلان) وطلعلك شعر عالبيض"). ولا أجد تحرّجًا من إيراد هذه الشتائم هنا لأنها: (1) موجودة في الإنترنت وبالعربية منذ فترة؛ (2) لأنها مؤدبة إلى جانب الواقع الذي نعيشه؛ (3) رحم الله امرأ قال: الواقع أكثر بذاءة من أية شتيمة؛ (4) وهو الأهم: لا يوجد كلام بذيء، يوجد أناس بذيئون!

وهذه روعة أخرى من روعات المدونات: هل تعتقدون أنه كان يمكنني أن أنشر المَسبّات التي بين الأقواس أعلاه في أية جريدة عربية في العالم؟ لا أعتقد. وكي أكون صادقًا معكم حتى النهاية، سأقول لكم من خلال تجربتي كمحرر في صحف عربية مختلفة: أنا كمحرر كنت سأشطب هذه الجمل أيضًا من هذه المقالة. سأشطبها وسأشرب كأسين سريعين من الفودكا المثلجة كي أقمع الثورة المُهانة في داخلي. هذه قوانين اللعبة، وعلينا جميعًا أن نلعبها، إلى أن يحصل أمران، لا ثالث لهما: أن نموت بسرعة (أي أن نموت مَجازًا، من الداخل) ونعيش كما يعيش الباقون؛ أو أن نفتح مدونة.

وأنا صراحة لا أفهم الدافع من وراء فتح مدونة لا ينوي كاتبها/ كاتبتها قلب الدنيا رأسًا على عقب وتجاوز قوانين اللعبة في عالم النشر "السَّويّ" (يعني النورمال). في دول القمع السياسي (مصر، سورية، الأردن، وغيرها) تجد المدونات السياسية تكتب وتسبّ وتنتقد وتناقش وتشرئبّ بشراهة كبيرة، فماذا لدينا هنا؟ ولماذا لم نُغرق الدنيا بمدوّنات عن وضعنا السياسي والاجتماعي؟ هذا سؤال كبير أعتقد أنه بحاجة إلى إجابات علمية أشمل وأوفى من جرات قلمي التدوينية (أين د. أمل جمال ود. مصطفى كبها حين نحتاجهما؟).

إذًا، فها هو فراس خطيب يدشن دخوله إلى العالم الرقمي ويصبح عنوانا في الإنترنت. منذ اليوم سيصير مسؤولا عن موقعه، عليه أن يدافع عنه بشراسة، أن يجعله فريدًا ومتميزًا ومتجددًا وإلا ملته "ماوسات" المتزحلقين بين المواقع. وسيكون من حسن حظ خطيب إذا ما شيّعت الجماهير الرقمية مدونته في داخل الفيسبوك (شيّع الشيء: أشاعه، وليس بالضرورة قبره!)، وعندها هو السعيد السعيد، المديد المديد.

سأترقب هذه المدونة كونها لصديق وكاتب عزيز، وكونها تنضاف إلى مدونات "الداخل" القليلة وغير المتجذرة، وكونها ستكون مثيرة وممتازة، بفعل معرفتي بخطيب ومقدراته.

ولكننا في النهاية، المُدوِّنين، نظلّ لاعبي هامش، نعلق ونزايد ونحاضر، ونسبّ ونشتم ونتأوّه بفعل الواقع وخرائياته. نحن كمن أعطوه ميكروفونا في حفلة ديسكو ماجنة: الملايين ترقص على الصوت الصاخب لموسيقى الترانس والنقود والتديّن والماريحوانا والكوك والعرقسوس والأرغيلة، ونحن نقف على المنصة مع ميكروفون ضئيل ونصيح بأعلى أصواتنا المبحوحة: "سَمَعْ يا! سَمَعْ!!!!).

تحضرني هنا قصيدة "كلب الستّ" لأحمد فؤاد نجم، والتي يحبّ أخي عامر أن يرددها حين تبدأ أبخرة الكحول بتبخير القعدة. أذكر منها بوجه خاص هذين السطرين:

"هيص يا كلب الست هيص
لك مقامك في البوليس".

لنا المدوّنات لنهيص بها، مع أننا لم نصل بعد إلى مقام كلب الستّ ومَحظيّاته. فنحن مجرد كُتاب لا يجدون من ينشر لهم شتائمهم وعذاباتهم، لأنه من غير اللائق أن تغرّد "خارج السرب". ولكن، بالأحرى ومن الأصدق أن أقول: نحن مجرد كُتاب...