الأحد، 31 أكتوبر 2010

فديتكَ تشيخوف: كيف يموت مثل هذا الكاتب؟

القراءة في بيوغرافيا أنطون تشيخوف التي ألفها هنري تروايا، مهمة لذيذة ومُخدّرة، إلا أنها صادمة ومُحزنة. صفحة بعد صفحة ترافق هذا الكاتب العبقريّ في سيره نحو نهايته المحتومة: الموت المبكر بالسّل...

توفي أنطون تشيخوف في الساعة 20:21 مساء الأربعاء الماضي (20 تشرين الأول الجاري 2010)، وأنا أجلس وحدي في مطار أمستردام الدولي، آكل قطعة بيتسا حقيرة وأحتسي كأسًا من بيرة هولندية سقيمة. أقصد أنني وصلت الصفحة رقم 501 من كتاب البيوغرافيا الذي بدأت قراءته قبل أسبوع من تأليف هنري تروايا. دمعت عيناي وأحسست بحاجة كبيرة للبكاء، فنزلت بعض الدموع الخجلة ومسحتها بسرعة.
ذهبت في خلال أسبوع إلى رحلة عاصفة شيقة هي حياة الكاتب الروسي العظيم أنطون تشيخوف. رافقته في أيام طفولته البائسة وظلم والده المتديّن له وإجباره على الجلوس في الدكان العائلي المظلم في شتاء روسيا القارص وترديد الصلوات والتراتيل لساعات مرهقة وغير معقولة. رافقته وهو يراقب عائلته تنهار بعد إفلاس الدكان وتفرّق العائلة واضطراره للبقاء وحيدًا في قريته النائية. وما صدمني في بداية الكتاب أنني عرفتُ أنّ تشيخوف ينحدر من عائلة أقنان، عبيد. وقد عمل جده بجهد كبير كي يفتدي أبناء العائلة ونجا أبوه من هذا المصير لحسن حظنا جميعًا.
عندما بدأ تشيخوف دراسة الطب تحقيقًا لرغبته في أن يصبح طبيبًا يطبب الناس، بدأ يكتب بعض القصص “التافهة” كما نعتها للمجلات الروسية التي كانت تدفع بعض القروش لقاء كل سطر وكان ممنوعًا من كتابة قصص بأكثر من عشرين سطرًا كي تكون جذابة وسريعة في أعين القراء. وقد أدت هذه التقييدات إلى إجبار تشيخوف على اتباع أسلوب بسيط ومتقشف في الكتابة، بعيدًا عن الإطناب الروسي في الكتابة (والكلام)، ومتمردًا على أسلوب تولستوي ومجايليه آنذاك. وانطلاقًا من هذه الكتابات التي كان ينجزها من أجل النقود تطورت مهاراته الكتابية وصار يكتب بغزارة وبسرعة وبتكثيف كبير. ومع أنه تقدّم في هذا المجال بسرعة، إلا أنه ظلّ يقول: الطب زوجتي الشرعية أما الأدب فهو عشيقتي السرية.
من المستحيل التوقف عند محطات حياة تشيخوف على طول هذا الكتاب الممتاز. إلا أنّ اكتشاف مرض السلّ لدى تشيخوف في مطلع عشرينياته جعل من حياته سباقًا مع الزمن. وبحكم كونه طبيبًا كان يعرف أنّ نهايته لا ريب ستكون على يد هذا المرض المزمن اللئيم، إلا أنه عاش حتى سنته الأخيرة في حالة إنكار تامة لسوء وضعه الصحي، ورغم ذلك ظلّ يتنقل بين البيوت والإقطاعات في الريف الروسي وموسكو وبطرسبرغ وباريس ونيس وإيطاليا. كان يبحث عن الشمس دائمًا: يبحث عنها حرفيًا من أجل صحته ويبحث عنها مجازًا في كتاباته. كان يهمه أن يوثق الحياة الروسية كما هي، ببساطة وصفها وبدقة تفاصيلها وكان ينأى بنفسه عن الديباجات والإطنابات التي ميزت الأدب الروسي حينها.
لم يكن تشيخوف رجل الشعارات الرنانة، بل كرّس كل حياته وأمواله لبناء المدارس والمكتبات وتجنيد التبرعات لمحاربة الأوبئة. كان المعيل الوحيد لعائلته واضطر أن يوازن بين رغبته في العطاء وبين مصاريف العائلة الكبيرة. وأعتقد من خلال فهمي لما قرأت أن حالة المَساس التي كانت تنتابه لشراء البيوت والإقطاعات نبتت من أصل عائلته كعائلة عبيد سعت للاستقلال والعيش بحرية وكرامة وأعتقد أنه رأى في البيت الرمز الأول والأخير للاستقلالية والكرامة.
كانت علاقات تشيخوف مع النساء غريبة كل الغرابة؛ فطيلة حياته لم “يرتبط” بأكثر من ثلاث أو أربع نساء، وحتى هؤلاء كانت العلاقة معهن غير مستقرة، غير مفهومة. وقد وصف نفسه في أكثر من مكان في رسائله وأحاديثه أنه ليس ملهوفًا على الجنس إطلاقا. وقد اضطر للانتظار حتى سن الثانية والأربعين، قبل موته بعامين، كي يقع في غرام الممثلة أولغا كنايبر من “مسرح الفن” الذي أسسه نميروفيتش-داشينكو وستانيسلافكي، والذي أخرج وقدم جميع مسرحيات تشيخوف. فالتعاون مع “مسرح الفن” كان بالنسبة له حبل النجاة ولولا هذا المسرح لتوقف تشيخوف عن كتابة المسرح بعد أول مسرحية له حيث أهين هو ومسرحيته وأضحى أضحوكة الوسط الثقافي. إلا أنّ نهج التمثيل الذي كان يختلف في هذا المسرح أعاد الثقة إلى تشيخوف وقرر كتابة المسرح لهذه الفرقة.
يمكننا أن نستدلّ الكثير عن أسلوب تشيخوف في الكتابة والتفكير عن الكتابة (وهو أسلوبي المفضل) إذا قرأنا هذا المقطع من إحدى رسائله للكاتب الروسي الشاب (آنذاك) جوركي، الذي كان قد بعث له بمخطوطات وطلب رأيه. يكتب له تشيخوف: “إنك تستخدم الكثير من الأوصاف بحيث يصعب على القارئ أن يقرر أيها يستحق اهتمامه بشكل خاص وهذا ما يتعبه. فإذا كتبت “جلس رجل على العشب”، فهذا المعنى واضح ومفهوم ولا يتطلب إعادة قراءة، غير أنه سيصعب عليك أن تتابعني بسهولة من دون أن ترهق دماغك لو أنني كتبت: “رجل طويل ذو صدر ضيق ولحية حمراء متوسط الطول جلس دونما ضجة وهو يسترق النظر حوله بتخوف وتوجس على رقعة من العشب الأخضر الذي داسته أقدام المشاة!” فالذهن لا يستطيع استيعاب كل هذه الأوصاف في الحال، والمهارة الفنية في الموضوع تتجلى فيما يمكن استيعابه وفهمه مباشرة وعلى الفور”. (ص 342) وقد أوجز هذا الرأي في رسالة لأخيه ألكسندر: “الإيجاز قرين الموهبة”. (ص 456)
كان تشيخوف كما تشهد رسائله ورسائل الآخرين والمحادثات التي وثقت، إنسانًا حادّ الذكاء وسريع الفطنة ومتقدًا بروح دعابة ساخرة ولاذعة، لكنه لم يكن كَلبيًا بالمرة مع الناس أيًا كانوا. كان أحيانًا يجلس لساعات يستمع إلى محادثات ضيوفه الكُثُر الذين كانوا يزعجون وحدته، يبصق دمًا من السلّ ويتحرق للكتابة ويبتسم لكل هؤلاء الغرباء ابتسامة واسعة.
حارب لأشهر طويلة في أيامه الأخيرة لكتابة آخر مسرحياته، “بستان الكرز”، وكانت زوجته الممثلة أولغا تحثه برسائلها على إنهاء المسرحية، حيث أنّ موعد العروض قد تحدد وهو لم يُنهها بعد. كانت هذه مهمته الأخيرة، إلا أنه ولأول مرة في حياته كان عاشقًا بحقّ وكان بُعده عن أولغا مصدر عذاب له لا يُوصف. كانت معنوياته ككاتب في الحضيض وهو يشعر بأنه يحتضر ببطء، وكتب لزوجته أولغا: “إنني بعيد كل البعد عن كل شيء بحيث أنني بدأت أحسّ بالقنوط. أشعر أنني انتهيت ككاتب، وكل جملة أكتبها تبدو عقيمة القيمة، ولا فائدة منها على الإطلاق”. (ص 469)
في الثانية عشرة والنصف ليلا من 3 تموز (يوليو) 1904 قعد تشيخوف في الفراش في منتجع معزول قرب برلين حيث كان مع زوجته، وطلب الطبيب. كانت هذه المرة الوحيدة في حياته التي يطلب فيها الطبيب. وعندما حضر قال له تشيخوف ببساطة بالألمانية “Ich sterbe”- “أنا أموت”. وقد رفض تشيخوف أن يرسل الطبيب في طلب أنبوبة أكسجين لأنه لا فائدة من ذلك، وبدلا من هذا جُلبت قنينة شمبانيا. “أفرغ كأسه ببطء وتمدد على جانبه الأيسر، وبعد لحظات قليلة توقف تنفسه وانتقل إلى عالم الموت بنفس البساطة التي طالما اتصف بها”. (ص 501).
لا يمكن للمرء أن يصف أهمية الانكشاف على حياة الكاتب الذي تحبّ. فجأة تفكّ الكثير من الرموز ويتضح الكثير من الصور، ويصبح نتاجه أكثر منالية ووضوحًا. لقد دفنتُ قبل أيام تشيخوف والآن أنا متحير كلّ الحيرة بين أن أبدأ بقراءة البيوغرافيا عن شكسبير، أم الاستسلام لأسبوع أو أكثر للرواية الأمريكية العظيمة “موبي ديك” من جديد وبعد سنوات طويلة من قراءتها…
لا أعرف، لم أقرر بعد، ولذلك أنا أقرأ حاليًا رواية ساحرة لإسماعيل كاداريه الألباني.

_________
“أنطون تشيخوف”. تأليف: هنري تروايا، ترجمة: حصة منيف، إصدار: المشروع القومي للترجمة، 2000

هلوسات مانشسترية والكثير من البطّ

“رزق الهبل عالمجانين”- أسمي هذه الظاهرة. فهناك من يشتري لك تذكرة سفر بالطائر الميمون، يدفع لقاء مبيتك في الفندق (غرفة “جنسية” موفقة هذه المرة) ويمنحونك مصروفًا يوميًا معقولا ويدفعون لك أجرَ حضوركِ، كي تجلس على المنصّة مع كاتب آخر أو اثنين وتقرأا عشر دقائق (كلّ واحد)، ثم تجيبان على بعض الأسئلة… وخلص.

أروج وأجيء إلى بريطانيا مثل البندول. ولولا تعلقي الشّره بالفطور الإنجليزي الشهير (يُنظر القصيدة في الأسفل) لما كنت متأكدًا من تلبية الدعوات للمشاركة في مؤتمرات أدبية، بعضها يكون جماهيريًا مثيرًا (”هاي فستيفال” قبل ثلاثة شهور) وبعضها يكون حميميًا حدّ الوحدة (مهرجان “ليفربول”، أمس الأحد (17 تشرين الأول 2010)). في اليوم التالي عرّجت على مانشستر للمشاركة في قراءة أدبية أخرى في مهرجان مانشستر الأدبي. وقياسًا بما حدث في مهرجان الثقافة العربية في ليفربول (تشبه صفد في حقارتها)، فقد كانت القراءة والنقاش في مانشستر أشبه بالاحتفاء بثلاثتنا بجائزة بوكر البريطانية مينيموم (ثلاثتنا: ياسين عدنان وعبد القادر بن علي وحضرتي)!
“رزق الهبل عالمجانين”- أسمي هذه الظاهرة. فهناك من يشتري لك تذكرة سفر بالطائر الميمون، يدفع لقاء مبيتك في الفندق (غرفة “جنسية” موفقة هذه المرة) ويمنحونك مصروفًا يوميًا معقولا ويدفعون لك أجرَ حضوركِ، كي تجلس على المنصّة مع كاتب آخر أو اثنين وتقرأا عشر دقائق (كلّ واحد)، ثم تجيبان على بعض الأسئلة… وخلص.
ولكنني اليوم فكّرت في الموضوع أكثر وأنا ألتهم تشيز بورغر بالـ “هام” والمُخلل و”باين” من الغينيس الإنجليزي الأسود، وتوصلتُ إلى نتيجة مفادها أنني أنا من يصنع لهم معروفًا وليسوا هم.
نعم، هكذا، بكلّ وقاحة. فيما يلي التسويغات:
أنا كفلسطيني ضحية الإمبريالية البريطانية. الآن وقت السّداد. الرجاء الدفع باليورو أو بالإسترليني؛
أنا وقح وأدحش كلمة “فاكِن” في حديثي أكثر من مرة، فيُحرَج البريطانيون المهذبون ويضحكون في الأمسية، فتنجح وتنفرج أسارير المنظمين فأنقذهم من ارتباك التهذيب المُملّ؛
نجيب محفوظ توفي وأدونيس اعتزل الشعر وسعدي يوسف لا يحبّ المهرجانات؛
مواصفاتي ومواهبي المتعدّدة: أنا عربي وهذه خانة؛ أنا فلسطيني وهذه خانة؛ أنا رجل ليبرالي منفتح وهذه خانة؛ أنا أنتي صهيوني وهذه خانة؛ أنا أكتب عن القضايا الاجتماعية ولا أكتفي بالسياسة كما هو متوقع من الفلسطينيين وهذه خانة؛ أنا متعاون وأحترم المواعيد وأردّ على الإيميلات بسرعة وهذه خانة؛ الكثير من قصصي مترجمة للإنجليزية مما يسهل عملية القراءة في المهرجانات وهذه خانة؛ أنا لا أتطلب كثيرًا ولا أتبرم كثيرًا وهذه خانة؛ أنا “الآخر” في أكثر من سياق وهذه خانتان على الأقل.

