المنتصرون المهزومون
الجنرال اليائس (محمود أبو جازي) يبحث عن وسيلة لتحقيق نواياه وأهدافه: قتل لجنة التخطيط التي لم تسمع بمشورته لردم نصف البحر الشمالي وبناء مُدن جديدة عليه. فالبحر يتوسط مكانين: الشمال والجنوب. وقد رأى الجنرال أنّ بناء سور في منتصف البحر وتجفيف نصفه الشمالي واستغلاله للتوسع هو الحلّ الأمثل، إلا أنّ لجنة التخطيط الحكومية التي يصبّ عليها جامَّ غضبه لم تسمع بمشورته، وبدلا من ذلك اندلعت حرب (يُفهم ببعض التلميحات أنها كانت حربًا نووية أو ما يشبهها) انتصر فيها الشماليون (طبعًا)، وهم يستطيعون التعرف على الجنوبيين المنهزمين عن طريق رائحتهم أو النظر في عيونهم، فالمسألة سهلة جدًا.
وفي المقابل تسعى المرأة (لنا زريق) نحو أمل مفقود في الخروج من هذا المكان الخانق بانتصاراته، وهي تقع في غرام أمومي لطفل بلاستيكي يبنيه لها "الفنان" (نهد بشير)، إلا أنّ الشاهد الأكبر على كل ذلك هو الجندي-الفزاعة (نضال بدارنة)، الذي يقف في منتصف الحقل حيث يعتزل الجنرال مع قنينة نبيذه ويشتم العالم كله. وعندما يستيقظ الجندي-الفزاعة ويصير "بشرًا" تتضح معالم مسرحية "الحقل الأخير"، وهي إنتاج مسرح "الجوال" الجديد، المشارك في المسابقة الرسمية في مهرجان المسرح الآخر في عكا، الذي بدأ عروضه يوم الأحد واختتمها مساء أمس الأول الأربعاء.
العلاقة التي تنشأ بين "الفزاعة" والجنرال تأخذ منذ البداية منحًى أبويًا، بسبب سذاجة الفزاعة وتعاملها مع الجنرال على أنه أبوه، مع أنّ الجنرال يرى في الفزاعة جنديًا يبعث فيه بُرَق آمال بتنفيذ خططه، حيث يحاول دفعه لأن يأخذ المسدس ويسعى لقتل أعضاء لجنة التخطيط. في هذا المحور، الجندي-الفزاعة العائد من غيبوية (كوما) إلى غيبوبة جديدة، تنبني أكثر لحظات المسرحية تشويقًا وجمالية وإتقانًا، أكثر بكثير من اللحظات الأخرى المُتمركِزة في العلاقة بين "الفنان" والمرأة، وهي العلاقة التي تظلّ عالقة في المساحة غير المريحة بين الفكرة الفلسفية من وراء الشخصيتين والعلاقة بينهما، وبين تطبيقها غير الناجح مسرحيًّا.
وإذا كان مؤلف المسرحية (نهد بشير) ومُعدّها المسرحيّ (سلمان ناطور) قد نجحا في بلورة شخصية الجنرال جيدًا، بمعية أبي جازي الذي يؤديها بإتقان، فإنهما لم ينجحا في المهمة حتى النهاية فيما يخصّ باقي الشخصيات، مع بعض التفاوتات. الشخصية الثانية التي تقترب من المتانة المسرحية هي شخصية الجندي-الفزاعة التي يؤديها نضال بدارنة؛ فمع أنها كانت كاريكاتورية، إلا أنّ ما أنقذها –أكثر من أيّ شيء- هو موهبة بدارنة المتميزة وقدرته على اجتراح كوميديا جميلة جدًا، تستغلّ العناصر الشعبية (وأحيانا الشعبوية) مُسخِّرة إياها في معيار صحيح من الأداء التمثيلي والتوجه الصحيح للشخصية والمواقف المسرحية بينه وبين أبي جازي. هذا هو العصب المركزي للمسرحية، وأبو جازي ينجح في حمل المسرحية على كاهليه، بجدارة، وبتميّز يندمج في ضمن الأداءات التمثيلية المسرحية التي نشهدها في هذه الأيام في "الميدان" بالأساس.
من هذا المنظور، يشكل مسرح "الجوال" السخنيني، بإدارة عادل إبي ريا، ظاهرة مسرحية لافتة للنظر، ولو استمرت بهذا الشكل وبهذا المنحى، فإنها سترقى بالمستوى المسرحي المحلي أكثر وأكثر، وربما (ويا ليت، من أجل المتعة والتنافس) ستكسر مونوبول "الميدان" كمسرح عربي ريبرتواري رائد ووحيد (حاليًا، وليس في جميع فتراته).
لقد واجهت مسرحية "الحقل الأخير" آلام مخاض عسيرة أثناء المراجعات وتبدّل المخرج إثر خلافات حادة، حيث استلم أبو ريا مهمة الإخراج قبل بدء العروض بفترة قصيرة، ومع ذلك، استطاع الطاقم أن يعرض مسرحية جيدة في مجملها، وقوية وجميلة في مواقف متعددة فيها، وبالأساس تلك اللحظات التي حملها أبو جازي، بمعية بدارنة، بدراية وسلاسة. المسرحية تنتهي بهطول مطر حمضي نووي كان الجنرال ينتظره، وهو يبيد الجميع إلا الجندي-الفزاعة الساذج، كمقولة سياسية وفلسفية. كما أنّ المرء لا يمكنه أن يتجاهل المقاربات الواضحة مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولا بأس في هذا أبدًا؛ ولكن خسارة أنّ المعالجة الدرامية لم تستطِع التخلص من الرمزية المبالغ بها في بعض المقاطع، ومن الحوارات "الثقيلة" التي يجب تجييرها وتطويعها خدمة للفكرة والسياق المسرحي، ومن المفرح أنّ الكاتب والمُعدّ (ومعهم الممثلون) لم يتورّعوا جميعهم عن دمج الشتائم اللاذعة، بعاميتنا الفلسطينية المليئة بالشتائم الملونة والجذابة، مما أضفى صدقية وواقعية وأمانة في بناء الشخصيات.
المهزومون المنتصرون
عُرضت في ضمن مهرجان حيفا الدولي للأفلام، الذي اختتم عروضه مساء أمس الخميس، سلسلة من الأفلام الفلسطينية الجديدة، في ضمن "يوم الفيلم الفلسطيني"، الثلاثاء، رأيتُ قسما لا بأس منها، والانطباع الذي يظلّ بعد هذه المشاهدة (ومشاهدات أخرى سابقة، وعبر الوقت) هو أنّ الفيلم الفلسطيني التوثيقي الذي ينجزه الجيل الجديد من السينمائيين الفلسطينيين (في جميع أماكن تواجدهم)، ينقسم إلى قسمين بارزين مختلفين تمامًا: القسم الأول ما زال مقيدًا بقيود التفكير النمطي المتقوقع في عدم المجازفة والاستسلام لمِنواليّة (شبلونة) توثيقية، أعتقد، شخصيًا، أنّ الدهر تنكّر لها منذ زمن. في ضمن هذه المجموعة فيلما "المسعودين" و"البيت المفقود"؛ الأول يروي قصة عائلة عربية بدوية من النقب، قال مخرج الفيلم يوسف أبو مديغم عنها إنها عائلة ليست من العائلات المسحوقة في النقب لأنه لم يرغب برواية قصة تكون "بكائية" وتتمحور في "ضربوني وعذبوني" (ترجمتي الحرة عن العبرية). المشكلة ليست في خيار المخرج، فهذا حقه الفني والسياسي، بل المشكلة في الطريقة غير المثيرة (كأقل ما يُقال) التي اختار بها رواية القصة، وهي طريقة نمطية، سطحية، غير مثيرة فنيًا، وبالأساس، وأهم من كل هذا، تعتمد النَفَس السَّرديّ الجذاب الذي يميّز جميع أنواع الأفلام الجيدة، أوثائقية كانت أم روائية.
الفيلم الثاني الذي ينتمي إلى هذه المجموعة، "البيت المفقود" من إخراج وفاء جميل، يروي قصة المخرجة في محاولتها إيجاد البيت الذي هُجّرت منه عائلتها في عكا، والتي تسكن اليوم قطاع غزة. الفيلم مسكون ومُثقل (ومن دون حكمة تُذكر) بصوت المخرجة الراوية، التي تفسّر لنا أحساسيها وما جرى وما يجري، بلغة تفسيرية لا يمكن أن نفهمها إلا استخفافًا بذكاء المشاهدين، على نمط الأضحوكة حول البرامج الأردنية: "حجة شايفينك عم بتلقطي زتون، ممكن تخبري الأخوة المشاهدين شو عم بتسوي؟"؛ فكل ما كانت تقوله زائد وغير لازم، ويمكن أن نفهم الفيلم القصير كله (19 دقيقة) من دون أية كلمة سردية روائية من المخرجة. هذا خطأ جسيم يرتكبه كل فنان سرديّ، يفضل اللجوء إلى نص سرديّ (مكتوب بصياغة لواعجية نفسانية في هذه الحالة) يشرح ويدفع الحبكة، بدلا من أن تتولى هذه المهمة الصور والمشاهد والحوارات، وإذا اجتمع السرد الزائد مع صور سينمائية ضعيفة فإنّ النتيجة تكون كما في هذا الفيلم.
في المقابل، وبتفاوت حادّ وكبير، يبرز فيلما "بريد أند بريكفسات" و"أنا في القدس". هذان الفيلمان يشكلان في نظري السّرد السينمائي القوي والمتين: دع الصور تتحدث، دع الشخصيات التي توثقها تبني عالمها بنفسها، وما عليك –كمبدع- إلا أن تجلس مراقبا وتختار بحدسك السينمائي المتطور أفضل السبل لتوليف (مونتاج) المواد الخام التي صوّرتها، وهذا ما حدث في هذين الفيلمين. كي يحدث هذا، يجب أن يتوفر العنصر الأكثر قدمًا في أية دراما: القصة المثيرة والشخصيات الجذابة (سينمائيًا، وليس شكليًا).
فجونا سليمان (مخرجة "بد أند بركفست") خرجت لتوثيق حيوات بضعة أطفال وعائلات في حي السّوق القديم في الناصرة، وعادت باثنتين وخمسين دقيقة من السينما التوثيقية القوية والمؤثرة والمُبدعة. ما لفت في هذا الفيلم هو قرار سليمان الشجاع والفني من الدرجة الأولى، التنحي جانبًا كمبدعة وإبقاء الحلبة لشخصياتها وصورها المثيرة: فلا صوت سردي في الخلفية ولا أسئلة وأجوبة تحقيقية ولا ظهور أمام الكاميرا. وهنا المكان لذكر عدسة إيهاب عسل الثاقبة، الواثقة، ولكن الحسّاسة، التي استطاعت أن تتحول إلى جزءٍ من المشاهد والبيئة، وربما يعود هذا أيضًا إلى أنّ سليمان وعسل هما من الناصرة، وأهل الناصرة أدرى بشعابها.
فيلم آخر ينضوي في ضمن هذا التوجه التوثيقي القوي، هو فيلم "أنا في القدس" للمخرجة منى جريدي، التي رافقت طفلا فلسطينيا من غزة يأتي في زيارته الأولى إلى القدس، وهناك يتعرف على كل ما رآه على التلفاز، عن قرب. هذه الدهشة التي رافقته ترافق المشاهد منذ اللحظة الأولى؛ فجريدي تنجح (مع كاتب السيناريو جبر فؤاد) في تحويل رحلته الطفولية شبه الساذجة إلى رحلة قاسية وعنيفة للمشاهدين، الذين يكتشفون مع هذا الطفل الغزيّ قساوة القدس واحتلالها وتركيبة بيئتها وتعقيداتها، من جديد. ومع أنّ الفيلم لا يُجدّد من ناحية الصور التي يجلبها، فهو ليس فيلمًا تحقيقيًا، إلا أنّ الجديد في مشاهده وحيثياته هو النجاح الكبير في إعادة إحياء الصور التي نراها كل يوم، بأضواء جديدة، وعن طريق مقولات جديدة، وبواسطة تصوير وإخراج لافتين وذوي حضور بارز.
أحد السينمائيين قال مرةً إنّ وظيفة المبدع، هي أن يُمكّن شخصًا يسكن قرب البحر منذ سنين طويلة، من أن يسمع صوت البحر الذي نسيه، مرة ثانية. سليمان وجريدي تفعلان ذلك، وبثقة سينمائية عالية.
وفي المقابل تسعى المرأة (لنا زريق) نحو أمل مفقود في الخروج من هذا المكان الخانق بانتصاراته، وهي تقع في غرام أمومي لطفل بلاستيكي يبنيه لها "الفنان" (نهد بشير)، إلا أنّ الشاهد الأكبر على كل ذلك هو الجندي-الفزاعة (نضال بدارنة)، الذي يقف في منتصف الحقل حيث يعتزل الجنرال مع قنينة نبيذه ويشتم العالم كله. وعندما يستيقظ الجندي-الفزاعة ويصير "بشرًا" تتضح معالم مسرحية "الحقل الأخير"، وهي إنتاج مسرح "الجوال" الجديد، المشارك في المسابقة الرسمية في مهرجان المسرح الآخر في عكا، الذي بدأ عروضه يوم الأحد واختتمها مساء أمس الأول الأربعاء.
العلاقة التي تنشأ بين "الفزاعة" والجنرال تأخذ منذ البداية منحًى أبويًا، بسبب سذاجة الفزاعة وتعاملها مع الجنرال على أنه أبوه، مع أنّ الجنرال يرى في الفزاعة جنديًا يبعث فيه بُرَق آمال بتنفيذ خططه، حيث يحاول دفعه لأن يأخذ المسدس ويسعى لقتل أعضاء لجنة التخطيط. في هذا المحور، الجندي-الفزاعة العائد من غيبوية (كوما) إلى غيبوبة جديدة، تنبني أكثر لحظات المسرحية تشويقًا وجمالية وإتقانًا، أكثر بكثير من اللحظات الأخرى المُتمركِزة في العلاقة بين "الفنان" والمرأة، وهي العلاقة التي تظلّ عالقة في المساحة غير المريحة بين الفكرة الفلسفية من وراء الشخصيتين والعلاقة بينهما، وبين تطبيقها غير الناجح مسرحيًّا.
وإذا كان مؤلف المسرحية (نهد بشير) ومُعدّها المسرحيّ (سلمان ناطور) قد نجحا في بلورة شخصية الجنرال جيدًا، بمعية أبي جازي الذي يؤديها بإتقان، فإنهما لم ينجحا في المهمة حتى النهاية فيما يخصّ باقي الشخصيات، مع بعض التفاوتات. الشخصية الثانية التي تقترب من المتانة المسرحية هي شخصية الجندي-الفزاعة التي يؤديها نضال بدارنة؛ فمع أنها كانت كاريكاتورية، إلا أنّ ما أنقذها –أكثر من أيّ شيء- هو موهبة بدارنة المتميزة وقدرته على اجتراح كوميديا جميلة جدًا، تستغلّ العناصر الشعبية (وأحيانا الشعبوية) مُسخِّرة إياها في معيار صحيح من الأداء التمثيلي والتوجه الصحيح للشخصية والمواقف المسرحية بينه وبين أبي جازي. هذا هو العصب المركزي للمسرحية، وأبو جازي ينجح في حمل المسرحية على كاهليه، بجدارة، وبتميّز يندمج في ضمن الأداءات التمثيلية المسرحية التي نشهدها في هذه الأيام في "الميدان" بالأساس.
من هذا المنظور، يشكل مسرح "الجوال" السخنيني، بإدارة عادل إبي ريا، ظاهرة مسرحية لافتة للنظر، ولو استمرت بهذا الشكل وبهذا المنحى، فإنها سترقى بالمستوى المسرحي المحلي أكثر وأكثر، وربما (ويا ليت، من أجل المتعة والتنافس) ستكسر مونوبول "الميدان" كمسرح عربي ريبرتواري رائد ووحيد (حاليًا، وليس في جميع فتراته).
لقد واجهت مسرحية "الحقل الأخير" آلام مخاض عسيرة أثناء المراجعات وتبدّل المخرج إثر خلافات حادة، حيث استلم أبو ريا مهمة الإخراج قبل بدء العروض بفترة قصيرة، ومع ذلك، استطاع الطاقم أن يعرض مسرحية جيدة في مجملها، وقوية وجميلة في مواقف متعددة فيها، وبالأساس تلك اللحظات التي حملها أبو جازي، بمعية بدارنة، بدراية وسلاسة. المسرحية تنتهي بهطول مطر حمضي نووي كان الجنرال ينتظره، وهو يبيد الجميع إلا الجندي-الفزاعة الساذج، كمقولة سياسية وفلسفية. كما أنّ المرء لا يمكنه أن يتجاهل المقاربات الواضحة مع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، ولا بأس في هذا أبدًا؛ ولكن خسارة أنّ المعالجة الدرامية لم تستطِع التخلص من الرمزية المبالغ بها في بعض المقاطع، ومن الحوارات "الثقيلة" التي يجب تجييرها وتطويعها خدمة للفكرة والسياق المسرحي، ومن المفرح أنّ الكاتب والمُعدّ (ومعهم الممثلون) لم يتورّعوا جميعهم عن دمج الشتائم اللاذعة، بعاميتنا الفلسطينية المليئة بالشتائم الملونة والجذابة، مما أضفى صدقية وواقعية وأمانة في بناء الشخصيات.
المهزومون المنتصرون
عُرضت في ضمن مهرجان حيفا الدولي للأفلام، الذي اختتم عروضه مساء أمس الخميس، سلسلة من الأفلام الفلسطينية الجديدة، في ضمن "يوم الفيلم الفلسطيني"، الثلاثاء، رأيتُ قسما لا بأس منها، والانطباع الذي يظلّ بعد هذه المشاهدة (ومشاهدات أخرى سابقة، وعبر الوقت) هو أنّ الفيلم الفلسطيني التوثيقي الذي ينجزه الجيل الجديد من السينمائيين الفلسطينيين (في جميع أماكن تواجدهم)، ينقسم إلى قسمين بارزين مختلفين تمامًا: القسم الأول ما زال مقيدًا بقيود التفكير النمطي المتقوقع في عدم المجازفة والاستسلام لمِنواليّة (شبلونة) توثيقية، أعتقد، شخصيًا، أنّ الدهر تنكّر لها منذ زمن. في ضمن هذه المجموعة فيلما "المسعودين" و"البيت المفقود"؛ الأول يروي قصة عائلة عربية بدوية من النقب، قال مخرج الفيلم يوسف أبو مديغم عنها إنها عائلة ليست من العائلات المسحوقة في النقب لأنه لم يرغب برواية قصة تكون "بكائية" وتتمحور في "ضربوني وعذبوني" (ترجمتي الحرة عن العبرية). المشكلة ليست في خيار المخرج، فهذا حقه الفني والسياسي، بل المشكلة في الطريقة غير المثيرة (كأقل ما يُقال) التي اختار بها رواية القصة، وهي طريقة نمطية، سطحية، غير مثيرة فنيًا، وبالأساس، وأهم من كل هذا، تعتمد النَفَس السَّرديّ الجذاب الذي يميّز جميع أنواع الأفلام الجيدة، أوثائقية كانت أم روائية.
الفيلم الثاني الذي ينتمي إلى هذه المجموعة، "البيت المفقود" من إخراج وفاء جميل، يروي قصة المخرجة في محاولتها إيجاد البيت الذي هُجّرت منه عائلتها في عكا، والتي تسكن اليوم قطاع غزة. الفيلم مسكون ومُثقل (ومن دون حكمة تُذكر) بصوت المخرجة الراوية، التي تفسّر لنا أحساسيها وما جرى وما يجري، بلغة تفسيرية لا يمكن أن نفهمها إلا استخفافًا بذكاء المشاهدين، على نمط الأضحوكة حول البرامج الأردنية: "حجة شايفينك عم بتلقطي زتون، ممكن تخبري الأخوة المشاهدين شو عم بتسوي؟"؛ فكل ما كانت تقوله زائد وغير لازم، ويمكن أن نفهم الفيلم القصير كله (19 دقيقة) من دون أية كلمة سردية روائية من المخرجة. هذا خطأ جسيم يرتكبه كل فنان سرديّ، يفضل اللجوء إلى نص سرديّ (مكتوب بصياغة لواعجية نفسانية في هذه الحالة) يشرح ويدفع الحبكة، بدلا من أن تتولى هذه المهمة الصور والمشاهد والحوارات، وإذا اجتمع السرد الزائد مع صور سينمائية ضعيفة فإنّ النتيجة تكون كما في هذا الفيلم.
في المقابل، وبتفاوت حادّ وكبير، يبرز فيلما "بريد أند بريكفسات" و"أنا في القدس". هذان الفيلمان يشكلان في نظري السّرد السينمائي القوي والمتين: دع الصور تتحدث، دع الشخصيات التي توثقها تبني عالمها بنفسها، وما عليك –كمبدع- إلا أن تجلس مراقبا وتختار بحدسك السينمائي المتطور أفضل السبل لتوليف (مونتاج) المواد الخام التي صوّرتها، وهذا ما حدث في هذين الفيلمين. كي يحدث هذا، يجب أن يتوفر العنصر الأكثر قدمًا في أية دراما: القصة المثيرة والشخصيات الجذابة (سينمائيًا، وليس شكليًا).
فجونا سليمان (مخرجة "بد أند بركفست") خرجت لتوثيق حيوات بضعة أطفال وعائلات في حي السّوق القديم في الناصرة، وعادت باثنتين وخمسين دقيقة من السينما التوثيقية القوية والمؤثرة والمُبدعة. ما لفت في هذا الفيلم هو قرار سليمان الشجاع والفني من الدرجة الأولى، التنحي جانبًا كمبدعة وإبقاء الحلبة لشخصياتها وصورها المثيرة: فلا صوت سردي في الخلفية ولا أسئلة وأجوبة تحقيقية ولا ظهور أمام الكاميرا. وهنا المكان لذكر عدسة إيهاب عسل الثاقبة، الواثقة، ولكن الحسّاسة، التي استطاعت أن تتحول إلى جزءٍ من المشاهد والبيئة، وربما يعود هذا أيضًا إلى أنّ سليمان وعسل هما من الناصرة، وأهل الناصرة أدرى بشعابها.
فيلم آخر ينضوي في ضمن هذا التوجه التوثيقي القوي، هو فيلم "أنا في القدس" للمخرجة منى جريدي، التي رافقت طفلا فلسطينيا من غزة يأتي في زيارته الأولى إلى القدس، وهناك يتعرف على كل ما رآه على التلفاز، عن قرب. هذه الدهشة التي رافقته ترافق المشاهد منذ اللحظة الأولى؛ فجريدي تنجح (مع كاتب السيناريو جبر فؤاد) في تحويل رحلته الطفولية شبه الساذجة إلى رحلة قاسية وعنيفة للمشاهدين، الذين يكتشفون مع هذا الطفل الغزيّ قساوة القدس واحتلالها وتركيبة بيئتها وتعقيداتها، من جديد. ومع أنّ الفيلم لا يُجدّد من ناحية الصور التي يجلبها، فهو ليس فيلمًا تحقيقيًا، إلا أنّ الجديد في مشاهده وحيثياته هو النجاح الكبير في إعادة إحياء الصور التي نراها كل يوم، بأضواء جديدة، وعن طريق مقولات جديدة، وبواسطة تصوير وإخراج لافتين وذوي حضور بارز.
أحد السينمائيين قال مرةً إنّ وظيفة المبدع، هي أن يُمكّن شخصًا يسكن قرب البحر منذ سنين طويلة، من أن يسمع صوت البحر الذي نسيه، مرة ثانية. سليمان وجريدي تفعلان ذلك، وبثقة سينمائية عالية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق