مات فؤاد.
اختار جسده أن يرتاح من العلاج المنهك المتواصل، ولكنني أخاله أراد الارتياح من الأمل الزائد، من الأمل اليائس.
خمسة وثلاثون عامًا مرّت ضاحكة، على وجه فؤاد. كان يتصل من مرة إلى أخرى، أو يبعث إيميل: سمعت آخر نكتة؟ وكنا نضحك ونتواعد على نكتة جديدة، من دون ميعاد. كان يغيب أحيانًا سنة وأكثر، وكنتُ أغيب سنة وأكثر، ولكن اللقاء كان دائمًا استمرارًا مباشرًا، من دون تكلف، للقاء السابق: "كيفك يا رفيق؟.. صرت أنصح مني.."
كان فؤاد مُعدِيًا بمرحه، وأحيانًا مُثيرًا للغيظ: كيف يمكنك أن تكون ضاحكًا هكذا، باسمًا، مُحبًّا ومحبوبًا، دائمًا وبلا توقف؟ لماذا نحن لسنا مثلك؟ هل لأنّ أجسادنا معافاة (نسبيًا) فلا وقت لشكر الآلهة على كلّ يوم جديد من دون ألم، من دون يأس؟
المئات من الوجوه في جنازتك أعرفها، بعضها ظلّ معي وظللتُ معها، والكثيرون تفرّقوا أيدي فلسطين، فلا أذكر إلا وجوهًا سهرنا معها ليلة، أو تلك التي عرّفتني عليها في لقاء شارعيّ عابر (ضاحكٍ طبعًا). جاءوا كي يقفوا جميعهم أمام كنيسة الأرثوذكس في الرملة ينتظرون الموكب (كعادة "الغُربيّة") وأعتقد أنّ جميعهم كانوا يتساءلون، بطريقة ما، حول قدرة فؤاد على جمع هذا الخليط الغريب العجيب، الكبير الغنيّ، من حوله، من دون أن يخدش للحظة هرمونيا الحياة من حوله.
أذكر منك الآن صورة واحدة تلحّ عليّ: كنا خمسة أو ستة، شبانًا وصبايا، قبل أكثر من عشر سنوات، حملنا أمتعتنا ويمّمنا شطر إقرث ذات ليلة صيفية (بطلب من صبية إقرثية في المجموعة كبس عليها الحنين، هل تذكرها؟ ماذا جرى لها؟ هل أنصفتها الدنيا كما ظلمتك؟). أشعلنا موقدًا أمام الكنيسة العتيقة وشوينا اللحم وشربنا ما تيسّر من عرق رام الله الشهيّ المُبارك، وكنتَ تمسكُ بالعود الذي أحببتَه وتُصرُّ على أن تغنّي للشيخ إمام، بينما كنا نحن (سكارى، عرابيدَ) نطلبُ منكَ أن تغني "سيرة الحبّ" (ما أتفهنا!). كم كنا سخفاء ونحن نقمع عودَكَ، وكم كنتَ عبقريًا حين أجبتَ قبل أن تبدأ بعزف "سيرة الحب"، راضخًا: "بس تصحوا رح تترجّوني أعزف الشيخ إمام".
في فجر ذاك اليوم الإقرثي عزفتَ لنا "واه يا عبد الودود" وكنتُ أنا أغلي القهوة الصباحية الحلوة وأتأمّل الجليل البرتقاليّ المصبوغ بحياء الشمس. في تلك اللحظة أتذكّركَ، تغني لعبد الودود، والجميع نيام من حولنا، ولم أكن (لغبائي) أعرف بتعقيدات جسدك المزمنة، بتفاصيل الكبد والكليتيْن، ببدء العدّ التنازليّ. هل لو عرفتُ وقتها كنتُ سأقول لك جملة تودّ أن تكون حكيمة في ذلك الفجر الجميل؟ لا أعرف، ولكنني أشكر حنين رفيقتنا إلى قرية جدّها وجدّتها الذي منحني هذه اللحظة الناصعة كي أتذكرك فيها دائمًا.
الآلاف مشت وراء فؤاد في أزقة الرملة وفي شارعها الرئيسيّ. للحظة تخالُ نفسك في مظاهرة: الشرطة تنظم السير وألفان أو أكثر من العرب يمشون في الشارع "اليهوديّ" الرئيسي في مدينة تريد طمس أهلها العرب الأصليين. هذه مظاهرة فؤاد، جمع الآلاف كي يغلقوا الشارع في مدينته ريثما ينام نومته الأخيرة في المقبرة، المُطلة على الشارع الرئيسي.
فؤاد سيحرس الشارع الرئيسي في الرملة من الضياع، ونحن سنحرس ما تبقى من طاقة كي نعود إلى مشاغلنا وننتظر بقلق موت صديق آخر، خانه جسدُه أو خانَ جسدَه.
مات فؤاد، عاش فؤاد!
اختار جسده أن يرتاح من العلاج المنهك المتواصل، ولكنني أخاله أراد الارتياح من الأمل الزائد، من الأمل اليائس.
خمسة وثلاثون عامًا مرّت ضاحكة، على وجه فؤاد. كان يتصل من مرة إلى أخرى، أو يبعث إيميل: سمعت آخر نكتة؟ وكنا نضحك ونتواعد على نكتة جديدة، من دون ميعاد. كان يغيب أحيانًا سنة وأكثر، وكنتُ أغيب سنة وأكثر، ولكن اللقاء كان دائمًا استمرارًا مباشرًا، من دون تكلف، للقاء السابق: "كيفك يا رفيق؟.. صرت أنصح مني.."
كان فؤاد مُعدِيًا بمرحه، وأحيانًا مُثيرًا للغيظ: كيف يمكنك أن تكون ضاحكًا هكذا، باسمًا، مُحبًّا ومحبوبًا، دائمًا وبلا توقف؟ لماذا نحن لسنا مثلك؟ هل لأنّ أجسادنا معافاة (نسبيًا) فلا وقت لشكر الآلهة على كلّ يوم جديد من دون ألم، من دون يأس؟
المئات من الوجوه في جنازتك أعرفها، بعضها ظلّ معي وظللتُ معها، والكثيرون تفرّقوا أيدي فلسطين، فلا أذكر إلا وجوهًا سهرنا معها ليلة، أو تلك التي عرّفتني عليها في لقاء شارعيّ عابر (ضاحكٍ طبعًا). جاءوا كي يقفوا جميعهم أمام كنيسة الأرثوذكس في الرملة ينتظرون الموكب (كعادة "الغُربيّة") وأعتقد أنّ جميعهم كانوا يتساءلون، بطريقة ما، حول قدرة فؤاد على جمع هذا الخليط الغريب العجيب، الكبير الغنيّ، من حوله، من دون أن يخدش للحظة هرمونيا الحياة من حوله.
أذكر منك الآن صورة واحدة تلحّ عليّ: كنا خمسة أو ستة، شبانًا وصبايا، قبل أكثر من عشر سنوات، حملنا أمتعتنا ويمّمنا شطر إقرث ذات ليلة صيفية (بطلب من صبية إقرثية في المجموعة كبس عليها الحنين، هل تذكرها؟ ماذا جرى لها؟ هل أنصفتها الدنيا كما ظلمتك؟). أشعلنا موقدًا أمام الكنيسة العتيقة وشوينا اللحم وشربنا ما تيسّر من عرق رام الله الشهيّ المُبارك، وكنتَ تمسكُ بالعود الذي أحببتَه وتُصرُّ على أن تغنّي للشيخ إمام، بينما كنا نحن (سكارى، عرابيدَ) نطلبُ منكَ أن تغني "سيرة الحبّ" (ما أتفهنا!). كم كنا سخفاء ونحن نقمع عودَكَ، وكم كنتَ عبقريًا حين أجبتَ قبل أن تبدأ بعزف "سيرة الحب"، راضخًا: "بس تصحوا رح تترجّوني أعزف الشيخ إمام".
في فجر ذاك اليوم الإقرثي عزفتَ لنا "واه يا عبد الودود" وكنتُ أنا أغلي القهوة الصباحية الحلوة وأتأمّل الجليل البرتقاليّ المصبوغ بحياء الشمس. في تلك اللحظة أتذكّركَ، تغني لعبد الودود، والجميع نيام من حولنا، ولم أكن (لغبائي) أعرف بتعقيدات جسدك المزمنة، بتفاصيل الكبد والكليتيْن، ببدء العدّ التنازليّ. هل لو عرفتُ وقتها كنتُ سأقول لك جملة تودّ أن تكون حكيمة في ذلك الفجر الجميل؟ لا أعرف، ولكنني أشكر حنين رفيقتنا إلى قرية جدّها وجدّتها الذي منحني هذه اللحظة الناصعة كي أتذكرك فيها دائمًا.
الآلاف مشت وراء فؤاد في أزقة الرملة وفي شارعها الرئيسيّ. للحظة تخالُ نفسك في مظاهرة: الشرطة تنظم السير وألفان أو أكثر من العرب يمشون في الشارع "اليهوديّ" الرئيسي في مدينة تريد طمس أهلها العرب الأصليين. هذه مظاهرة فؤاد، جمع الآلاف كي يغلقوا الشارع في مدينته ريثما ينام نومته الأخيرة في المقبرة، المُطلة على الشارع الرئيسي.
فؤاد سيحرس الشارع الرئيسي في الرملة من الضياع، ونحن سنحرس ما تبقى من طاقة كي نعود إلى مشاغلنا وننتظر بقلق موت صديق آخر، خانه جسدُه أو خانَ جسدَه.
مات فؤاد، عاش فؤاد!
هناك تعليق واحد:
فؤاد رحلت عناوتركتنا"احياء" اموات بعدك .... فؤاد نعدك باننا سنواصل طريقك سنملأ الدنيا باحساس فكر وصدق فؤاد عازر
سناء
إرسال تعليق