الجمعة، 26 مارس 2010

إلتماس للعليا للسماح للكاتب علاء حليحل بالمشاركة في "بيروت 39"

قدم مركز "عدالة"، يوم أمس الأربعاء 24 آذار 2010، التماسا إلى المحكمة العليا الإسرائيليّة، باسم الكاتب والصحافي علاء حليحل، مطالبًا بالسماح له بالسفر إلى بيروت في شهر نيسان المقبل للمشاركة في مهرجان "بيروت 39"، بعد أن تمّ اختياره واحدًا من بين 39 كاتبًا عربيًا دون سنّ الأربعين، من أفضل الأدباء العرب الشباب.

قدّمت الالتماس المحاميّة حنين نعامنة والمحامي حسن جبارين.

يذكر أن حليحل هو من قرية الجش ويسكن حاليًا في مدينة عكا، وهو كاتب وصحفي ومحاضر ومترجم. ويعمل اليوم كمدير برامج في محطّة "ميكس" الفلسطينية. وفي السنوات الأخيرة نشر حليحل عددًا من الكتب بواسطة ناشرين معروفين في العالم العربي، وترجمت رواياته إلى لغات أجنبية عديدة.

وقد اختير حليحل في آب المنصرم، كواحد من الفائزين في "بيروت 39"، وهي المسابقة التي نظمتها مؤسسة "هاي فيستيفال" Hay Festival، بالتعاون مع وزارة الثقافة اللبنانية والمجلس البريطاني. ويأتي هذا في ضمن اختيار بيروت عاصمة عالمية للكتاب للعام 2009 الذي بادرت له اليونيسكو.

وسيشارك الكتاب الذين تم اختيارهم في المسابقة، في فعاليات المهرجان المنعقدة في أماكن مختلفة في بيروت مثل المكتبات والجامعات والمدارس والأماكن العامة الأخرى. وستنعقد حوالي 50 حلقة تتناول مواضيع شتى مثل طبيعة الكتابة وحالة الأدب العربي المعاصر، نفوذ الكتابة وإلهاماتها. كما سيقوم الكتاب بقراءة مؤلفاتهم.

ويمنع القانون الإسرائيلي -البند 5 من أمر تمديد فترة سريان حالة الطوارئ (الخروج من البلاد)- وبشكل جارف، أيّ مواطن أو ساكن من السفر خارج البلاد إلى الدول المعرفّة وفقًا للقانون الإسرائيلي كدول "عدو"، إلا إذا حصل المواطن على تصريح من وزير الداخلية أو رئيس الحكومة، وإلا فسيكون السّفر إلى خارج البلاد غير قانونيّ. ومن بين الدول التي تشملها قائمة دول "العدو": لبنان وسورية والعراق واليمن.

بعد فوز حليحل وتلقيه الدعوة إلى بيروت، توجّه "عدالة" مرارًا إلى رئيس الحكومة ووزير الداخلية بطلب إصدار تصريح للسفر إلى بيروت، ولكنّ "عدالة" لم يتلق أيّ رد.

ويحظى علاء حليحل بتقدير كبير في الأوساط الثقافية في إسرائيل وفي العالم العربي بسبب تعدد مهاراته التي تتراوح بين الكتابة القصصية والمسرحية والصحافية والسينمائية.

وقد حاز حليحل في الماضي على العديد من الجوائز في مجال الأدب، من بينها نذكر جائزة مؤسسة القطان الفلسطينية للثقافة والفنون، التي حصل عليها ثلاث مرات في الأعوام 2000 و2003 و2005 وجائزة السيناريو الأفضل التي حصل عليها في مسابقة "آدم فلينت" في المهرجان الدولي لأفلام الطلاب في تل أبيب في العام 2004. وكان حليحل أحد أربع المرشحين النهائيين في المسابقة المرموقة لشركة "رولكس" السويدية في العام 2006.

وفي البلاد حصل حليحل على تقدير في المعاهد الأكاديمية التي تدرس المسرح والسينما، وقد كتب مسرحية قصيرة باسم "الجندي المخلص بالتأكيد" التي عُرضت في أحد المسارح في تل أبيب، إلى جانب مسرحيات أخرى عديدة آخرها "خبر عاجل" في مسرح "الميدان". ويعمل حليحل في هذه الأيام على كتابة سيناريو لفيلم طويل ستخرجه الممثلة والمخرجة الفلسطينية هيام عباس.

وادعى المحاميان جبارين ونعامنة أنّ تقاعس السلطات عن اتخاذ قرار في طلب حليحل بالسفر إلى لبنان، وتجاهل طلباته المتتالية، يمس بحقوقه الدستورية، بما فيها حقه الدستوري بالسفر إلى خارج البلاد وحقه في حرية العمل وحرية التعبير. كما أنّ عدم إصدار تصريح لحليحل من دون سماع ادعاءاته يمسّ في حقه في الإجراء العادل.

وشدد مركز عدالة على أن "البند 5 المذكور أعلاه الذي يحظر السفر إلى دول "العدو" هو بند جارف ومجحف. على السلطات تحديد معايير تحدد استعمال الصلاحية بتقييد السفر إلى خارج البلاد، آخذةً بعين الاعتبار ضرورة ضمان الإجراء العادل". وطالب المركز في الالتماس بتحديد معايير واضحة لاستعمال وزير الداخلية ورئيس الحكومة لصلاحيتيهما بمنح تصاريح للسفر خارج البلاد إلى الدول المعرفة كـ"دول عدو".

وقال حليحل بعد تقديم الالتماس: "بيروت بالنسبة لي جزء لا يتجزأ من ماضيّ وحاضري ومستقبلي الثقافي والإبداعي. من حقي، كابن الأمةّ العربيّة، أن أكون جزءًا من ثقافة بيروت ومن مبدعيها".


خبر بالإنجليزية عن الموضوع

لقاء في القناة العاشرة الإسرائيلية (بالعبرية)

تقرير في الغارديان (إنجليزية)




الأحد، 14 مارس 2010

باريس: اليوم الأخير

أقرأ في "الأخبار" عن أمسية زياد الرحباني في القاهرة، فتضيق باريس فجأة. يصير المكان عقبة وليس نعمة، وتتبدل المشاعر، فأحنّ إلى القاهرة مجددًا.

ماذا بين القاهرة وباريس؟

لا شيء تقريبًا سوى الطلائعيين المصريين الذين أتوا باريس كي يدعّموا أسس القاهرة الماضية إلى حداثة القرن العشرين. القاهرة التي ظلت مركزًا حضريًا ثقافيًا كونيًا حتى ثورة يوليو وتحويلها إلى عاصمة "عربية قومية" لا تحتمل الأجانب كثيرًا.


في باريس لا يحتملون الأجانب كثيرًا أيضًا. القومية الفرنسية (والكثيرون سيقولون القومجية) لا تحتمل المختلف الآن، لأنّ المختلف مسلم، رغم أنّ الصينيين يتوسعون الآن في فرنسا في جميع أنواع البيزنس وربما يغيرون طابع "القومية الفرنسية" بعد عشرين عامًا. ولكن لا أحد يتهجم على النودلز.


اليوم ليلا ستغادر الطائرة عائدة إلى مطار بن غوريون الدولي. كان الأسبوع الأخير خاليًا من العبرية وإسرائيل و(قرف) السلطة الفلسطينية. كان أسبوعًا هادئًا يبعث على الخدر قليلا. يمكنك بسهولة أن تستسلم لهدوء باريس الصاخب قليلا وأن تنسى ما يشدّك كلّ صباح إلى عناوين الصحف ونشرات الأخبار. يمكنك أن تعيش خارج الحدث، رغم أنك في أهم مراكز الحدث في العالم.


سأذهب الآن إلى متحف بيكاسو. ولولا تذكير وتنبيه العزيز نبيل أرملي لما فطنت لذلك في خضمّ انشغالاتي. ولكنني أحب بيكاسو كثيرًا. أذكر توقي إلى رسمه وتمثيله (من تمثال) أثناء دراستي للفنون الجميلة قبل 9878273 سنة (نعم! أنا فنان متقاعد). سأذهب الآن وأبحث عن تلك الرسمة من فترته الزرقاء. ما اسمها؟ تلك التي تجمع رجلا وامرأة يقفان إلى جانب بعضهما البعض ويحني أحدهما رأسه على كتف الآخر. وتمثال رأس الثور طبعًا المصنوع من معدن دراجة هوائية. هل سأجدهما في هذا المتحف؟


البعض تبرم عن طريق المزاح متسائلا في الرد على رسالتي شبه اليومية بكتاباتي (شبه) اليومية من باريس: "مطولي رحلتك لباريس؟" وبما أنّ المزاح لا يحمل إلا الجدّ، فإنني لا أعرف حقا إذا كانت هذه الكتابة والتذكير بها في الرسائل الإلكترونية مصدر سرور أم انزعاج لكم. وكما تساءلت إحدى القارئات: أقرأ مذكراتك من باريس ولا أعرف لماذا أقرأها- فهي لك وليست لي.


وأنا لا أعرف أيضًا، صراحة (سمايلي).


سيكون يومي طويلا بين التسكع في المتحف ثم المقاهي ثم بعض المشتريات الأخيرة لدشدوشة، ثم السفر إلى المطار ثم الطائرة ثم بن غوريون ثم عكا. ما يهمّ أننا وصلنا، الرفيقة هيام وأنا، إلى صيغة جديد للفيلم، نحبها، رغم قمعها المتواصل لي ولأفكاري الجذابة. شخصية هيام قوية وربما طاغية في بعض الأوقات، إلا أنّ حبها للسينما ولما تفعل يجعلك تحبها وتحب العمل معها، لدرجة الامتنان للآلهة أنها شريكتك في هذا الفيلم.


شكرا هيام...


شكرًا باريس.


غدًا سأعود إلى الوطن. وستعود دشدوشة لتنتق عليّ كما تحب أن تفعل وهي تعض أنفي بشراهة.

الخميس، 11 مارس 2010

باريس: اليوم الرابع








نصحتني هيام بالتوجه إلى أحد متاجر شبكة "القارب الصغير" لملابس الأطفال للتبضع بحلل جديدة لدشة الآخذة في التوسع. بعد أن رطنتْ بالفرنسية مع سهى في الهاتف أسماء أماكن لا أذكر منها شيئًا، هطلنا إلى المقهى الأليف لتناول الغداء وإذ بدُرّة لا تزال هناك، ومعها نيكولا. دُرة هي منتجة تونسية أنتجت فيلم "حرير أحمر" الذي مثلت فيه هيام (رقصت بالأساس) وأخرجته رجاء عماري. وقد جلسنا إلى الاثنتيْن في الحادية عشرة صباحًا من ذات اليوم، في ذات المقهى، نحتسي الشاي الأخضر (والعضرا!) ونتحدث عن السينما ومَن يخرج ماذا ومَن ينتج مَن.

وقد أسهبنا هيام وأنا في الحديث عن الفيلم الذي نكتبه (حسنًا، هي التي أسهبت) وعن مشاهد الحب والتعري والتمزمز التي تملأ الفيلم. وقد فكرتُ بصوت عالٍ في القعدة بأنّ هذا سيكون ربما أول بورنو فلسطيني، فضحكنا ملء أشداقنا، ثم خفتت ضحكتي حين تذكرت أنّ أبي وأمي سيشاهدان الفيلم، وحماي وحماتي، وأنسبائي وأقربائي، في الوطن والشتات. تمعنتُ في هيام طويلا وفهمت الفخ الذي تنصبه ليه: هي في باريس، مدينة الأنوار والتنوير (للفرنسيين فقط)، فماذا يهمها؟ وأنا؟ ماذا سأفعل بجحافل المؤمنين والمؤمنات الذين يخافون الجنس والحب والتمزمز؟ هل ستكبر دشة بلا أب وما ذنب ديناصورتي البريئة بكل هذا؟

إلتقيت دُرة في ورشة السينما MFD التي شاركت فيها في مدينة مراكش في المغرب قبل ثلاث سنوات (أو سنتين- لا أذكر)، بنفس السيناريو الذي نعمل عليه (عفت طيزي من هالفيلم!)، وقد سافرت وقتها إلى مراكش ثلاث مرات في نفس السنة، حيث كثرت الزبدة على العرب وفاضت (فسّرت لي هيام أنّ الفرنسيين يطلقون كلمة "زبدة" على العرب المهاجرين في فرنسا، حيث أن الكنية هي كلمة "عربي" بالفرنسية ولكنها معكوسة ترتيب الحروف). دُرة امرأة جميلة ومُحبة وصادقة وعفوية مع أنها منتجة هامة ومعروفة (هذا الدمج نادر جدًا في عالم السينما)، وهي ترأس اليوم صندوقًا لدعم السينما في فرنسا، وقد أنتجت مؤخرًا الفيلم الثاني لرجاء، والذي بدأت عروضه الافتتاحية.


طبعًا، هيام بدأت الحديث من طق طق للسلام عليكم، من الترميمات التي تقوم بها في البيت حيث توسع شقتها بعد شراء شقة الجيران (ذكرتني بالنكتة عن مقاول البناء الذي تزوج اثنتين ففتحهما على بعض)، وحتى طرائف وقصص لينا ومنى، ابنتيها الجميلتين. كان من المنعش أن ألتقي دُرة بعد هذه الغيبة، وإذ بي ألتقي نيكولا أيضًا على الغداء، وهو مخرج ومنتج قدم لنا ورشة في مراكش وقتها. حدثني عن الفيلم الوثائقي الذي أخرجه عن غزة بعد العدوان عليها، حيث دخل غزة بعد أسابيع قليلة من العدوان، بثلاثمئة وخمسة وستين ألفًا وسبع وأربعين واسطة ومداخلة ورسالة وبيانًا. اسم الفيلم "عايشين"، وقد بدأ عرضه في المهرجانات، ولا شك في أنه من الأعمال السينمائية النادرة التي أنتجت عن غزة بعد العدوان عليها.


يحادثني نيكولا بالعربية من مرة لأخرى، وأتفاجأ، ثم يشرح لي أنه متزوج من عربية فأتفاجأ أكثر. ثم يبطحني أرضًا حين يقول لي إنّ اسم شركة الانتاج التي يديرها "عكا"، وقد أسماها على اسم مدينة الجزار، التي يحبها كثيرًا. ثم يقول لي إنه أنتج وأخرج في مطلع التسعينات فيلم "الكفوف الذهبية" عن نادي الملاكمة المعروف في عكا، ثم يسألني بثقة عن أبرز الملاكمين العكيين من عائلة خاسكية، فأتظاهر بأنني أعرفه، وأستزيد. ثم تحول الحديث إلى منحًى حزين بعض الشيء حين حدثته عن معشوقته (عكا) وعن بيع بيوتها للمستثمرين والمستوطنين اليهود، وعن الجريمة والمخدرات والعنف والإهمال. ثم رويت له ما روته لي إم الدُشة عن إطلاق النار الذي حصل قرب بيتنا قبل يومين حين دهم بعض الشبان البيت ليقتلوا أحد الأبناء الشباب فيه، فهرب الشاب فما كان من المعتدين إلا أن أطلقوا النار على أبيه!

هذه هي حال عكا مؤخرًا، أتنهد وأنا أقول له، ثم يحك دماغه ويطلب المزيد من المعلومات عن فلسطينيي الداخل، فلا أبخل، فيزداد إحباطه، ثم يستعيد عافيته كسينمائي مدمن، وتبرق عيناه وهو يتساءل مع نفسه أكثر مما يُسائلني: ربما من الجدير صنع فيلم عن هذا الوضع.

ألتقي بسهى عند نهاية العالم، نحو اليمين قليلا، في حي البرجوازية الباريسية المتعفنة أجبانها. تقول إنها تسكن هنا لقرب المكان من مكان عملها وعمل بيار، زوجها العتيد (في 26 تموز المقبل في الناصرة؛ عليكو عزومة). نتمشى في الشوارع العريضة الفسيحة النظيفة البيضاء وأتضايق من صفاء الجو والهواء، كمن اعتاد على تلويث باريس الجميل. تقول لي إنّ الحي يفيض على جانبيه باليهود الأغنياء، وهم أنفسهم من يدعمون الدولة الصهيونية، فتنتابني رغبة هائلة في القرفصة في وسط الشارع وإلقاء خرائي الفلسطيني الثائر في هذه البقعة الصهيونية من باريس، إلا أنّ توقف سهى فجأة وإدارتها لرأسها بحيرة وسط مفترق الشوارع، يعيدني إلى الواقع، وألفاها تقول ببعض المرح القلِق: "أنا مش منيحة بالجغرافيا". أسبّ تركيبة النساء الوراثية التي تجعلهن ضعيفات في الجغرافيا الحيزية، ثم تنقذ سهى نفسها بأن تقترح أن ندخل محل الملابس هذا للأطفال قبل أن نصل المحل العيني الذي أرسلتنا هيام إليه، كرّم الله وجهها.


نشتري طقمين "بهبلوا" لدشة العربيدة، وتنتخي سهى فتشتري حذاء زهريا هدية لدشة أيضًا، فأضطر لدعوتها على القهوة والتريسيمو ثم العشاء، كي أردّ لها الصاع صاعين! والحقيقة أنني أصريتُ على عزومتها كمكافأة على خدمات الإرشاد التي توفرها لي كلما أتيت باريس، ولم أفطن إلا وأنا في الميترو عائدًا إلى الفندق، إلى أنّ سهى وفرت لي في الواقع خدمات "ضياع" في باريس وليس إرشادًا (عزمتها على الفاضي). وقد اضطررت في نهاية الأمر إلى توجيه مسارنا إلى بيت الرفيق أيلي، وهو يلقنني على الهاتف المحمول إرشادات جغرافية عجزت سهى عن ترجمتها إلى خطوات فعلية على أرض باريس.


يقطن أيلي في شقة باريسية حسناء، باهرة الضياء، بحبوحة العيش، لا تعرف الهراء. وفورًا يصب لي مدعوقًا عربيدًا أحضره معه طازا من عند صديقه الكاتب المعروف جون بيرجر، وهو أشبه بخلطة من الحكول ونكهة برية عطرة، فتحت لي مجاري التنفس والكلام والبول بعد أول رشفة صغيرة. وما هي إلا لحظات حتى أبرم إيلي وسهى سلام الشجعان النصراويين، وبدأا الحديث عن حارة البرتيس والروم، والكاثوليكيين والموارنة والسنة، وأنا في الوسط أحاول أن أتتبع خيوط المؤامرة النصراوية التي سيطرت على هذه الشقة الباريسية الجميلة فحولتها إلى زاوية منزوية في مقهى "الرضا".


يعمل إيلي على فيلم جديد يهدس به، ويحدثني عن طريقة كتابته وإخراجه للأفلام وتطبيقه للأفكار التي تلاحقه (التفاصيل في كتاب "فضائح فلسطينية في باريس الأبية"). أحاول أن أسرق منه سر الصنعة، أو على الأقل بعضًا من ملامحه، ثم نُشرّق ونُغرّب ونمسك شل الحركة السينمائية من مشرقها إلى مشرقها (التفاصيل في الكتاب آنف الذكر). لا ينسى إيلي الإشارة إلى كرشي المتنامية، ثم لا يتمالك نفسه فيهدّ قليلا على أخي عامر، صديقه اللدود، فأهدّ قليلا على أطراف عائلة سليمان، وأشعر بالطمأنينة لأنّ الحديث في نهاية المطاف دار ودار واستقرّ في الحمائل والعائلات، حفاظًا على التقاليد. فأكلنا المزيد من الحلوى التونسية الشهية التي أحضرها معه من الدولة الخضراء.


تدخل ياسمين، عزيزة أيلي التي تشاطره الشقة، وفورًا تنزلق مع سهى في محادثة هامة ومثيرة حول اللهجات والكلمات النصراوية، والفرق بين الفلسطينيين واللبنانيين. وقد أسرّتْ إلينا ببعض الكلمات النصراوية التي يصرّ إيلي على حملها معه (نيويورك فباريس)، وأفظعها لا شكّ كلمة-جملة "مَطِكْطهنِّشْ" (لم أُطِقهُم). نضحك ونشير إلى إيلي بأنّ النصراويين الأقحاح أنفسهم توقفوا عن قول مثل هذه الكلمات، ونناشده الحفاظ على مياه وجوهنا أمام هذه الجنوبية الموسيقية التي سرقت من سهى تعبير "مِنينا ولا مِنيكو؟" لأغنيتها القادمة (وكل واحد يقراها كيف بدو).


منذ يومي الأول أُغرمتُ بالبط. وبعد الخروج من عند إيلي وياسمين نجلس، سهى وأنا، في مقهًى مجاور لشقتهما، ونأكل. أطلب البط مع البطاطا وخلافه، وتأكل سهى سلطة فرنسية عليها شرائح خبز محمص مع جبنة زرقاء متعفنة من فوقها. نتحدث عن الأطفال وعن التغييرات في الحياة وعن الزواج والبيروقراطية الفرنسية وكسل موظفي البريد في فرنسا. كما نستلم شلّ هيام لأنها بعثت بنا إلى محل للملابس يحتاج إلى ميزانية ضخمة مثل ميزانية ممثلة سينمائية تشارك في خمسة أو ستة أفلام في السنة وتقبض باليورو. مثل هيام مثلا.


حين نفترق في محطة المترو، نتفق على محاولة الالتقاء مجددًا قبل عودتي، الأحد، ثم توشك أن تغادر سهى وهي تحمل كيس الورق الذي يضم هديتها لدُشة (الحذاء الزهريّ)، فألحقها وأمسك بتلابيبها مذعورًا.


في المقطورة أفكر فيما إذا كانت سهى نسيت أم تناست الكيس، كيف تبعث الحذاء إلى ابنة أختها. وعندها يمكنها أن تقول إنها اشترت هدية لابنتي ونسيتُ أنا أن آخذها، ثم تهديها لابنة أختها، وهكذا تضرب طفلتين بحذاء واحد. ولكنني تراجعت عن هذه المؤامرة، خصوصًا حين تذكرتُ أنّ سهى لا شكّ تائهة الآن في أنفاق المترو، لا تعرف الشمال من الجنوب، فأرسلتُ إلى باريس طاقة إيجابية حارة، إعتقد الجالس إلى جانبي أنها روائح هضم البط خرجت من أسفل معدتي المضطربة، فقام وبدّل مكانه.


ملاحظة رقم 1: جميع المكتوب عنهم والمصوَّرين في هذه المدونة تلقوا الإنذارات والتحذيرات الشفوية والخطية بشأن التدوينات اليومية وطابعها الساخر المتعفن، مما اقتضى التنويه.

ملاحظة رقم 2: للحيارى من القراء والقارئات الذين يتساءلون عن اليوم الثالث وماذا حلّ به أقول: عملت مع هيام حتى المساء ونمت في الساعة الثامنة كالقتيل واستيقظت في الثامنة صباحًا من اليوم الرابع. ستتفقون معي أنه يوم غير جدير بالتكتكة على لوحة المفاتيح، إلا إذا كانت شهيتكم مفتوحة لتعرفوا في أيّ مشهد "ينط البطل على البطلة"- على حدّ تعبير الديرحناوية الجميلة.


الثلاثاء، 9 مارس 2010

باريس: اليوم الثاني

أستيقظ باكرًا رغم إصراري على النوم جيدًا. منذ أشهر، أي منذ ولادة الدشة الضاحكة، أستيقظ باكرًا وأنام باكرًا. مثل الدجاج. "نام بكير وقوم بكير وشوف الصحة كيف بتصير"، يهمس مثلنا الشعبي الذي يحثّ على العمل مثل الحمار والنوم مثل الدجاجة، وإمشي الحيط الحيط، ولا تنسَ أن تموت بلا مغامرات. الحقيقة أنّ الصحة جيدة في مثل هذه الظروف، ولكن ماذا ينتفع الإنسان لو نام باكرًا واستيقظ باكرًا وخسر لعبة المحبوسة في الثانية عشرة ليلا بين البكري العربيد و"بو ندى" الصنديد؟

عند الفطور أمسكتُ بالفندقيّ متلبسًا (هل ذكرتُ أنه عربيّ أيضًا؟). عندما وضع لي ملامح الفطور المتواضع أمامي، إنضمت إلى غرفة الطعام صبية جميلة من الشرق البعيد (يابانية أو صينية أو كورية، لا أعرف)، وعندما جلست هرع إليها بصحن فيه قطعتا كروسون وقطعتا باغيت!! أيها الحقير؛ لو كنتُ امرأة جميلة لحملتَ إليّ من الطعام ما يكفي قبيلة. المفارقة طبعًا أنّ هذه الشرق-بعيدة لا تأكل إلا نزرًا، وهي تحظى بكمية الطعام التي من المفروض أن تُقدّم لواحد مثلي. أزدرد مهانتي على مضض وأحمل كوب القهوة وأصعد إلى غرفتي.


اليوم عملت مع هيام على السيناريو. بانتظارنا أيام غير هينة من الحكي والحكي والحكي، ثم الكتابة والتغيير. هل عملتم مرة مع شريك على نص مسرحية أو فيلم أو أيّ شيء؟ حسنًا، لا تفعلوا! وهذا طبعًا لا يتعلق بنوعية ولطافة وإنتاجية الطرف الثاني (في حالة هيام). ما يهم هو اصطدام شحنات كهربائية من فئة 220 فولط، صادرة عن شخصين (مبدعين) يعتقدان أنّ باريس تسحب طاقتها الكهربائية من ضوئهما. ولكن العمل مع هيام يظل لطيفًا وإبداعيًا حقًا، وهي تذكرني بأم الدشة أكثر من عشر مرات في اليوم، من ناحية القدرة الخارقة على تجنيد الحروف اللانهائية للكلمات اللانهائية التي تطلقها في فضاء الغرفة.


حين أروي لهيام أنني سأكتب عن قدراتها الكلامية الهائلة، تعترض وتلح إلحاحًا أن أكتب لقراء المدونة أنّ المشكلة فيّ أنا وليست فيها. كما تطلب مني أن أكتب لكم أنّ الكلام المُراق على أرضية مكتب شركة الإنتاج الباريسية متركز فقط في الفيلم الذي نعمل عليه، ليس إلا، وبالتالي فهو عمل وكدّ، ما من بعده جد. حسنًا، سأكتب، أقول لها، ولكن هل سيخفف هذا من وقع البرد الباريسيّ على أيدينا ووجهينا ونحن نسرق النيكوتين سرقة في مدخل العمارة، مثل لصين مذنبين؟ لا تدخين في الأماكن العامة وأماكن العمل. نخرج، هيام وأنا، إلى صقيع باريس الذي يُلحق أضرارًا غير رَجُوعة بالخصيتين وأطراف البنكرياس (غير رَجوعة: نهائية، غير قابلة للتغيير- والشكر لمضاء على الكلمة الدلوعة).


