الاثنين، 27 يوليو 2009

لا غالب إلا هلسا



غالب هلسا؛ هذا الاكتشاف!

أحاول الآن أن أتذكر تفاصيل سيرتي الذاتية، تلك السيرة التي أدّت بي إلى عدم قراءة غالب هلسا حتى نهايات الرابعة والثلاثين من عمري. كيف حدث أنني كنتُ جاهلاً إلى هذه الدرجة ولم يوبخني أحد حتى اليوم؟ كيف يحدث أن يحرق الإنسان 34 سنة وعشرة أشهر من دون أن يقرأ حرفًا واحدًا لروائيّ كبير كهذا؟ هل الأهل هم المشكلة؟ المدرسة؟ الجامعة؟ الأصدقاء؟ المحررون الثقافيون في الصحف؟ سياسة إسرائيل العنصرية؟ تآمرات دحلان؟

قبل يومين كنت في البقالة وسألني صاحبها "كيفك جار؟"... قال إنّ الحرّ ابن زانية وقلتُ بل إنه ابن مراغة، ثم مسحنا العرق عن جبهتينا. أحسستُ في نظرته ازدراءً ما. كنتُ انتهيتُ للتوّ من قراءة "الروائيون"، رائعة هلسا، وكنت لا زلت أفكر في انتحار إيهاب وفي شخصية زينب، وأحسستُ بأنّ جاري، صاحب البقالة، يعرف أنني لم أقرأ غالب هلسا حتى اليوم.

حاولتُ أن أتفادى نظرته المليئة بالتوبيخ، ولكنني لم أستطع. كنت على وشك أن أقول له بابتسام المُحرَج: "أما غالب هلسا إشي فلع، لا؟" عندما رأيته يسألني: "سوفت وَلا بوكس؟" أجبته: "سوفت". أنا أحبّ سجائر "الجمل" في تغليفها الورقي (الناعم) وليس في علبة الكرتون. أحسّ بهذه الورقية الناعمة نوعًا من التآمر على التغليفات المتبعة، على قساوة الكرتون الذي يمنع عنك تحسس السيجارة حتى وهي في العلبة (سأشعل سيجارة).

غالب هلسا، هذا الاكتشاف!

كنت بحاجة إلى رسالة بريدية من صديقي الجديد علي عيسى، المترجم، كي أبدأ بسبر أغوار هلسا. نحن نتآمر، علي وأنا، على مشروع ترجمة خاص بي، وقد أشركني في إحدى رسائله باستمتاعه برواية "سلطانة" لهلسا. قلتُ: "باطل عَ الرجال!" وبدفعة واحدة استعرتُ من المكتبة ثلاثة مجلدات كبيرة يتعدى وزنها الخمسة كيلوغرامات هي أعمال هلسا الروائية، الصادرة في مشروع هائل حقيقة عن دار "أزمنة" في عمان. تحفة للقارئين.

في طريق العودة أحسستُ بأنّ جاري في العمارة، عضو لجنة البيت، يقترب مني من بعيد، ورأيته يتأهب للتوجه إليّ. أحسست بثقل الموقف وقلت: عليّ وعلى جيراني! عندما اقترب مني قاب فحجتين أو أدنى بادرته مسرعًا:

"أما "سلطانة" ممتازة!"

نظر إليّ باستغراب وأجاب مترددًا:

"هاي اللي سكنت في الطابق الخامس؟"

طابق خامس؟؟

"بالنسبة لرسوم لجنة البيت جار... عليكو أربع أشهر."

وعدته بدفع المتأخر قبل أن يتورم، وفكرت وأنا في المصعد أن هلسا كان سيدخل هذا الحوار في رواية "الروائيون" عن الطبقة البرجوازية الصغيرة التي تبتعد عن الشعب وتعادي الشيوعيين. في البيت وجدتُ المجلد الثخين (تسعمائة وثمانين صفحة!) ينظر إليّ برضا كبير لأنني نجحت في قطعه بأسبوع. بقي مجلدان قلتُ لنفسي، ولكنني لم أقرأ مسرحية واحدة على الأقل هذا الأسبوع، كما وعدتُ نفسي منذ أشهر- وكما أفعل.

ستكون طامة حقيقية حقا لو اكتشفت أن هلسا كتب للمسرح. عندها سأعتزل التكتكة على اللابتوب (البعض يسميها بعبصة) طيلة اليوم وسأصير مدقق حسابات، كما حلم أبي دائمًا!


الاثنين، 20 يوليو 2009

أنضج أفلام مسيرته الفنية: إيليا سليمان عالقاً في «الزمن الباقي»


بعد «سجلّ اختفاء» (١٩٩٦) ثم «يد إلهيّة» (٢٠٠١)،
البحث متواصل عن لغة تلائم الرواية: إنّها «لغة البقاء»



اللغة ـفي وجودها وغيابهاـ هي الباقية في «الزمن الباقي» الذي قدّم عرضه الأوّل في رام الله قبل أيّام. «الزمن الباقي» انتهى منذ سنين، وما بقي هو الاستعادة والتأمل: هل سقطت الناصرة فعلاً أم استسلمت؟ وهل يعرف حقاً جندي جيش الإنقاذ أين تقع طبرية؟ التأمل الساخر اللاذع الذي لا يعترف بالنوستالجيا ولا بضرورة التذكّر: الذاكرة الفلسطينية ليست واحدة، والمتذكرون ليسوا متشابهين؛ إيليا سليمان (١٩٦٠) هو واحد منهم... لكنّه لا يبكي لدى تذكر سيرته، بل يضحك ألماً بملء سخريته.

ما يفعله سليمان في «الزمن الباقي» أنّه يعيد صياغة اللغة، لغة التذكر ولغة الحكي. لغة العادي اليومي، لغة السياسة، لغة البقاء. أيّ بقاء يصوره لنا سليمان؟ إنه بقاؤه هو، فالفيلم قصته: قصة والده زمن النكبة وبعدها، قصة العائلة والأم والناصرة، قصة «البلد». وما زال مشروع سليمان السينمائي يتطور في هاجس مُلحّ: كيف يروي الفلسطيني قصته؟ بأي مفردات؟ إنه يبحث عن لغة للرواية، لغة سينمائية «تلائم» الحدث وواقع الحال.

لا شكّ في أنّ «الزمن الباقي» هو من أنضج أفلام سليمان حتى الآن، ولا شكّ في أنّه أفضلها من الناحية السّردية والفنية. سليمان يملأ الفيلم بالحوارات بين الشخصيات (نسبياً)، وهو تحوّل لافت في مسار صاحب «سجل اختفاء» و«يد إلهية». ومع هذا، يظلّ الصمت (عدم الكلام) هو الحوار الأتمّ والمتواصل. وعلى هذا الصمت الطويل الصاخب، رُكِّب شريط صوتي قد يكون من أجمل ما شهدته السينما العربية وأغناه. الفيلم طافح بالموسيقى والأغاني التي كانت نَفَس الفترة وكلامها: عبد الوهاب، أسمهان، ليلى مراد، نجاة، وصباح فخري. فإذا بالنص يتحاور مع الصورة والموسيقى، خالقاً حالة سينمائية متصاعدة، متينة.

ينقسم الفيلم إلى ثلاث مراحل تاريخية: النكبة، السبعينيات وأيامنا الراهنة (الناصرة ورام الله). نجح سليمان في نقلها بمهنية عالية بواسطة الموسيقى والتصميم الفني للفيلم (شريف واكد). إنّها محطات مفصلية في روايتنا الفلسطينية، وبالأخصّ لفلسطينيي الداخل. وقد نجح سليمان في انتزاع الناصرة وحيفا والجليل والمثلث من براثن التعريفات (الإسرائيلية) الجديدة، ليعيدها إلى سياقها الفلسطيني الأصلي. السياق الذي تاه ويتوه في معمعة التقسيمات السياسية الحاليّة التي فرضها منطق المحتلّ. إنّه ردّ اعتبار لنا، لفلسطينيي الجليل والمثلث والنقب: من هنا مرت النكبة، من بيوتنا وأراضينا وبلداتنا.

بل إن إيليا سليمان يذهب أبعد من ذلك. رأيه أكثر حدة: النكبة ما زالت مستمرة، وهي تشوّهنا. تشوّه لغتنا وحاضرنا ومستقبلنا: الجار السّكّير (طارق قبطي الممتاز) الذي غرق في قنينته، وفي كل سكرة يخرج بحلّ سحريّ آخر؛ الجهاز التعليمي الذي أجبر آباءنا على غناء «بعيد استقلال بلادي/ غرد الطير الشادي»، وتعاون معه المديرون والمعلمون من آبائنا أيضاً. يقسو هذا السينمائي المميّز، وينكأ الجرح بلا هوادة. إنه فلسطيني غاضب وخائب الأمل، إلا أنّ غضبه يُترجَم سخرية مُرةً تنتج فكاهة غريبة، سوداء قاتمة. فكاهة فلسطينية. هل يمكن الضحك وأنت تشاهد توقيع رئيس بلدية الناصرة على وثيقة الاستسلام في 1948، والصورة التي التقطها مع الحاكم العسكري؟ هل هذا ممكن ومسموح؟

وإذا كانت الكوميديا هي «التراجيديا مضافاً إليها الزمن»، فهل يمكن في «الزمن الباقي» (والمتبقي) أن نضحك على جيش الإنقاذ الذي لم ينقذ شيئاً؟ وعلى وضع فلسطينيي الداخل، بكل تشويهاته الثقافية والاجتماعية؟ هل ما بقي لنا هو الشبان العرب الثلاثة في المشهد الأخير، يلبسون مثل «موسيقيي الراب» مع كوفيات وشارات النصر؟ هل هي مقاومة جديدة عصرية؟

الفيلم يبدأ بمشهد غريب: سائق تاكسي يهودي يُقلّ سليمان من المطار، إلا أنّ عاصفة قوية تهبّ فيتوقف السائق ويعلن عدم قدرته على الاستمرار في السفر، لأنه «لا يعرف أين هو». سليمان يجلس في الخلف، في العتمة، صامتاً، لكنه يقول لنا بهدوء: اليهودي لا يعرف المكان ولا يعرف الوصول إليه، وأنا (نحن) عالق معه!

كلنا عالقون في «الزمن الباقي». فلنضحك قليلاً...


(رابط المقالة في "الأخبار" البيروتية)


الثلاثاء، 7 يوليو 2009

الحاسة السادسة

اللمس. يدها عليّ، يدي على شعرها، على بطنها، قدمي على قدمها، يدها تعبث بي، يدي تعبث بها.

اللمس كحاسة سادسة، تتعدى الحاسة الخامسة المعتادة، المألوفة. البحث عن خصوصية في اللحظة، في اقتراف الملامسة، في الاستحواذ على الجسد. ألمسكِ فأنت لي. بين يدي، ليس مجرد التصاق اللحم باللحم، بل إعلان نوايا: أنا أتحسّسك لأنك لي، فريستي، أشمكِ بيدي، أعبث بكِ بيدي. ألمسكِ لأنني سيد جسدك. تلمسينني لأنك سيدة جسدي.

الحاسة المهملة، اللمس. القدرة على استشعار الحرارة، البرودة، الرغبة، الصدّ، القربى، البعد، الشهوة، الرطوبة، الجفاف، العرق، السوائل، سوائلي عليها، سوائلها عليّ. ألمس جسدها لأنه مفتاح اللقاء. كيف يبدأ اللقاء من دون لمس؟

ألمس وجهها وهي تمتصّني. تلمس وجهي وأنا أمتصّها. الرائحة في الأنف مثل الرعشة في اليد: الإثنان يهيّجان، اللمس يؤكد الهيجان: ها هو حاصل أمامي!

ألمس ما بان من جسدها وألمس ما تحت الثياب. الثياب لا تفسد اللمس بل تقويه. تعبث اليد بالملابس وتستقرّ فوق العضو (أيّ عضو) المختبئ. إنه عضو مختبئ الآن ولكنه في متناول اللمس. عضو مستتر تقديره اللمس. أتتبع الجغرافيا، أمرّ على التضاريس فهي مكشوفة بضوء يدي، هنا تدويرة وهنا انخفاض وهنا ارتفاع. اللمس دليلي السياحيّ.

اللمس لغة التآمر. لغة المشاكسة التي قبل، والهدوء الذي بعد. إصبعي تحفظ متاهات جسدها وإصبعها تحفظ متاهات جسدي. اليد تلمس، ولكنّ اللسان يلمس أيضًا. والثديان. والعجيزة. و"الذكر". و"الأنثى". اللمس يملأ الأمكنة فهو إذًا المكان. مكان اللمس. غابته الكثيفة. الجّسد.

اللمس هو الجسد وباقي الحواس هي تعقيبات عليه.

ألمسها وتلمسني. هكذا نحن، متلامسان.