نـُط يا بط!
جلس عبد القادر بن علي (مغربي-هولندي) وياسين عدنان (مغربي) إلى يميني وجلس الجمهور قبالتنا وقرأنا، ثم سألونا فأجبنا، ثم صفقوا لنا فابتسمنا، فابتسموا، فوقـّعنا على الكتب فوقعنا في الفخ: هذه تحبّ الفلسطينيين، وذلك يريد أن يفهم أكثر وأولئك جميعًا ينتظرون أن يقولوا لك كم كان مثيرًا ومضيئًا لهم (illuminating). ثم انتقلنا إلى الأمور الهامة حقًا في كلّ مهرجان أدبيّ أو فنيّ: العشاء والقهوة والبيرة وجرد المشهد الثقافي-التقوّلاتي من المحيط الحاسر إلى الخليج الخاسر.
صرتُ أتعب وأملّ من السفر. تخبط رجلاك في أرصفة غريبة، وحيدًا بلا رفيق. تفكّر في دُشة الديناصورة الصغيرة وأمها، وتبحث عن أقرب دكان للملابس كي تمارس “شوبينغ” عنيفًا، فتشتري للدشة 74983279847 بلوزة و324093820948 كنزة للشتاء. تمارس شوقك بشراء الملابس لابنتك الخلابة. هل صرتُ إمبرياليًا إلى هذه الدرجة؟ أنفض عني غبار تأنيب الضمير لأنني لا أشتري لنفسي شيئًا في أية سفرة. أعتقد أنّ هذا يبعد عني شبهة التسوّق الرأسمالي الشّره.
أشتاق الآن، وأنا أجلس بالفانيله البيضاء على شاطئ الحرّ الخريفي الخرائي في عكا، أشتاق إلى برد مانشستر الذي تتساقط الخصيتان لشدّته. أنا رجل الشتاء، أين الشتاء؟ الحضارة في الشمال عند المطر، والجهل والتأخر في الجنوب عند الحرّ والشمس والصحراء. أنا أكره الصحراء وأكره شمس الوطن وأحبّ غيوم بريطانيا وفرنسا أكثر من أطلال الغابسية وسحماتا. هل يصحّ ذلك؟؟
إنها فرصة مثيرة أن يجد المرء نفسه بعيدًا لثلاثة أو أربعة أيام عن بؤرة الخمول التافهة التي نحيا فيها، وأن ينظر من بُعد آلاف الأميال إلى عكا أو حيفا ويشعر بسعادة غامرة لأنّ الطبق الصيني الذي طلبه للتوّ مليء بالبطّ. البط؛ هذا الاختراع الجميل.
البط، سيداتي آنساتي سادتي، البط هو ذروة كل مهرجان أدبيّ بلا منازع!
نعم، والفطور الإنجليزي…

فطور إنجليزي
في الثامنة صباحًا
أداعب النقانق المُحمرّة مثل خدّ امرأة خجلى.
تسبح قطع البيكون
في صفار البيض
ولا يحتمل البيض المقلي اغتراب الشوكة والسكين
في جسده الأبيض.
إنها ترنيمة للفطور الإمبريالي-
من قال إنّ الاستعمار يفسد للشهية قضية؟
ولا ننسى –فلتنسَني يميني!-
رقائق البطاطا والبصل المقلية
بزيت الخريف البارد.
مرحى للبودينغ الأسود المشبوه
مثل عميل مدسوس…
في الثامنة صباحًا
من كل صباح-
يقتلني الفطور الإنجليزي الدّسم
فأندَسمُ !

السبت، 16 أكتوبر 2010

كل عام وأنت بخير، أوسكار وايلد


لا يمكن للمبدع أن يكون جزءًا من المجموع، يجب أن يسلخ نفسه عنه كي يحبه من بعيد، كي ينتقده ويُشرّحه وكي ينصره بأدوات أفضل. هذا ما تركه صديقي أوسكار وايلد لي. هذه وصيته التي قرأتها في كتاباته


القليل من الكتب تلك التي يتذكر الواحد منا متى قرأها أول مرة (في باريس)، وقليلة من بينها الكتب التي تتركك صريعًا في الفراش بعد الانتهاء منها، لا ترغب بقراءة أيّ شيءٍ بعدها. "صورة دوريان غراي" (The Picture of Dorian Gray) لأوسكار وايلد هو واحد من هذه الكتب.

قليلون هم الكتاب الذين يَرقون بروح دعابتهم أو ببعض أقوالهم المفذلكة إلى مستوى كتابيّ ودراميّ وفنيّ يجعل من هذه الفذلكات جواهرَ ودررًا تزين التاج الكبير المتقن، ولا تكون التاج نفسه. فالجمل الكثيرة الذكية التي تملأ هذه الرواية تُكسب القراءة فيها، تراكميًا، حالة من الذهول اللذيذ، يتحول إلى خدرٍ ثم إلى استسلام كامل لعبقرية كاتبها.

وُلد أوسكار وايلد في 16 تشرين الأول 1854 في دبلن في إيرلندة وتوفي في 30 تشرين الثاني 1900. ومنذ تشكل وعيه قرر أن يُجاهر بميوله الجنسية المثلية خارجًا بهذا على جميع المعتقدات والأعراف الاجتماعية في إنجلترة آنذلك، التي انتقل إليها وهو في السابعة عشرة من عمره. لم يَخفْ وايلد من هويته الجنسية ومن آرائه الحادة الثاقبة النفاذة، بل ضمّنها في هذه الرواية وفي مسرحياته (أشهرها "مروحة السيدة فندرمير" و"أهمية أن تكون جديًا") ومقالاته ومسلكياته الاجتماعية. وقد دفع ثمنا لذلك حين اعتقل في 6 نيسان 1895 وقُدم للمحاكمة بعد أربعة أيام، حيث وصف مُدّعي الدولة وايلد بأنه مجرم أفسد الشبيبة "لأنه حوّل الأخلاقيات إلى كلمة مستهجنة، وحوّل "الهودينيّة" (مذهب اللذة) إلى أداة فساد، ودفع عددًا كبيرًا من أبناء الشبيبة إلى ممارسة المثلية بتأثير منه". وأعلن المُدعي أنّ كتاب "صورة دوريان غراي" هو كتاب مُفسِد وحقير "وقد قرأته بصعوبة بالغة".

في 25 أيار أدين وايلد بممارسة "اللواط والتسيّب المُطلق" وحُكم بالسجن لسنتين مع الشغل والنفاذ. بعد خروجه من السجن انتقل إلى باريس وتوفي جراء التهاب في غشاء المخ.

لقد كان وايلد كاتبًا بالغ الذكاء شديد اللذع ممُعنًا في الكَلبية الأدبية والاجتماعية؛ في رواية "دوريان غراي" يُشرح وايلد حالة النفاق الاجتماعي والسياسي والأخلاقي التي سادت آنذاك. فعندما تحدث عن رجل سياسة في الرواية كتب عنه: "لقد اعتزل السلك الدبلوماسي في لحظة غضب لأنهم لم يقترحوا عليه أن يكون سفيرًا في باريس، إذ أنه يعتقد أنه الأحق بهذه الوظيفة نظرًا لأصله وكسله والإنجليزية الجيدة التي يكتب بها برقياته، إلى جانب شهوته الفائقة للملذات".

لقد احتقر وايلد ثقافة القطيع ورأى في الفردانية المبدعة أصل الأشياء وأهمها: "أن تكون خيّرًا معناه أن تكون في هرمونيا (انسياب) مع نفسك... التنافر ينشأ عندما تُجبَر على أن تكون في هرمونيا مع الآخرين. حياة الإنسان الخاصة هي الأهمّ مطلقًا... الفردانية هي الأسمى. الأخلاقيات العصرية مرهونة بالانصياع لمعايير الفترة التي تحيا فيها. وأنا أرى أنّ رجل الثقافة الذي يقبل بمعايير عصره يتصف بانعدام مُقرف للأخلاق."

وايلد هو كاتب التفرّد (بمعنى: التميز؛ بمعنى: الفرد) بجدارة. يسأل في دوريان غراي (على لسان اللورد هنري باستخفاف: "إذا أردت أن تكون محبوبًا، فكن من الوسطيين". إنها الوسطية التي تقتل المبدع، تجعله كائنًا رماديًا غارقًا في "المشهد العام"؛ في "قوانين اللعبة"، في المفاضلة والقياس اللانهائييْن لـ "ما يصحّ ولما لا يصحّ". إنه كائن غريب، أوسكار وايلد، حادّ وساخر بشكل مؤلم أحيانًا،حتى في تعامله مع النقد الأدبي الذي لم يُنصفه أبدًا وقتها. في ردّ على نقد خبيث كُتب عليه قال: "كلّ نصّ نقديّ هو ما يُشبه السيرة الذاتية لكاتبه، سواءً أكان ممتازًا أم هابطًا".

إلا أنّ وايلد لم يكن خاليًا من التناقضات. فتفرّده ونظرته المزدرية للمجتمع لم تمنعه من أن يكون شخصية اجتماعية معروفة، نجمًا في عصر لم يعرفوا بعد ما تعنيه هذه الكلمة. كان هندامه أنيقًا إلى أبعد الدرجات وكان يعاقر الخمر والرجال والحياة الثقافية بشهية كبيرة، حتى بعد أن تزوّج. لقد كان على دراية بالنفوس الفاعلة من حوله في "المجتمع المخمليّ" الاجتماعيّ والثقافيّ، لدرجة أنه قال عنهم: "لا يوجد ما هو أسوأ من أن يتكلم الناس عنك، سوى أن لا يتكلموا عنك". إنها شبه نبوءة صغيرة، متواضعة، سبقت عصر الإعلام والصور والنجوم والتقولات وصناعة الـ "بَزّ" (buzz) الإعلامي.

لقد كان في قمة سخريته ضد المُسلّمات حين رفض ما يدور حوله من تقديس للتجربة والنضوج وما إلى ذلك من الزيف الاجتماعي الذي يلفّ الأوساط التي يدور فيها، حتى كتب: "التجربة تفتقر لأيّ بُعد أخلاقيّ- فهي ليست إلا كلمة يُطلقها الناس على أخطائهم". ثم هاجم المحافَظَة الاجتماعية وزمَ الشفاه وبرم الأبواز المنافقة التي تدّعي التأدَّب والجِّدية، فكتب: "السبيل الوحيد للانتصار على الشهوة- الاستسلام لها".

لا يمكن أن يوافق المرء مع جميع ما كتبه وقاله وايلد، خصوصًا في نظرته الطهرانية إلى الفن ودعوته إلى نفيه وتجريده عن أيّ شيء آخر، بمعنى "الفن لأجل الفن". كتب: "ثمة عالمان فقط: الأول قائم من دون ضرورة التحدث عنه وهو العالم الحقيقي. الثاني هو عالم الفن ويجب أن نتحدث عنه باستمرار وإلا اختفى". ككاتب يؤمن بالعلاقة الوشائجية العميقة بين الفن والبيئة (الاجتماعية، السياسية، الأخلاقية...) أختلف مع وايلد تمام الاختلاف، وأرى أنه من ضمن تناقضاته اللذيذة أنه خلّف وراءه أدبًا ومسرحًا مُتصليْن اتصالاً وثيقًا بالمجموع والبيئة. أن تكره القطيع لا يعني أن لا تكتب عنه؛ على العكس: كراهيتك له ستطلق العنان للصّدق والحقيقة في نصوصك (ولغضب القطيع وجعاره).

لقد صرخ وايلد بنعومته المألوفة ضد الزيف والتزيف، ضد ما سُمي وقتها بـ "الأخلاق الحميدة": "ليس هناك ما يُسمى كتابًا أخلاقيًا أو غير أخلاقي. يمكن للكتاب أن يكون مكتوبًا بشكل جيد أو بشكل سيء. هذه كلّ القصة." لم يُحبّ السعي اللاهث للمجتمع من حوله وراء المظاهر والتزيّي: "المُوضة تعبير كريهٍ للبشاعة، لدرجة أننا نضطرّ لتغييرها كلّ ستة أشهر!" على المرء أن يكون بعيدًا عن الحسابات الاجتماعية وعن اللعبة المدروسة والمرسومة سلفًا، عليه أن يخرج ضد الجُبن والاختباء وراء الحياء المصطنع: "الإنسان يعبّر عن نفسه بضآلة عندما يتحدث باسمه الصريح. إمنحوه غطاءً وسيخبركم بالحقيقة." كان يرى الحياة بمنظار سبق عصره: منظار التعرّي. كان ينظر عبره إلى الناس ويرى عبر ملابسهم ووقفاتهم وأحاديثهم الحقيقة المخفية: "غالبية الناس أناس آخرون. أفكارهم أفكار شخص آخر، حيواتهم تقليد، شهواتهم اقتباس."

كما أنّ الدين لم ينجُ من براثن هذا الثائر الجميل: "المسيح هو أفضل الأمثلة: حتى عندما يُضحّي المرءُ بحياته فإنه لا يكون مُحقـًّا بالضرورة".

أنا أحبّ وايلد حبًا جمًا. أعتبره صديقًا شخصيًا. أقرأ له بهدوء، ببطء شديد. أتمتع بكل جملة ونقلة ومزاج. أغفر له تشنجاته وكَلبيّته (الكَلبية: السخرية شديدة النقد، cynicism) الفطرية لأنه سبق عصره. فصل نفسه عن القطيع وأطلّ عليه من بعيد. لا يمكن للمبدع أن يكون جزءًا من المجموع، يجب أن يسلخ نفسه عنه كي يحبّه ويكرهه من بعيد، كي ينتقده ويُشرّحه وكي ينصره بأدوات فنية أفضل. هذا ما تركه وايلد لي. هذه وصيته التي قرأتها في كتاباته. هذا ما أحاول فعله ولمّا أبدأ بعد.

والخاتمة له طبعًا: "من هو الكَلَبيّ؟ إنه الذي يعرف سعر كلّ شيء، ولا يعرف قيمة لأيّ شيء"...


هنا جنين: استقرار ومرارة

الاقتصاد يسير إلى جانب الأمن: حافلات مجانية من الناصرة إلى جنين ونابلس لتشجيع التبضع، وآلاف كثيرة من الجنود والشرطيين الفلسطينيين خريجي معاهد الجنرال دايتون العسكرية في الضفة الغربية. نحن "عرب إسرائيل" هنا. يحبوننا ولكنهم يبغضوننا في نفس الوقت. نوع من الأخوَّة المشوّهة



مدخل
الجنود على الحاجز يعرفون جيدًا الممثل جوليانو خميس، مدير ومؤسس مسرح “الحرية” في جنين. عندما نتوقف عند حاجز الجلمة المؤدي إلى جنين ينظر الجندي إلى الكرسي الخلفي في السيارة، حيث جيني (زوجة جوليانو) وابنه جيه جيه (جهاد)، فيقول له جوليانو: “هادا ابني الصغير… البنت مش معي اليوم”. يهزّ الجندي رأسه ويسجل رقم السيارة في السجل الطويل الذي معه ويعيد إلينا بطاقات الهوية. نحن نحمل بطاقات هوية إسرائيلية، زرقاء، وهي مُرحّب بها في جنين اليوم، بعد سنوات طويلة من منع حامليها من دخول مناطق “أ” الواقعة تحت سيطرة السلطة الفلسطينية “الكاملة”. إنه عصر جديد من تشجيع سياحة عرب الداخل إلى جنين ونابلس ورام الله. الأسباب اقتصادية بحتة: فليأتِ عرب الداخل الذين يلتقطون قوتهم بصعوبة في دولة اليهود ولينفقوه في الضفة الغربية.

الاقتصاد يسير إلى جانب الأمن: حافلات مجانية من الناصرة إلى جنين ونابلس لتشجيع التبضع، وآلاف كثيرة من الجنود والشرطيين الفلسطينيين خريجي معاهد الجنرال دايتون العسكرية في الضفة الغربية. نحن “عرب إسرائيل” هنا. يحبوننا ولكنهم يبغضوننا في نفس الوقت. نوع من الأخوَّة المشوّهة. أخوة اثنان في عائلة واحدة، يعيشون جنبًا إلى جنب ولكنهم يعيشون على تفاعلات عاطفية وتاريخية غريبة، مستعصية.

أعود إلى مخيم جنين للمرة الأولى بعد زيارة قمتُ بها في اجتياح العام 2002 مع جوليانو نفسه، التقينا وقتها زكريا زبيدي، المطارد رقم واحد وقتها. اليوم، يحيا زكريا في حياة جديدة بعد اتفاق الهدنة الموقع العام 2007، عندما تنازلت المقاومة الفلسطينية عن السلاح في مقابل وقف ملاحقة المقاومين الأمنية وتصفيتهم. شاب آخر يدرس التمثيل في مدرسة التمثيل في مسرح “الحرية” في مخيم جنين، يقول لي على فنجان قهوة في مقهى “ديليكيت” في مركز جنين: “قاومت سبع سنين”، يرفع بلوزته ويرينا القُطَب التي على خاصرته. أكثر من عشرين قطبة. “أنا بكِلية وحدة اليوم… بس بتعرف؟ هاي الانتفاضة الثانية كانت دمار كبير رجّعنا مية سنة لورا.”

بعد يومين في جنين لا تعرف كيف تهضم هذا الهدوء المَشوب بالملل. هل نامت جنين ومخيمها بعد البطولة إياها؟ ما الذي يبحث عنه الناس هنا؟ خيار المقاومة بات باهتًا، بعيدًا، أشبه بذكرى حلوة ومقيتة في نفس الوقت. لا تغرنكم الشعارات والكلام الكبير عن المقاومة والصمود، رغم إنها شعارات صحيحة؛ فالمقاومة والصمود كانا عجيبيْن فعلاً وقتها، لكن الشعارات تُغفل التفاصيل. التفاصيل اليومية، القصص، الفساد، التعفن، التعب، الخمول، اليأس، التسليم باللاجدوى. ليس هذا كلامًا للنفي أو للتقريظ الفارغ؛ إنه حال جنين اليوم، جنين البطولة والصمود.

أحارسٌ لأختي أنا؟
يقوم مسرح “الحرية” بأهمّ ما يمكن للمسرح أن يفعله في أية حاضرة متمدنة أو عريقة: ينبش الجروج وينكأها. لا شيء ممنوع أو محرم. يقول لي المقاوم في المقهى: “الاحتلال هنا”، ويضع سبابته على جانب جبهته بقوة. يغرز أصبعه مرة تلو الأخرى في جانب جبهته ويردد: “الاحتلال هنا، الاحتلال هنا”. أصدّقه وأقبل نظريته، لا لأنها تلائم نظريتي، بل لأنها تصدر عن مطارد نام في الكهوف والشوارع وتشرد بين بيوت جنين لسبع سنوات. الممارسة لديه سبقت النظرية، وليس مثلنا، نظرياتنا تنتظر الممارسة بفارغ صبر.

سيذهب إلى رام الله لتمثيل فيلم. سيلعب دور البطولة. تُبرق عيناه وتلمعان بفرح طفولي. مقاوم مسلح يبحث عن فلسطين في عدسة الكاميرا بعد أن يئس من فوهة البندقية. هل هو الذي يئس منها أم هي التي يئست منه؟

يحذرني جوليانو والمخرج أودي ألوني (من مؤسسي وقياديي حملة المقاطعة الثقافية ضد إسرائيل) من عدم كتابة كل شيء. أوافق. لست صحافيًا الآن يريد أن يصدم القارئ بسبق تصريحيّ يدوم لساعتين قبل تنحّيه جانبًا. سمعت وسأسمع قصصًا مريبة، غريبة، وأخرى تبعث على الاشمئزاز من تحوّل المقاومة إلى مهنة كأية مهنة. من أنا لأحكم عليهم؟ ألا يستحق المقاوم معاشًا يشتري به السجائر والطعام والذخيرة؟ ولكن المعاشات سيطرت، ومنابع النقود التي كانت تصل من “رموز” السلطة تحوّلت إلى مستنقع كبير آثم.

يتلمس ألوني طريقه بحذر وسط الشوارع. نتحدث بالإنجليزية خوفًا وحذرًا. مع أنّ ألوني من المبادرين لحملة المقاطعة الدولية على إسرائيل من منطلقات مناهضة للصهيونية، إلا أنّ المكان لا يتفهم مثل هذه التفاصيل. إنه يهودي يمشي وسط جنين وعليه أن يتعكز على العربي الذي معه كي يكتسب شرعية السائح “الصديق”.

حدثتني المتطوعة الألمانية فقالت: “جئت إلى هنا كي أتطوع لثلاثة أسابيع، ووجدت نفسي أمدد الفترة لثلاثة أشهر أخرى. أعمل مع فرق من الشبان والشابات، أحبهم وأتعلم منهم الكثير. ولكنني أظلّ غريبة رغم أنني هنا، في المكان والحدث. بعد تجربة عسيرة تعلمت ألا أمشي وحدي في الشارع. من الصعب أن تقنع الشباب الذين يقتعدون الأرصفة والمقاهي أنني لست أجنبية “سهلة”، سائبة، يمكن العبث بها وبجسدها. لقد تعلمت أن آخذ حذري، أن أتصرف وفق أصول ورموز المكان الاجتماعية والثقافية.”

هل يزعجك هذا؟ هل يحبطك، أتساءل. “في البداية انزعجت جدًا، ثم اقتنعت بأنني يجب أن أكون هنا رغم كل شيء. أنا هنا لفعل شيء محدد، واضح، سأفعله لأنني مقتنعة به. أحسّ بعدم الراحة اجتماعيًا كأجنبية، ولكنه ثمن بخس أدفعه مقابل ما يمرون به هنا.”
القصص التي يخرج بها الممثلون هنا عنيفة، صدمة، مرعبة. قصص عن نساء تُقتل ونساء تُشوّه بالكبريت والنار. حالة اجتماعية مخيفة، تصدمك رغم توقعك بأنّ الحال هنا “أكثر محافظة” من الداخل. ولكنّ حجم الظاهرة يشلك. كيف يمكن أن نتحدث عن حق المرأة على جسدها بينما يناضلون هنا على حق المرأة بأن تخرج من البيت لرؤية مسرحية؟ في جنين سينما جديدة، “سينما جنين”. أنشأها ويديرها عدد من المتطوعين الألمان. الجميع يُجمع هنا وبلا تردد أن مسألة حرقها مسألة وقت لا أكثر. عندها ستصيبنا الخيبة جميعا: محبي المسرح والسينما والثقافة، الغرب، العالم، سنبرم أبوازنا وسنقول كلمات مثل “تخلف”، “تأخر”، ولكنّ المتطوعة الألمانية أذهلتني عندما رفعت سبابتها وألصقتها بجانب جبهتها وقالت بهدوء: “الاحتلال هنا”.

هل هذا استنتاج شائع هنا؟؟

يهودي! يهودي!
بدأت الأسبوع الماضي العمل على كتابة فيلم روائي طويل عن اجتياح إسرائيلي لجنين. عليّ كي أكتبه كما يجب أن أقضي الكثير من الأوقات مع أهل المخيم كي يكون الوصف والتفاصيل قريبة قدر الإمكان من حقيقتهم، لا حقيقتي. ليلة الأربعاء/الخميس كنت أقف مع أكثر من 15 شخصًا فوق سطح البيت الذي يقطنه جوليانو مع زوجته وابنه الطفل في جنين وألتقط الصور لبحر الأضواء المنزلية التي تملأ المرج الواسع المظلم. العفولة في الواجهة، خلف جنين، ونحن نتحدث عن بشاعة “بلدات التطوير” التي بنتها إسرائيل ليهود شمال أفريقيا لاستيعاب هجرتهم في الخمسينيات. نتحدث عن بشاعة الخضيرة أيضًا، ونتانيا وأوفكيم وغيرها. نتحدث عن البشاعة واليأس طيلة الليل.

ألفّ مع جوليانو في أزقة المخيم. أذكره شذرًا لكنه يحفظه عن ظهر قلب. الدعوات لتناول القهوة تصدر بكرم، لكنّ بعض الأطفال يشيرون إليه: “يهودي، يهودي”… يقترب جوليانو منهم ويتحدث إليهم عن اليهود والمسلمين وسرعان ما يحتضونه جميعًا في صورة تذكارية. أقرب ما يمكن إلى “الديسونانس” الخارق.

سأروح وأجي إلى المخيم كثيرًا في الشهرين القادمين وسأكتب بما استطعت من الصراحة، رغم الكثير من الحبر السريّ. عليكم أن تبحثوا عن الكلمات المختئبة من وراء هذا الحبر…