الطقس هنا غير مسبوق، يقولون لي. حتى إنّ نيكولا، المنتج، اضطر اليوم للسفر إلى جنوب فرنسا كي يحاول حل المشاكل الانتاجية التي طرأت على تصوير فيلم يجري في هذه الأيام هناك. فالطاقم التجأ إلى الجنوب الفرنسي لتصوير أيام مشمسة وحارة، ما يليق بالريفييرا الفرنسية، إلا أنّ الثلج انهمر هناك، لأول مرة من عشرات السنين، ودُقّ الخازوق دقـًا. أبتسم وأنا أتخيل نيكولا المسكين يجرف الثلج عن أسطح المنازل والطرقات كيف يتمكنوا من تصوير الممثلة تتسفع تحت الشمس وهي تلبس البكيني بدرجة حرارة 5 تحت الصفر. هذه مشاكل الأثرياء، أبتسم مرة ثانية، فليأتوا إلى هنا وليحاولوا أن يدخلوا إلى الإنترنت عن طريق الشبكة اللاسلكية في هذا الفندق الحزين. النكتة أنني اتصلت الليلة بالفندقيّ الذي يغشني في الفطور لصالح ابنة الشرق البعيد، وقلت له بحزن ويأس: الإنترنت لا يعمل في الغرفة، فأجابني بكل هدوء وحسم: "لا أستطيع أن أفعل شيئًا. بونسوار". بونسوار في عينك!


عبر الإس إم إسات والإيميل (حين أنجح في فتحه) تصل التقارير من الأرض المحتلة: دشة مستمرة في تجميع المعجبين والمعجبات، وهي دائمة الضحك والمكاغاة، حتى إنّ "أبو شادي"، زوج النانا (يحرق أخت التبرْجُز!)، وقع في حبها لأنها تضحك له طيلة النهار، ناهيك عن غزلها المستمر وغير المنقطع لفريد ابن السنة ونصف السنة، الذي يشاطرها النانا. ها أنا ذا أجلس في باريس بعيدًا وابنتي بدأت تمتهن الغزل وهي في الشهر الثالث وأسبوع ويومين فقط. من الأجدر بي أن أضب شنطتي وأن أهرع إلى عكا سباحة كي أضع الحدّ على الزعرورة، ولكن بالأساس، كي أقبلها ألف قبلة وأشم رائحة بشرتها النضرة، ورائحة نتاقها العطرة، على ملابسي المُخضرّة.


الاثنين، 8 مارس 2010

باريس: اليوم الأول

لحظة مؤثرة...


لحظة مؤثرة أكثر...



متجر شركة "أبل" في محاذاة اللوفر. هاي الصورة عشان أحموشي




ساحة متحف اللوفر. يطير الحمام (البط في هذه الحالة)...






وضعتُ رواية "روائح ماري كلير" (للتونسي الحبيب السالمي) في محفظتي، من بين سائر الكتب التي على المنضدة (وديوان لعناية جابر). لم أكن أعرف أنها تسجل قصة حب في باريس، ولكنني كنتُ قرأت عن تميز هذه الرواية، فقلتُ أقرأها في الطائرة. حملتني الرواية بهدوء وبلا "دراماتيكية" تُميّز روايات الحبّ، إلى باريس، وحين حطت الطائرة في مطار شارل ديغول كنتُ قد قطعت ثلثيها على الأقل، وكانت قصة الحب بين الراوي وماري كلير قد بدأت تتدهور، وفق جميع علائم انتهاء الحب (تعرفونها؟.. أصعبها التجاهل).

هكذا حطت الطائرة وأنا أعيش تفاصيل احتضار حبّ باريسيّ، من دون أن أعيش حبًا كهذا، يتمناه جميع الرومانسيين (الأحياء منهم والأموات). كانت باريس نائمة في السادسة صباحًا وكان البرد ينخر جسدي، وندمت أشدّ الندم لأنني لم آخذ معي الكلاسين البيضاء الطويلة التي نبهتني إليها أم الدشة ولم أنتبه. باريس باردة في هذه الأيام، ولكن ألفة كبيرة تلفني معها اليوم، على خلاف المرة السابقة، التي كانت سريعة ومقتضبة: "كويكي على الواقف". حتى متحف اللوفر بدا باسمًا هذه العصرية (من دون علاقة بأنّ الدخول إليه اليوم مجانيّ) ولم أكترث للريح الصّرصَر التي هبت على ساحة الكونكورد والمِسلة الفرعونية (الملطوشة) التي تنتصب في وجه لا أعرف من.

اليوم الأول في باريس جميل، ويبدو أنّ نصائح العزيز بيار ستفعل فعلها. طلبتُ منه أن يسمي لي معالم وأماكن جديرة بالزيارة، ولم يبخل، بل استزاد، وأعتقد أنني في ورطة الآن، لأنّ الوقت الممنوح لفسحي محدود، وسأضطر إلى تحمل عتاباته الودية وهو يسأل بتعجب (في الأيميل): لا؟ ما زرت "ثياتر دي لا فيل"؟؟ له له يا رفيق!

يقع الفندق الذي أنزل فيه في المنطقة الضبابية العصية على التعريف، بين "حقير" و"متواضع". ورغم أنه آيل للسقوط في كل لحظة إلا أنّ فيه "واي فاي" وببلاش. وقد اقتصر فطور الفندق هذا الصباح على قهوة سوداء وبعض الحليب، كروسون واحد صغير وربع (يمكن ثمن) باغيت، إلى جانب قطعة زبدة ووجبة مربى صغيرة. ما يشبه فتحة النفس ليس إلا. كمية الطعام التي أزدردها على الواقف، حين أستيقظ، قبل تنظيف أسناني، قبل أن أجلس إلى الفطور. كنتُ أعتقد أنّ هذه هي المقدمة لا أقلّ، وأنّ البيض والمقانق (بالميم) والأجبان آتية لا ريب، إلا أنّ الفندقيّ المناوب ابتسم لي حين ابتسمتُ له، وفهمتُ. ولكن أكثر ما أغاظني أنه كان يجلس خلفي في السابعة والنصف صباحًا، لا أحد غيرنا في "غرفة الطعام"، وكان يمضغ الباغيت بصوت عال ثم يشفط القهوة شفطًا، فكانت كل شفطة وكل مضغة تقطعان أحشائي قطعًا، ولولا أنني أنحدر من عائلة لم يُخلق بعد مَن يسدّ شهية أبنائها، لقُمتُ من دون أن آكل وجبتي الضئيلة المتواضعة (لن أقول حقيرة).

في التاسعة مساءً يقرصني الجوع، فأقرصه. أبحث عن "أيّ حاجة في أيّ حته" تلائم ميزانيتي المتواضعة. يلهمني أنفي في اللحظة الحاسمة فأشمّ رائحة لحم ببهار عربيّ. بعد ثوان أراه: سيخ شوارما يسبّح الليل ورواده. هنا يسمونه "كباب" ولكن لن نتوقف عند التفاصيل. يطالعني وجه الكبابجيّ الملتحي بلحية غير حيادية، فأطلب دجاجًا بالإنجليزية، ثم أتذكر، فأسارع: "عربي؟" يبتسم ويقول: "مْنين؟"، أقول فلسطيني، وأرجو ربّ العباد في سري أن لا يسألني "مْنين؟" مرة أخرى، لئلا أدخل في متاهة عكا وعرب الداخل والثماني وأربعين وتصنيف الانتماءات وتقلبات الهوية والطقس وسراويل الحسيني الداخلية. يبتسم حين أقول له إنني فلسطيني ويسأل السّؤال الطبيعي بعد هكذا كلمة: "دْجاج بالكاري؟ بالبازيليك؟ بالخردال؟". أبتسم ملء جوعي، وأطلب بالبازيليك. يحاول البائع أن يتودد إليّ لكنّ عربيته مثل فرنسيتي، فنصمت بعد حين وعيني على ساندويتش الدجاج وعيني الأخرى على القدس (بمزح معكو؛ عيني الأخرى على فرنسية حسناء، ولكن يجب على كل فلسطيني في العالم أن يحشو كلمة القدس في أي نصّ يكتبه، وها أنا قد انتهيت من "الكوتا" المقدسية المفروضة عليّ).


آكل ساندويش الدجاج بشهية وبعد اللقمة الثانية أندم لأنني لم أشترِ اثنين، إلا أنني أنظر إلى كرشي في المرآة وأشكر الآلهة أنني لم أشترِ اثنين، فأكتفي برقائق البطاطا المقلية المغمسة بالمايونيز، ثم أتحلى بتفاحة حمراء يانعة (سامعة مدام؟)، وأجلس إلى الحاسوب وأعمل على السيناريو.

أتفحص الإيميل. لا شيء مثيرًا. أقرر أن أكتب يوميات باريسية حتى عودتي ونشرها في المدونة. أستسخف الفكرة؛ من بحاجة إلى هذه الترهات؟ ولماذا يجب نشرها على الملأ. لو كنتُ فاتحًا غازيًا أو ظافرًا لقلنا "محمولة". بعد نصف ساعة من تقليب المحطات الأربع الفرنسية في التلفزيون المتحشرج، أعود إلى الحاسوب وقد قررت أن أكتب هذه اليوميات وأنشرها. يعني إبراهيم كناعنة أحسن مني؟

سأنهي الليلة "روائح ماري كلير" وقد أقرأ قليلاً من ديوان عناية جابر الذي اصطحبته معي أيضًا. إشتريت أيضًا من المطار كتاب "صورة دوريان غري" لأوسكار وايلد بترجمة جديدة (بالعبرية). سأقرأه أيضًا. ولكنني أشتاق إلى دشة شوقًا هائلاً. أقلب صورها في ذاكرة الحاسوب. أحبها. أنام على صوت مكاغاتها وصراخها العصبي وهي تهجم على أنفي لتعضه، كما تحبّ أن تفعل.