الخميس، 24 يونيو 2010

شماس – شماس: "بْعرض إمي" إشي فلـِع!


من الصعب تسمية العرض الذي يقدّمه الفنان حنا شماس في الأيام الأخيرة "ستاند أب" بالمعنى الكامل والمتداول للكلمة- ولكنه عرض "جامد"، إذا سمح لي شماس بتبني توجّهه الخطابيّ في العرض. فشماس لا يقلد إيدي ميرفي (مثلا) في عروضه الستاند أبية، من ناحية اللجوء إلى "سليبستيك" كـ "مُكبّر صوت وحركة" للمضامين التي يسردها، بل تراه في معظم العرض يلجأ إلى حميمية ما مع جسده، مع صوته، مع وقفته على المسرح، على عكس المتوقع من ممثل يقف على الخشبة وحده أمام قرابة 350 شخصًا وعليه أن "يعمل دبّ وسعدان" كي لا يملّ الجمهور الآتي للضحك بالأساس.

كان أطزج عرض لـ "بْعرض إمي" الذي يقدّمه شماس كعرض وحيد (one man show) أمس الأربعاء، 23 حزيران، في القاعة الكبرى في مسرح "الميدان" في حيفا، وكانت القاعة ممتلئة- إذا كان هذا المقياس يهمّ هواة العدّ. إنه العرض الثالث في سلسلة العروض وهو الأول الذي أشاهده، وبشهادة من رأى العرضيْن السابقيْن (أو أحدهما) فإنّ العرض الأخير كان قفزة واضحة، على عكس البدايات. وبالفعل: حنا شماس رائع!

عندما يدخل شماس إلى المنصة على خلفية شانسون فرنسي تتبادر إلى ذهنك فورًا شخصية "مستر بين" التي تشبه شماس شكلا ومَسلكيًا. عندها توجّستُ. فشماس الذي بدأ الرقص على ألحان هذه الأغنية بدا أنه سيرتكن إلى السّهولة الفورية الكامنة في شخصيته الكوميدية وسيتأتئ وينسى النصّ وسيستنفد ويستنزف جميع الوقفات والصّفنات والحديث عن اللخات، وهي أمور قدّمها شماس في مسيرته الفنية حتى هذا العرض. لكنّ شماس يُدهشك في المشوار الذي قطعه من وقت "شماس-نحاس" (اللذيْن أحببناهما- في البدايات بالأساس) وحتى هذا العرض المتفرّد، حتى تخاله اختمر طوال سنواته الأربعين (تقريبًا) كي يقف ويحكي القصّة من أولها: من آدم وحواء وحتى إعلانه البطولي الفتاك: "أنا مش زلمه"!

أنت ترى حنا شماس جديدًا، ساطعًا، لا يخجل من تعثره اللفظي أحيانًا أو عفويته الجسدية في وقفته على المسرح؛ يتحدّث بصدق كبير، بتفاصيل مُخجلة أحيانًا عنه، بغضّ النظر عمّا إذا كانت أوتوبيوغرافية حقًا أو لا- ما يهمّ أنها تُروى أمام جمهور النساء والرجال على أنها حياته الشخصية. إنه انتحاريّ فدائيّ لا تدري كيف خرج من مسيرة شماس التي تعثرت بعض الشيء مؤخرًا، وربما لهذا السبب وضع شماس بيضاته (بجميع ما تحمله الكلمة من معانٍ) في سلة هذا العرض- وعليه وعلى أعدائه.

منذ زمان لم أرَ أو أقرأ أو أسمع مثل المونولوج الطويل الذي يتلوه شماس على المنصّة، ذابحًا فيه كلّ التابوهات والبقرات الاجتماعية: العادة السرية (عند الشباب والصبايا على حدّ سواء!)، السكس، النفاق، التلون، العادة الشهرية، مجلات السكس، مواقع الانترنت، الدقائق الأربع التي تستغرقه كي "يُبعبع". حتى في قاموس المصطلحات والكلمات ذبح بقرة أو اثنتين، مثل "على زبي"، "أخو منيوكة"، "تعريصة"، "كس أخت"، الخ من درر اللغة العربية الجميلة التي علمونا أنها "قذرة" و"مهينة" و"عيب"، مع أنها من الركائز الأساسية في تطوير شخصية كلّ عربي فخور. ولا ينسى شماس النفاق السياسيّ والنكبة (ما قبلها وما بعدها) والحالة السوريالية التي يحياها العربي في ديارنا.

يقف شماس أمام جمهوره ويقدم "ستاند أب وجودي" إذا أردتم؛ ستاند أب لا يخجل بالتراجيديا التي يتحدث عنها ولا يتوانى عن عيش لحظات صدق محزنة ودرامية في منتصف الضّحك (طالت أكثر من اللازم في موقع أو اثنين). إنها الكوميديا العنيفة، مسرح القسوة، الفن الملتزم في تجليه، رغم سخرية شماس نفسه من الفن الملتزم في العرض نفسه. شماس ملتزم بهمومه، بهواجسه، بشخصه، بعائلته، ببلده؛ هل هناك ما يمكن الإلتزام به أكثر من هذا؟ وإذا كان الشاعر الأمريكي المخضرم تشارلز بوكوفسكي قال "الكتابة الحذرة هي كتابة ميتة"، فإنّ شماس حيٌ، ممتلئ حياةً.

كما أنّ الجمهور أبدى نضجًا في التفاعل مع "بذاءات" و"سفالات" حنا، ولم ينسَ أن يصغي بتمعّن أيضًا وهو يضحك، فكان التصفيق يتلو نقدًا جارحًا يقوله شماس- وهذه شهادة تُذكر، رغم التساؤل الذي تساءلناه أنا وصديق في نهاية العرض: هل يمكن عرض هذا الستاند أب في مجد الكروم أو الناصرة أو إم الفحم، أم أنه سيُستساغ فقط لدى جمهور حيفا؟

حنا شماس منعش، موجع، مضحك، مثير للتفكير. من يبحث عن إضحاك سهل، سطحي، تنكيتي، عليه البحث عن عرض آخر. أنا سأضحك وسأُصْدَم ثانية مع شماس، أنّى سنحت لي الفرصة.


(نُشرت المقالة يوم الجمعة، 25 حزيران، في جريدة "أخبار المدينة")

الاثنين، 21 يونيو 2010

هلوسات "غوغلية": طفل ومعاش وكندا


لم أعرف كيف أهضم ما فعله بريد "جيميل" معي قبل عدة أيام؛ فهم يَدرجون منذ فترة طويلة على وضع إعلانات تجارية في أعلى صفحتك في الأيميل، على شكل عنوان لموقع ما، يُبشر عادة بالدين أو بمكنسة كهربائية جديدة أو بصفقة فياغرا سترفع رأسك عاليًا.

ومن خلال اطلاعاتي الما-ورائية في عالم الإنترنت قرأتُ فيما يقرأ الخائف من المخابرات والملاحقات أنّ شركة "غوغل" تلائم الإعلانات التي تظهر في أعلى صفحتك البريدية لتنقلاتك وتحرّكاتك في الإنترنت، من خلال مراقبة وتتبع الصفحات التي تزورها والكلمات التي تبحث عنها في محرك "غوغل" (إليكم نصيحة مجانية تعلمتها من مُهَلوس آخر مثلي أقدّمها مجانًا من أجل قراء مدوّنتي الوقورة: إذا أردتم الإبحار في مواقع حسّاسة (سكس، أمن، سكس، أمن) أو البحث عن كلمات أكثر حساسية في محرك "غوغل"، ولم ترغبوا في أن تتعقب ماما "غوغل" تحرّكاتكم وتدرسها وتحفظها، عليكم أن تخرجوا من الجيميل (سايْن آوْت) قبل هذه الأفعال المشينة وهكذا تفقد "غوغل" القدرة على توثيق تحرّكاتكم. ولا تنسوْا: مدونة علاء حليحل تكفيكم وتغنيكم!).

فإذا نشطتَ هذا الأسبوع، مثلا، في نكش المواقع الإباحية ستظهر إعلانات في أعلى صفحة بريدك تبشّرك بدواء سحريّ يُطيل عضوك بإنشات كثيرة، قد تدبّ الخلاف بين المفاوض الإسرائيلي والمفاوض الفلسطيني حول من سيحصل على أكبر عدد من هذه الإنشات الفيّاضة كونك عربيًا-فلسطينيًا-مواطنًا-إسرائيليًا (إنتهبوا إلى اللعب بالكلمات في كلمة "فيّاضة"- للتنويه فقط).

وهكذا، وبلا "طول" سيرة، وجدتُ اليوم إعلانًا قصيرًا بسيطًا في أعلى الإيميل: "هل ترغب في العمل والهجره إلى كندا؟" الجواب طبعًا في موقع إنترنت لن أورد عنوانه خشية أن أُتّهم بتشجيع الهجرة من الأراضي المقدسة (أكبر مزبلة في التاريخ المعاصر)، مع أنني شخصيًا أرغب بذلك بحرقة كبيرة. ولكنني تساءلتُ فورًا: هل هذه صدفة محضة أم أنّ "غوغل" يساعد أفيغدور ليبرمان على تطفيشنا من هنا؟ هل وردت هذه الدعاية في صفحات غوغلية أخرى في العالم، أم أنها حصرية لعرب الداخل؟

من الصّعب طبعًا أن أجيب عن هذه التساؤلات، لكنني تأبطتُ شرًا وأرسلتُ رسالة تساؤلية-اتهامية-مُزاودية كما نتقن نحن الفلسطينيين أن نفعل، إلى فرع المساعدة في شركة "غوغل"، مفادها: بعرض إمكو، مقصودة والا لأ؟؟ وقد انتبهتُ لاحقًا إلى أنّ قسم الإعلانات في قارة "غوغل" يعد بأن ينظر في جميع التوجّهات التي تصله بخصوص الإعلانات المنشورة، إلا أنه لا يردّ ردودًا مباشرة للمتوجّهين والمواضيع التي يطرحونها. يعني راح الآيتم.

ولكن قبل نعي الآيتم: لا بدّ أنّ عددًا من المسؤولين في "غوغل" يجلسون الآن في اجتماع طارئ، ينحنون على الطاولة المدوَّرة المصنوعة من المَرمَلادا (هل رأيتم صور مكاتب هذه الشركة؟ إشي ببعص!)، يتحلقون حول الهاتف المصنوع من الشوكولاتة البيضاء وأحدهم يتحدّث إلى سيرغي (المدير الكبير) عبر السّماعة:

"وصلتنا رسالة من عربي يقول إنه فلسطيني من إسرائيل، هل هذا معقول؟..."

لا بدّ أن سيرغي قد غَوْغَلَ هذه الكلمات في محرّكه الشخصيّ تبع أبوه ولا شكّ أنه يحاول الآن قراءة جميع التقارير التي أصدرها "عدالة" ومركز "الجليل" و"مساواة" ومركز "حماية العرب من الغرق في الشطآن"، ويحاول أن يفكّ المعضلة.

"المهم، ما المهم؟؟" سيسأل سيرغي بسرعة بعد أن يغرق في التفاصيل، وسيجيب أحد المرؤوسين الذي يقف حول الطاولة ومن ورائه كرسيه الوثير المصنوع من ريش عصافير الجنة:

"إنه يشتكي من أننا وضعنا له في صفحة بريده إعلانا يشجّع على الهجرة إلى كندا وأننا نتعاون مع أفيغدور ليبرمان على طرد العرب من إسرائيل. ماذا سنفعل؟ نحن نخشى أن تصبح هذه قضية أكبر من قضية أسطول غزة، ويصبح هذا المِلحاح معروفًا أكثر من هانين زوآابي..."

ولا شكّ في أنّ سيرغي سيبحث عندها عن اسم ليبرمان في محرّك أبيه وأمه، وما أن يرى صورة أفيغدور المرعبة حتى ينظـُز إلى الوراء ويصرخ:

"ما الذي فعلتموه؟؟! هل سنعلق مع مجانين الشرق الأوسط؟!"

ستحصل بالتأكيد حالة ارتباك، وسيأمر مدير القسم سائر الموجودين في الغرفة بمغادرتها، وسينحني فوق الهاتف ويهمس لسيرغي:

"يمكننا أن نتجاهل الرسالة."

"ولكن لماذا ننشر أصلاً إعلانات تشجّع على الهجرة إلى كندا؟ ماذا يوجد في كندا أصلاً؟"

"هذا بالضبط ما جعلهم ينشرون الإعلان. لا أحد يريد الذهاب إلى هناك."

"والعمل؟"

تفكّر مدير قسم الإعلانات في "غوغل" قليلا، ثم قال بهدوء:

"ربما وجّهنا نسخة عبرية من هذا الإعلان إلى اليهود في إسرائيل. عندها سينشأ توازن بين العرب واليهود ولن يجرؤ أيّ طرف على التبرّم من هذا الإعلان."

"هل تريد نشر إعلان يدعو اليهود للهجرة من إسرائيل؟ هل تريد أن نعلق بقصص الهولوكوست وعذابات الشعب اليهودي منذ أن اضطروا لاحتمال تأتآت موسى غير المفهومة؟"

لحظة صمت.

"ماذا قلت؟" سأل سيرغي مدير الإعلانات بفارغ صبر.

"سنتجاهله. ماذا يمكن أن يفعل؟"

"سيخرج بحملة إيميلات ضدنا، ثم في الفيسبوك... ألا تذكر كم إيميل يرسل الفلسطينيون في اليوم؟"

"نعم، نعم..."

"فلنقترح عليه وظيفة."

صفن مدير قسم الإعلانات إثر سماعه لاقتراح سيرغي صاحب محرّك "غوغل".

"وظيفة؟"

"نعم، وظيفة، بضعة آلاف من الدولارات شهريًا لسنة مكسيموم. هل سيرفض مثل هذا العرض؟"

"وأية وظيفة سنقترح عليه؟"

"مراقب للإعلانات بالعربية في بريد "جيميل"."

"هذه فكرة عبقرية!"

إبتسم سيرغي لهذه التلحيسة المداهمة من مرؤوسه. فهو لم ينجح يومًا في مقاومة تأثير هذه التلحيسات والمداهنات عليه، رغم أنه يعرف أنها مزيفة. لكنه كان يحبّ وقعها، الأثر الذي تتركه في نفسه، شعوره بالتميّز، بالتفرّد، بقدرته على إخضاع الناس لأهوائه، بحبّه لنفسه وحبّه لممارسة هذا الحبّ (معذرة، لم أقصد أن أكون عميقًا لهذه الدرجة...).

"ولا تنسَ التحدث إلى ليبرمان هذا..."

"ليبرمان؟"

"نعم. قل له إننا بحاجة إلى مراقب إعلانات في "غوغل" بالعبرية."

"...."

"أم تفهم؟ من أجل التوازن! هل تعرف ما سيفعله بي اللوبي الصهيوني في الولايات المتحدة الأمريكية إذا عينتُ فلسطينيًا فقط لمراقبة الإعلان؟... ألا تذكر كم إيميلاً يرسل هؤلاء في اليوم؟"

تنهّد مدير قسم الإعلانات ثم انتهت المحادثة. رفع السّماعة وطلب رقمًا داخليًا:

"إسمع، إبعثوا رسالة إلى هذا الفلسطيني وقولوا له إننا نظرنا في رسالته ونعتبرها خطأً ونحن نسعى لتفاديه مستقبلاً، ولذلك نطلب منه أن يعمل معنا مراقبًا للإعلانات باللغة العربية بمرتب 4000 دولار شهريًا... نعم، نعم، لا تجادل... واسمع، اتصل بمكتبنا في إسرائيل. لتيحدثوا إلى مكتب أفيغدور ليبرمان (شهقة عبر سماعة الهاتف من الطرف الآخر)... نريد مراقب إعلانات باللغة العبرية أيضًا... نعم، نعم، لا تجادل هذه أوامر سيرغي."

منذ أيام وأنا أنتظر إيميل التعيين ولكنه لم يأتِ، حتى إنني اتصلت اليوم صباحًا إلى وزارة الخارجية الإسرائيلية لأتحدث إلى ليبرمان وأسأله عن اتصال "غوغل" به ولكنهم أغلقوا الخط في وجهي.

مع ذلك، أعيش منذ أيام حالة من الانتشاء الغامر، حيث أنتظر طيلة اليوم إيميل التعيين من شركة "غوغل"، وأحلم بأنني سأسدّد العجز المزمن في حسابي البنكيّ وسأشتري لابتوب جديدًا بدلا من لابتوبي الذي يعمل على الديزل. وإذا عملتُ لسنة واحدة على الأقل يمكنني عندها أن أغامر وأردّ على المدام ونوصي على الطفل القادم قريبًا؛ حتى إنني أتخيلها منذ يومين حبلى وحالتها ريعه وأبتسم في سرّي. ثم تذكرتُ أنّ حبيبتها/عزيزتها إيفا هي التي حبلت قبل أيام، فهل يكون حبيبي/عزيزي رازي هو الذي تلقى اتصال "غوغل" وبدأ يعمل معهم في الإعلانات؟!

لا، لا، "غوغل" تنتظرني أنا. وستحبل المدام وسأشتري لابتوب جديدًا وسيُولد محمود في كندا وسيحصل على الجنسية ويُجنّسنا معه إلى الأبد.

اللهم آمين!




الاثنين، 14 يونيو 2010

الآن الآن وليس غدًا: هشام نفاع لرئاسة تحرير "الاتحاد"


نزلنا، هشام نفاع وأنا، درج مبنى جريدة "الاتحاد" السّابق في حي وادي النسناس (شارع الفارابي)، وكنا نيمّم شطر فلافل ميشيل كي نتناول غداءنا المنهجيّ المتفق عليه: الفلافل. كان هشام يُسدي لي النصائح في كيفية إدارة وتحرير ملحق "عيش وملح"، الذي كنا نخطط لإصداره في الجريدة وتبقت على خط الموت (دِد لاين) أربعة أيام لا غير.

وقد أثار تسلّمي لتحرير الملحق الجديد وقتها غبارًا ورمادًا في أروقة الجريدة وخارجها، حيث كنت وقتها تلميذ أبو الأديب (وائل واكيم) على حاسوب الماكنتوش الذي كنا نُمنتِج عليه الجريدة، وكانت مهاراتي التفاحية (نسبة لشركة "apple" الشهيرة، قبل أن يكتشفها الرعاع) في تبلوُر مستمرّ تحت رعاية وتوجيهات "أبي الأديب". فكيف يُسلّم ملحق جديد في الجريدة لمونتاجير، هو أصلا لاجئ من قسم التدقيق اللغوي، حيث لم يُعمّر هناك طويلا بعد أن نزف فيه أخطاء لغوية ومطبعية فاحشة أحرجت الحزب والجريدة.

خزّنتُ نصائح هشام ("بو نايفة") وقتها وعملتُ قدر الإمكان بموجبها. كان هشام يسبقني باعًا وخبرة في الصحافة، وكنتُ بحاجة إلى الكثير من السنوات بعدها كي أتبيّن حجم فضله الكبير عليّ، كصديق وزميل ومعلم. ولكنني لست الوحيد الذي يحتاج إلى عدد هائل من السّنوات كي يكتشف البديهيات؛ أحزابنا تحتاجها أيضًا.

فالرفيق "بو نايفة" يعمل في "الاتحاد" سجالا وتباعًا منذ سنوات طويلة، يأتي ويذهب، يتفاءل ويستسلم، ثم يتفاءل ثانية. وفي كلّ مرة كان يعيد كَتْب كتابه على الجريدة الهرمة كنا (بعض الأصدقاء وأنا) نوسعه سبًا ولومًا وشتمًا (أمامه ومن وراء ظهره) لإنه يُلذع للمرة العاشرة من نفس الثقب.

لكنّ عودته الأخيرة إلى "الاتحاد" تختلف هذه المرة، لعدة أسباب، أهمّها وفاة رئيس التحرير السّابق أحمد سعد وخلوّ كرسي رئاسة التحرير، وعدم تعيين خليفة له حتى كتابة هذه السطور. فالحزب هنا غير مجبر على فصل أحد ولا على إعادة النظر أو التقييم أو المراجعة بحقّ أحد، كما أنه غير مجبر الآن على البتّ بين معسكرات أو توجّهات في المكتب السياسي أو اللجنة المركزية تتعلق برئيس التحرير الموجود، مقابل ذلك الموعود.

ولمن لا يعلم، فإنّ هشام نفاع هو أصلح من يكون لرئاسة تحرير هذه الجريدة منذ عزل إميل حبيبي حتى اليوم (بحكم امتحان النتيجة والممارسة)، برغم تعاقب الرؤساء والمرؤوسين من وقتها. إلا أنّ الماكينة الحزبية لا تسمح بتعيين صحافي فذّ كهشام، لا يُعدّ في ضمن قائمة "أمرك سيدي" (yes man). وكي لا تُفهم هذه المقالة على أنها تقريظ بحق الحزب الشيوعي الإسرائيلي، الذي لا أحبه ولا يحبني، أقول وألحّ أنّ هذا صحيح في جميع الأحزاب قاطبة.

إلا أنّ ما يدفع إلى كتابة هذه المقالة غير الاعتيادية، سُنوح فرصة ذهبية كي ينقذ الحزب الشيوعي، وقبل فوات الأوان، جريدته-جريدتنا. فـ "الاتحاد" جريدة هامة رغم أفول نجمها وشبابها وتاريخها الذهبي وترهل جسدها وتورم مفاصلها؛ هامة في نوستالجيتها وتاريخها وهامة في دورها الذي يمكن أن تلعبه، رغم كلّ الظروف. تعيين هشام رئيسًا للتحرير سيزيد من هذه الإمكانيات بدرجات كبيرة جدًا، وقد يؤدي بشكل ما إلى إعادة الاعتبار إلى الصحيفة التي صاغت صحافيينا وصاغوها، هذّبتهم وهذّبوها، نافستهم ونافسوها. عودة "الاتحاد" كصحيفة ندّية، قوية، لها حضورها، سيجبر الجميع على التعامل المختلف مع المشهد الصحافي والإعلامي، حتى لو اقتصر الأمر على الصحف الحزبية المنافسة.

لست من المؤمنين الكبار بقدرة السياسيين والحزبيين على اجتراح القرارات الملائمة في الأوقات الملائمة. لكنني أومن أحيانًا ببعض الحتمية التاريخية (رغم أنني لست شيوعيًا البتة)، ومن ضمن هذه الحتميات انتصار الجودة على الاعتبارات الضيقة، انتصار الثقافة على السياسة، انتصار الخيار الأصحّ (والأصعب) على الخيار الأسهل (والأسوأ).

قبل سنوات كتبتُ مقالة دعت إلى تعيين أيمن عودة سكرتيرًا عامًا للجبهة، رغم صغر سنّه وقتها واستنفار الكثيرين ضدّه. وبعد نشر المقالة اتصل بي أحد الخبثاء وقال إنّ مقالة مني بالذات داعمة لأيمن ستقضي على أيّ احتمال بانتخابه، من باب: أنظروا من يروّج له...

لا أعرف إذا كان هذا سيُقال اليوم أيضًا حول تعيين هشام نفاع رئيسًا للتحرير، من نفس الباب أيضًا، ولكنني أعزّي نفسي دائمًا، بقليل من المتعة، أنّ عودة انتخب حقًا سكرتيرًا عامًا للجبهة بعد كتابة مقالتي تلك. يبدو أنّ الحتمية التاريخية قد تنتصر أحيانًا على الحزب الذي يحمل رايتها. في حالة هشام سيكون هذا الانتصار لنا جميعًا.


الخميس، 10 يونيو 2010

5 ملاحظات على أسطول الحرية: حنين زعبي كمثال



1
من المتبع في مناحينا أن نخجل من شخصنة النضالات وأن نسعى بكلّ صيحاتنا كي نسبغ القضية العينية لقائد/ة بشعارات الوحدة و"كلنا" و"قضيتنا جميعًا". ومن الجائز أن يكون هذا الأمر مُحبذًا عندما يكون الفرد الذي في الواجهة انتهازيًا بجدارة أو منتحلا، مثل أن تنشر عن تهديد على حياتك بعد شهر من وقوعه، لمجاراة العناوين الآنية. ولكنّ هذه النزعة سيئة أيضًا في حالة النائب حنين زعبي، التي برزت –هي ورائد صلاح- في الإعلام الإسرائيلي والعربي بعد مجزرة أسطول الحرية.

نحن بحاجة إلى نساء قائدات وبحاجة ماسّة إلى إبرازهنّ بالاسم والصوت والصورة وعدم الاختباء وراء "نحن" مفتعل أو مبالغ به، لاعتبارات تنافسية حزبية (الأحزاب مقابل بعضها البعض والأحزاب على نطاق صراعاتها الداخلية). يجب أن يظلّ اسم حنين زعبي في العناوين رغم الحساسية و"الحَكّة" اللتين يمكن أن يسببهما هذا للكثيرين؛ فالسياسة في عصرنا عناوين وصورة أو كليب من ثلاثين ثانية. أنا كعربي في الدولة لا اسم لي ولا صورة إلا أسماء وصور قياديينا وآخرين من أهل الثقافة والفن، يرانا العالم من خلالهم. يجب أن نحمي هذه الصور والأسماء وأن نبرزها عاليًا، فكلما برزت زاد حضورنا في العالم.

إلى الأمام حنين زعبي ولا تتنازلي عن أيّ لقاء صحافي أو عنوان أو صورة. نحن بحاجة إليك في العناوين.

2
لماذا لم يكد أحد أن "يلتكش" لرئيس لجنة المتابعة العليا، محمد زيدان، العائد من وغى مجزرة الأسطول، كما حدث مع زعبي وصلاح؟ حتى إنّ الكثيرين –بعد كل هذه الضجة في الأيام الأخيرة- لم يسمعوا بوجوده أو لو يسمعوا له صوتًا. أهو تقصير من إعلامنا العربي أم أنّ إعلامنا وجمهورنا باتا يائسيْن من لجنة المتابعة المهترئة إلى هذه الدرجة؟

3
أعجب من التنظيمات النسوية العربية في البلاد (واليهودية طبعًا، ولكن لنترك هذا الآن)، التي لم تحرّك ساكنًا نسويًا بعد الهجمة الشوفونية الذكورية الساقطة على حنين زعبي في الكنيست. كما أنني أعجب وأتساءل حقيقة كيف تعمل هذه التنظيمات النسوية (المعدودة على "الجبهة" و"التجمع" على حدّ سواء)، وبأيّ عقل تفكّر. فالتنظيمات النسوية في العالم تنتظر فرصة لا تتكرر أبدًا كهذه كي تحمل قضية نموذجية بجدارة وتغزو الشوارع والإعلام. ماذا تنتظر هذه التنظيمات؟ وإذا كان الأمر سيكون "مفهومًا" مع هزة رأس عاتبة بما يخصّ التنظيمات النسوية "الجبهوية"، فماذا مع الباقي؟ هل فكر أحدهم بأنّ ربط قضية زعبي بالأجندة النسوية قد يقود إلى مسار خلافيّ لدى جماهيرنا الصامدة؟ وفي حال كان هذا صحيحًا أليس من اللازم على جميع نسويات البلد أن يقررن نهائيًا والآن: أنتنّ حزبيات أم نسويات؟ الاثنتان لا تجتمعان وإذا اجتمعتا فالحسم دائمًا لصالح الحزب. أنظروا إلى "الجبهة" و"التجمع" وسترون الأمر ببساطته.

أين الندوات؟ أين المقالات؟ أين الحملات؟ أين النشاطات؟ أين الأجندة النسوية؟ أين إبراز أنّ زعبي نسوية بارزة ورائدة؟ وأين رفض الذكورية علنا والإشارة إليها كموبق لا يقلّ خطورة عن الاحتلال بذاته؟... إمرأةُ تُهان في المشهد الجماهيري-السياسي العام لأنها امرأة (عزباء في الـ 38 من عمرها) وجميع نسويات البلد غائبات (عن الأفعال النسوية وليس الحزبية). النسوية فعل صداميّ مستمرّ وليست رحلة تسويات مريحة مانعة للإحراجات.

هذا فشل عَرمْرَم يستوجب ألف سؤال وألف محاسبة!


4
أستعجب أيضًا أن يقول سياسيّ بارز من عندنا إنه يغفر لتركيا 400 عام من الاحتلال بعد مجزرة الأسطول. عفوًا؟... من قال إنّ تركيا المهدي المخلص، ولماذا نهبّ كالأطفال السُذج –في كل مرة من جديد- لننقاد وراء حماسة تبرد لاحقًا، متناسين أنّ تركيا دولة مستقلة لها مصالحها وصراعاتها الداخلية المستفحلة، والحزب الإسلامي الحاكم يستخدم غزة وفلسطين في صراعه الكبير مع المحكمة العليا التركية والجيش العلمانيين؟ تركيا ليست ملاكًا يبكي على أقدام الفلسطينيين، وإلا لما اكتفت بالاستنكار كالنعاج عندما فلحوا غزة قبل أقلّ من سنة. وكيف يمكن أن ننسى تخلف وغباء وإكراه 400 عام من الاستعمار لمجرد أنّ الرئيس التركي غضب على دولة إسرائيل؟ أين أسطوله الحربي الذي توعّد به؟ من المفترض بالسياسيين أن يقودوا الناس، أن يوجّهوهم، أن يصوّبوهم، لا أن يركبوا على موجات الحماسة الشعبوية الإنفعالية.

نشكر تركيا على دورها الحالي ونأمل أن لا يتغير موقفها أو أداؤها وفقا لتطورات علاقاتها وغزلها الدائم مع الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

5
كان من الخطأ أن يقاطع النواب العرب جلسة الكنيست التي ناقشت مسألة تجريد النائب حنين زعبي من بعض امتيازاتها. لماذا مقاطعة مثل هذه الجلسة وعدم مقاطعة النقاش في الهيئة العامة أو لقاء في القناة الثانية مثلا؟ في جميع هذه الأماكن اللعبة "مَبيوعة" إذا كان هذا السبب. يجب أن نكون حذرين في مسألة المقاطعة هذه. من يرغب في لعب اللعبة السياسية والإعلامية عليه أن يكون مثابرًا فيها وواضح الرؤية. كان على زعبي أن تكون هناك أيضًا، وأن تقشر المزيد من طبقات الحقارة التي يرتع فيها الكنيست الإسرائيلي.