“رزق الهبل عالمجانين”- أسمي هذه الظاهرة. فهناك من يشتري لك تذكرة سفر بالطائر الميمون، يدفع لقاء مبيتك في الفندق (غرفة “جنسية” موفقة هذه المرة) ويمنحونك مصروفًا يوميًا معقولا ويدفعون لك أجرَ حضوركِ، كي تجلس على المنصّة مع كاتب آخر أو اثنين وتقرأا عشر دقائق (كلّ واحد)، ثم تجيبان على بعض الأسئلة… وخلص.
أروج وأجيء إلى بريطانيا مثل البندول. ولولا تعلقي الشّره بالفطور الإنجليزي الشهير (يُنظر القصيدة في الأسفل) لما كنت متأكدًا من تلبية الدعوات للمشاركة في مؤتمرات أدبية، بعضها يكون جماهيريًا مثيرًا (”هاي فستيفال” قبل ثلاثة شهور) وبعضها يكون حميميًا حدّ الوحدة (مهرجان “ليفربول”، أمس الأحد (17 تشرين الأول 2010)). في اليوم التالي عرّجت على مانشستر للمشاركة في قراءة أدبية أخرى في مهرجان مانشستر الأدبي. وقياسًا بما حدث في مهرجان الثقافة العربية في ليفربول (تشبه صفد في حقارتها)، فقد كانت القراءة والنقاش في مانشستر أشبه بالاحتفاء بثلاثتنا بجائزة بوكر البريطانية مينيموم (ثلاثتنا: ياسين عدنان وعبد القادر بن علي وحضرتي)!
“رزق الهبل عالمجانين”- أسمي هذه الظاهرة. فهناك من يشتري لك تذكرة سفر بالطائر الميمون، يدفع لقاء مبيتك في الفندق (غرفة “جنسية” موفقة هذه المرة) ويمنحونك مصروفًا يوميًا معقولا ويدفعون لك أجرَ حضوركِ، كي تجلس على المنصّة مع كاتب آخر أو اثنين وتقرأا عشر دقائق (كلّ واحد)، ثم تجيبان على بعض الأسئلة… وخلص.
ولكنني اليوم فكّرت في الموضوع أكثر وأنا ألتهم تشيز بورغر بالـ “هام” والمُخلل و”باين” من الغينيس الإنجليزي الأسود، وتوصلتُ إلى نتيجة مفادها أنني أنا من يصنع لهم معروفًا وليسوا هم.
نعم، هكذا، بكلّ وقاحة. فيما يلي التسويغات:
أنا كفلسطيني ضحية الإمبريالية البريطانية. الآن وقت السّداد. الرجاء الدفع باليورو أو بالإسترليني؛
أنا وقح وأدحش كلمة “فاكِن” في حديثي أكثر من مرة، فيُحرَج البريطانيون المهذبون ويضحكون في الأمسية، فتنجح وتنفرج أسارير المنظمين فأنقذهم من ارتباك التهذيب المُملّ؛
نجيب محفوظ توفي وأدونيس اعتزل الشعر وسعدي يوسف لا يحبّ المهرجانات؛
مواصفاتي ومواهبي المتعدّدة: أنا عربي وهذه خانة؛ أنا فلسطيني وهذه خانة؛ أنا رجل ليبرالي منفتح وهذه خانة؛ أنا أنتي صهيوني وهذه خانة؛ أنا أكتب عن القضايا الاجتماعية ولا أكتفي بالسياسة كما هو متوقع من الفلسطينيين وهذه خانة؛ أنا متعاون وأحترم المواعيد وأردّ على الإيميلات بسرعة وهذه خانة؛ الكثير من قصصي مترجمة للإنجليزية مما يسهل عملية القراءة في المهرجانات وهذه خانة؛ أنا لا أتطلب كثيرًا ولا أتبرم كثيرًا وهذه خانة؛ أنا “الآخر” في أكثر من سياق وهذه خانتان على الأقل.
نـُط يا بط!
جلس عبد القادر بن علي (مغربي-هولندي) وياسين عدنان (مغربي) إلى يميني وجلس الجمهور قبالتنا وقرأنا، ثم سألونا فأجبنا، ثم صفقوا لنا فابتسمنا، فابتسموا، فوقـّعنا على الكتب فوقعنا في الفخ: هذه تحبّ الفلسطينيين، وذلك يريد أن يفهم أكثر وأولئك جميعًا ينتظرون أن يقولوا لك كم كان مثيرًا ومضيئًا لهم (illuminating). ثم انتقلنا إلى الأمور الهامة حقًا في كلّ مهرجان أدبيّ أو فنيّ: العشاء والقهوة والبيرة وجرد المشهد الثقافي-التقوّلاتي من المحيط الحاسر إلى الخليج الخاسر.
صرتُ أتعب وأملّ من السفر. تخبط رجلاك في أرصفة غريبة، وحيدًا بلا رفيق. تفكّر في دُشة الديناصورة الصغيرة وأمها، وتبحث عن أقرب دكان للملابس كي تمارس “شوبينغ” عنيفًا، فتشتري للدشة 74983279847 بلوزة و324093820948 كنزة للشتاء. تمارس شوقك بشراء الملابس لابنتك الخلابة. هل صرتُ إمبرياليًا إلى هذه الدرجة؟ أنفض عني غبار تأنيب الضمير لأنني لا أشتري لنفسي شيئًا في أية سفرة. أعتقد أنّ هذا يبعد عني شبهة التسوّق الرأسمالي الشّره.
أشتاق الآن، وأنا أجلس بالفانيله البيضاء على شاطئ الحرّ الخريفي الخرائي في عكا، أشتاق إلى برد مانشستر الذي تتساقط الخصيتان لشدّته. أنا رجل الشتاء، أين الشتاء؟ الحضارة في الشمال عند المطر، والجهل والتأخر في الجنوب عند الحرّ والشمس والصحراء. أنا أكره الصحراء وأكره شمس الوطن وأحبّ غيوم بريطانيا وفرنسا أكثر من أطلال الغابسية وسحماتا. هل يصحّ ذلك؟؟
إنها فرصة مثيرة أن يجد المرء نفسه بعيدًا لثلاثة أو أربعة أيام عن بؤرة الخمول التافهة التي نحيا فيها، وأن ينظر من بُعد آلاف الأميال إلى عكا أو حيفا ويشعر بسعادة غامرة لأنّ الطبق الصيني الذي طلبه للتوّ مليء بالبطّ. البط؛ هذا الاختراع الجميل.
البط، سيداتي آنساتي سادتي، البط هو ذروة كل مهرجان أدبيّ بلا منازع!
نعم، والفطور الإنجليزي…
فطور إنجليزي
في الثامنة صباحًا
أداعب النقانق المُحمرّة مثل خدّ امرأة خجلى.
تسبح قطع البيكون
في صفار البيض
ولا يحتمل البيض المقلي اغتراب الشوكة والسكين
في جسده الأبيض.
إنها ترنيمة للفطور الإمبريالي-
من قال إنّ الاستعمار يفسد للشهية قضية؟
ولا ننسى –فلتنسَني يميني!-
رقائق البطاطا والبصل المقلية
بزيت الخريف البارد.
مرحى للبودينغ الأسود المشبوه
مثل عميل مدسوس…
في الثامنة صباحًا
من كل صباح-
يقتلني الفطور الإنجليزي الدّسم
فأندَسمُ !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق