لا فارق بين إقالة علاء حليحل، من رئاسة تحرير أسبوعية "فصل المقال" وبين استقالته ما دامت ملابسات ذلك هو كما أُعلن، وفي محورها مقاله النقدي الحادّ لسلوك جماعي يرافق حلول شهر رمضان. فهذا الوجه الظاهر للموضوع والذي يحبّ الغاضبون على علاء أن يبرزوه. لكن هناك الوجه الآخر الكامن في مفهومنا لحرية الرأي والإبداع وهو ما يتواضعون في الحديث عنه ومناقشته، وليس صدفة طبعا. وتأخذنا موضوعة حرية التعبير إلى الوضع الحرج لمن اختاروا الكتابة حياة لهم وحقلا لوجودهم. فاستقالة علاء أو إقالته في نهاية الأمر إقالة أو استقالة لحرية التعبير.
كان مقال حليحل نقديا بامتياز لم ينحصر في نقد ما نُجمع على نقده بل انبرى بذاتية إلى تبيان ما يضايق الكاتب شخصيا من الصائمين. وكان الأمر كافيا لسيل من ضغوط على "التجمّع الوطني" الذي تصدر "فصل المقال" عن شراكة اقتصادية لأوساط فيه ومحسوبة عليه. وخيّل إليّ في لحظة ما أن مظاهرات ستخرج تنديدا بالكاتب وفتاوى ستصدر بإهدار دمه. وقد قرأنا في التعليقات الإنترنيتية في عديد من المواقع نزعة كهذه. لكننا قد لا نتوقع من الأصولية الدينية مهما تكن مسمياتها إلا أن تمارس "حقّها" في فرض تصورها أو إيمانها على غير المتدينين. لكننا نستهجن حديث المشاعر وضرورة احترامها وهو الادعاء الأساس في الانقضاض على حليحل. فتصوّروا أن حديث المشاعر هذا طغى وتجبّر، عندها لن تقوم لنا حرية أوسع من خرم إبرة ليس تجاه الدين فحسب بل تجاه التاريخ وتجاه طائفة وتجاه مجموعة وتجاه قرية وتجاه حزب! ولنفترض أن حليحل كان أحدّ مما ينبغي، فهل هذا سبب كاف مقنع لإقالته/استقالته؟ ألا يحقّ أن يكون له أسلوبه المميز الخاص في التعبير الذي قد لا يروق لي أو لك أو لها؟ أليس امتحان حرية التعبير هو بالذات عندما لا نتفق مع اتجاه ممارسة هذه الحرية؟ وهو بالذات عندما نسمع الرأي الآخر أو النقيض؟ ألا تتقاطع أو تتشاطب حجة المشاعر بضرورة التسامح مع المختلف؟ ام أن كل ثقافتنا السياسية ما هي إلا شعارات كبيرة فارغة لا رصيد لها عندما تقع الواقعة؟
وفي موضوعة حرية التعبير بعد آخر هنا وهو هل هي تشمل الحقّ في نقد "المقدّس"؟ ولا نقصد هنا المقدّس الديني فقط بل "المقدّس" المفترض، أو "الثوابت" في الخطاب الوطني. إلى أي حدّ يستطيع واحدنا أن يشكل قانون النفي لهذا المقدّس من موقع الجماعة ومن داخلها؟ أجدني شخصيا من المؤمنين بحرية الاجتهاد في نقد "المقدّس" مهما يكن مصدره وفي الاستئناف على مجرّد اعتباره كذلك. ولا أعتقد وجود ضرر من حرية الاجتهاد مقابل الأديان والمعتقدات وعلى خط المواجهة معها ومع الموروث المرتبط بها. وهي ليست حالة غريبة في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، وينبغي ألا تحجب مشاهد الأصولية والظلامية الراهنة، كما تجلّت في الانقضاض على حليحل ـ ومن قبل منع الفنانة أمل مرقس من إقامة عرضها الغنائي "نعنع يا نعنع" ـ حقيقة انفتاح الثقافة العربية في مراحل ممتدة منها على تيارات ومذاهب واجتهادات مدونة أثرت الثقافة العربية والعرب وارتقت بهما. ويكفي أن نشير إلى عصر التنوير العربي لندلّل على أن المشهد الأصولي الراهن ليس قدرا ولا هو في حكم "المقدّس" المطلق والنهائي! سيتبدّل المشهد مثلما تبدّل غيره وإن كان مُمضًا قاسيا على العقول بشكل خاص. لا نهوض بدون حريات ولا تنوير بغير حرية إبداع واستئناف واكتشاف وتقويض وتفكيك باعتبارها أفعال تجسّد القانون الثابت الوحيد وهو أن لا شيء ثابت.
والسؤال الأساس موجّه للقائمين على أسبوعية "فصل المقال" الذين لم يمنحوا كما يبدو الكاتب حليحل حيزا كافيا من حرية مأمولة من كل كاتب محترف خاصة إذا كان ساخرا أو قاطعا شوطا طويلا في هذا الباب. صحيح أن المُقدم على العمل في صحيفة حزبية يُُدرك أنه سيكون مقيّدا بحدود النظرية والعقيدة وتخوم التنظيم الحزبي ومصالحه. لكنه، يتوخى، أيضا، أن يُمنح متسعا ليعمل بحرية ما. موقع إشكالي ومُربك يقضي بتطوّر ورم كتابي خطير اسمه الرقابة الذاتية يصيب نفسية الكاتب. فيلجأ إلى الاختزال أو الإلغاء في تعامله مع نفسه المُبدعة. ويصبح "لا مبدع" في المحصّلة. وهنا، عندما قرر حليحل رفع الرقابة الذاتية عن ذاته أتته الرقابة الخارجية مدججة بكل الذرائع. ويبدو أن حظه سيء لأن مقاله أتي في وقت يغازل "التجمع" فيه الحركة الإسلامية حول صيغة قائمة تحالف عشية الانتخابات البرلمانية. فكيف يستوي الغزل مع الهجاء ـ إذا صحّ التعبير؟ أو كيف سنوفّق بين حرية التعبير وبين المصلحة الانتخابية في حال يبدو فيها "التجمّع" الأكثر تهافتا على التحالف؟ لا يُمكننا أن ننسب لأسبوعية "فصل المقال" التي لا نستطيع "اتهامها" ـ كأي صحيفة لحزب أو تيار أو حركة هنا ـ البلاء الحسن فيما يتعلّق بحماية حرية التعبير. لكننا نتوقّع بعد هذا العمر وهذه "النضالات" ضد القمع السلطوي وخنق الحريات ودوس الحقوق ومن أجل إعلاء شأن الذات العربية في هذه البلاد، أن تفتح أذرعها قليلا لتتسع لشطحات علاء حليحل أو غيره ولحرية التعبير حتى وإن طرفت العين أو لسعت القلب! والحقيقة أنها لم تشذّ في تعاملها مع مقال حليحل عن صحف أخرى ومنابر كثرت مثل الزبدة على العرب دون أن تُتيح تعددية حقيقية في الرأي وجريانا حرا للمعلومات حتى لكتابها أو العاملين فيها.
كنا جزمنا من قبل أن الأصولية ليست هناك خلف الحدود بل هنا، أيضا، تنمو وتمتدّ كأنها المقياس لكل شيء، محور العالم ونقطة البيكار فيه والحكم والحاكم. هذا فيما العقلاء منّا والمنفتحون والمتحررون من أنشوطة الذات والهوية و"المقدّس" يتذرعون بانشغالهم بمواجهة اضطهاد الآخر وظلامية سياساته متوهمون أننا لا بدّ سنكسب الرهان. بينما الحقيقة أن كل تنازل للأصولية اليوم وكل رضوخ لمقدّسها وكل مسايرة غرضية، وكل تجاهل لحقيقة الاستبداد إنما يقرأ الفاتحة على روح حرية التعبير وقيم الحياة الأخرى وفي أساسها كرامة الإنسان وحقّه في أن يكون كما يحلو له. وعليه، وجب أن نقف مع حليحل وإن اختلفنا معه ومع حرية التعبير وإن كانت تبدو، في بعض الأحيان، في اتجاه معاكس. حرية التعبير ليست مسألة مختلف عليها بيننا وبين السلطة الإسرائيلية فحسب، بل هي موضع خلاق بيننا وبين السلطة الدينية أو الحزبية أو الذكورية داخل مجتمعنا. وحريّ بالذي يدّعي أن يواجهها على صعيد العلاقة مع الآخر أن يُقنعنا أنه يواجهها في مستوى العلاقة مع الذات وإلا فليكفّ عن الكلام!
كان مقال حليحل نقديا بامتياز لم ينحصر في نقد ما نُجمع على نقده بل انبرى بذاتية إلى تبيان ما يضايق الكاتب شخصيا من الصائمين. وكان الأمر كافيا لسيل من ضغوط على "التجمّع الوطني" الذي تصدر "فصل المقال" عن شراكة اقتصادية لأوساط فيه ومحسوبة عليه. وخيّل إليّ في لحظة ما أن مظاهرات ستخرج تنديدا بالكاتب وفتاوى ستصدر بإهدار دمه. وقد قرأنا في التعليقات الإنترنيتية في عديد من المواقع نزعة كهذه. لكننا قد لا نتوقع من الأصولية الدينية مهما تكن مسمياتها إلا أن تمارس "حقّها" في فرض تصورها أو إيمانها على غير المتدينين. لكننا نستهجن حديث المشاعر وضرورة احترامها وهو الادعاء الأساس في الانقضاض على حليحل. فتصوّروا أن حديث المشاعر هذا طغى وتجبّر، عندها لن تقوم لنا حرية أوسع من خرم إبرة ليس تجاه الدين فحسب بل تجاه التاريخ وتجاه طائفة وتجاه مجموعة وتجاه قرية وتجاه حزب! ولنفترض أن حليحل كان أحدّ مما ينبغي، فهل هذا سبب كاف مقنع لإقالته/استقالته؟ ألا يحقّ أن يكون له أسلوبه المميز الخاص في التعبير الذي قد لا يروق لي أو لك أو لها؟ أليس امتحان حرية التعبير هو بالذات عندما لا نتفق مع اتجاه ممارسة هذه الحرية؟ وهو بالذات عندما نسمع الرأي الآخر أو النقيض؟ ألا تتقاطع أو تتشاطب حجة المشاعر بضرورة التسامح مع المختلف؟ ام أن كل ثقافتنا السياسية ما هي إلا شعارات كبيرة فارغة لا رصيد لها عندما تقع الواقعة؟
وفي موضوعة حرية التعبير بعد آخر هنا وهو هل هي تشمل الحقّ في نقد "المقدّس"؟ ولا نقصد هنا المقدّس الديني فقط بل "المقدّس" المفترض، أو "الثوابت" في الخطاب الوطني. إلى أي حدّ يستطيع واحدنا أن يشكل قانون النفي لهذا المقدّس من موقع الجماعة ومن داخلها؟ أجدني شخصيا من المؤمنين بحرية الاجتهاد في نقد "المقدّس" مهما يكن مصدره وفي الاستئناف على مجرّد اعتباره كذلك. ولا أعتقد وجود ضرر من حرية الاجتهاد مقابل الأديان والمعتقدات وعلى خط المواجهة معها ومع الموروث المرتبط بها. وهي ليست حالة غريبة في تاريخ الثقافة العربية الإسلامية، وينبغي ألا تحجب مشاهد الأصولية والظلامية الراهنة، كما تجلّت في الانقضاض على حليحل ـ ومن قبل منع الفنانة أمل مرقس من إقامة عرضها الغنائي "نعنع يا نعنع" ـ حقيقة انفتاح الثقافة العربية في مراحل ممتدة منها على تيارات ومذاهب واجتهادات مدونة أثرت الثقافة العربية والعرب وارتقت بهما. ويكفي أن نشير إلى عصر التنوير العربي لندلّل على أن المشهد الأصولي الراهن ليس قدرا ولا هو في حكم "المقدّس" المطلق والنهائي! سيتبدّل المشهد مثلما تبدّل غيره وإن كان مُمضًا قاسيا على العقول بشكل خاص. لا نهوض بدون حريات ولا تنوير بغير حرية إبداع واستئناف واكتشاف وتقويض وتفكيك باعتبارها أفعال تجسّد القانون الثابت الوحيد وهو أن لا شيء ثابت.
والسؤال الأساس موجّه للقائمين على أسبوعية "فصل المقال" الذين لم يمنحوا كما يبدو الكاتب حليحل حيزا كافيا من حرية مأمولة من كل كاتب محترف خاصة إذا كان ساخرا أو قاطعا شوطا طويلا في هذا الباب. صحيح أن المُقدم على العمل في صحيفة حزبية يُُدرك أنه سيكون مقيّدا بحدود النظرية والعقيدة وتخوم التنظيم الحزبي ومصالحه. لكنه، يتوخى، أيضا، أن يُمنح متسعا ليعمل بحرية ما. موقع إشكالي ومُربك يقضي بتطوّر ورم كتابي خطير اسمه الرقابة الذاتية يصيب نفسية الكاتب. فيلجأ إلى الاختزال أو الإلغاء في تعامله مع نفسه المُبدعة. ويصبح "لا مبدع" في المحصّلة. وهنا، عندما قرر حليحل رفع الرقابة الذاتية عن ذاته أتته الرقابة الخارجية مدججة بكل الذرائع. ويبدو أن حظه سيء لأن مقاله أتي في وقت يغازل "التجمع" فيه الحركة الإسلامية حول صيغة قائمة تحالف عشية الانتخابات البرلمانية. فكيف يستوي الغزل مع الهجاء ـ إذا صحّ التعبير؟ أو كيف سنوفّق بين حرية التعبير وبين المصلحة الانتخابية في حال يبدو فيها "التجمّع" الأكثر تهافتا على التحالف؟ لا يُمكننا أن ننسب لأسبوعية "فصل المقال" التي لا نستطيع "اتهامها" ـ كأي صحيفة لحزب أو تيار أو حركة هنا ـ البلاء الحسن فيما يتعلّق بحماية حرية التعبير. لكننا نتوقّع بعد هذا العمر وهذه "النضالات" ضد القمع السلطوي وخنق الحريات ودوس الحقوق ومن أجل إعلاء شأن الذات العربية في هذه البلاد، أن تفتح أذرعها قليلا لتتسع لشطحات علاء حليحل أو غيره ولحرية التعبير حتى وإن طرفت العين أو لسعت القلب! والحقيقة أنها لم تشذّ في تعاملها مع مقال حليحل عن صحف أخرى ومنابر كثرت مثل الزبدة على العرب دون أن تُتيح تعددية حقيقية في الرأي وجريانا حرا للمعلومات حتى لكتابها أو العاملين فيها.
كنا جزمنا من قبل أن الأصولية ليست هناك خلف الحدود بل هنا، أيضا، تنمو وتمتدّ كأنها المقياس لكل شيء، محور العالم ونقطة البيكار فيه والحكم والحاكم. هذا فيما العقلاء منّا والمنفتحون والمتحررون من أنشوطة الذات والهوية و"المقدّس" يتذرعون بانشغالهم بمواجهة اضطهاد الآخر وظلامية سياساته متوهمون أننا لا بدّ سنكسب الرهان. بينما الحقيقة أن كل تنازل للأصولية اليوم وكل رضوخ لمقدّسها وكل مسايرة غرضية، وكل تجاهل لحقيقة الاستبداد إنما يقرأ الفاتحة على روح حرية التعبير وقيم الحياة الأخرى وفي أساسها كرامة الإنسان وحقّه في أن يكون كما يحلو له. وعليه، وجب أن نقف مع حليحل وإن اختلفنا معه ومع حرية التعبير وإن كانت تبدو، في بعض الأحيان، في اتجاه معاكس. حرية التعبير ليست مسألة مختلف عليها بيننا وبين السلطة الإسرائيلية فحسب، بل هي موضع خلاق بيننا وبين السلطة الدينية أو الحزبية أو الذكورية داخل مجتمعنا. وحريّ بالذي يدّعي أن يواجهها على صعيد العلاقة مع الآخر أن يُقنعنا أنه يواجهها في مستوى العلاقة مع الذات وإلا فليكفّ عن الكلام!
(دالية الكرمل marzuqh@gmail.com)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق