الاثنين، 30 يونيو 2008

"مرْت الرئيـــس" وأحـــلام ليلة صيف


يبدو أنّ العالم "المتحضر" لا يستطيع أن يعيش من دون أميرة "نبيلة"، تكون جميلة، رشيقة، هيفاء وممتلئة نعمة. فكارلا بروني، "مرت الرئيس ساركوزي"، هي الصيغة الجديدة من الأميرة ديانا، التي "أضفت ألوانًا جميلة" على السياسة، كما يحبّ المعلقون والمتحدثون تبرير درّ لعابهم المشتهي على هيئتها الشهية (عذرًا على السقوط في فخ التعقيب الجنسويّ، فقد قتلني الجّناس!).

وتزداد مركزية وأهمية بروني في هذه الأيام إلى درجة تحوّل ساركوزي إلى "جوز بروني"، ومع أنّ هذا يحمل عزاء الانتقام الحلو بعض الشيء للنسويات (تعريف الرجل بواسطة زوجته)، إلا أنه لا يبشر بالخير: فتسليط الأضواء على قدّ بروني المشدود نحو السماء، وتجاهل قدّ ساركوزي المشدود نحو الأرض (فعليًا ومجازيًا) يُعيد الثقافة السياسية إلى ثقافة "القصور السلطانية" التي كان "الحرملك" يلعب فيها دور الريادة في الطبخ والنفخ والشلخ.

نحن من أنصار اندماج النساء في السياسة بنسبة 50% لا أقل (على الأقل)، مثلما حدث في الحكومة الإسبانية مؤخرًا، ولكننا ضد تحويل سيقان "مرت الرئيس" وفستانها ذي الصرعة الأخيرة (الذي يصرع الملايين) إلى محور التصريحات والتغطيات الصحافية حول زيارة هي الأولى لرئيس فرنسي لإسرائيل منذ مطلع الثمانينات، رئيس يميني "خرج من الخزانة" بصوت مُجلجل، وينافس جورج بوش بجدارة. بروني تُجمّل ساركوزي، وساركوزي يتربّص بنا.

زيارة ساركوزي هي خطوة أخرى في إعادة أوروبا إلى سرير "الصراع السياسي في الشرق الأوسط" وأنا أعتقد أن هذا السرير الخاص بالصراع يجب أن يظلّ مركز التغطيات والمتابعات، بدلا من السرير الرئاسيّ.

الغرب الأمريكي في النقب

صدّق الكنيست الإسرائيلي، الثلاثاء، بالقراءتين الثانية والثالثة، على "قانون درومي" الذي يمنح صلاحية لكلّ صاحب مُلك أو بيت بقتل أيّ سارق أو مُقتحم لبيته أو لمُلكه. ومع أنّ مُشرّعي القانون يختبئون من وراء الادّعاء بأنّ القانون ليس موجّهًا ضد العرب، بل هو عام وشامل لجميع المواطنين، إلا أنّ تجارب أخرى في أماكن أخرى من العالم تُفنّد هذا.

فجهات قضائية عربية محلية قالت في تقييمها للقانون إنه يُذكّر بما كان يحدث في أمريكا مع المواطنين السود، حيث كانت تُشرّع قوانين أمريكية "جنائية" ضد ظواهر معينة يعرف الجميع أنها محصورة بالأساس في المواطنين السود دون غيرهم. وهذا يرتبط بـ "قانون درومي" الذي سُنّ خصيصًا لمزارعي النقب من اليهود، ضد مواطني النقب العرب.

الخطورة الكامنة في هذا القانون هو تحليله للاعتداءات، بحيث تُمنح الرخصة للقتل بيد كل من يرغب، خصوصًا أنه من الصّعب الاثبات أو الدحض في المحكمة أنّ شخصًا ما قُتل حاول أو لم يحاول السرقة. وتتضح خطورة وانفلات هذا القانون عند مقارنته مع مبدأ الدفاع عن النفس في المحاكم الجنائية: فالدفاع عن النفس لا يُقبل في المحكمة دائمًا وأوتوماتيكيًا، بل يُسأل القاتل عن الظروف الخاصة وعن التهديد المباشر على الحياة وهل كانت طريقة الصّد نفسها معقولة؟ هذا غير موجود في القانون الجديد، وعلى كل واحد منا أن يبدأ بالخوف قليلا من هذه الرخصة المفتوحة للقتل.

من جهة أخرى، لم تبحث الحكومة والكنيست عن أساليب للقضاء على مُسبباب السرقات، وهي الفقر المدقع وسلب الأراضي وهدم البيوت وإفقار النقب عنوة لحمل أهله العرب على الرحيل منه كما ترغب الحكومة، بل فضل الكنيست الإسرائيلي أن يتغاضى عن كل هذا وأن يمنح اليهود والمؤسسة أداة حرب أخرى ضد العرب البدو في النقب، إلى جانب الأدوات الهائلة التي تُستخدم ضدهم اليوم للضغط عليهم وترحيلهم.

هذا ما يقصده الجميع حين يقولون إنّ إسرائيل دولة ديمقراطية لليهود ويهودية للعرب.

السبت، 14 يونيو 2008

ربيع الخريف


تكاملت الصورة المسرحية في أداء الممثلين حيث أنتج الثلاثة في حضورهم التمثيليّ-الأدائيّ وفي حضورهم الشخصيّ "العُمْريّ" عملاً مسرحيًا غير عاديّ هو "قصة خريف"، آخر إنتاجات "الميدان"





أوراق الشجر اليابسة المُصْفرَّة تتكوَّم على أرضيّة الخشبة مَشهدًا بَعدَ آخر، حتى تتحوَّل أرضية الحديقة العامّة التي تجري فيها الأحداث إلى أرضيّة خريفيّة ملأى بالأصفر والبنيّ الخريفييْن. إلى هذا تنضمّ الإضاءة الذّكية الماهرة (فراس روبي) التي تتقدّم وتتراجع وفق الموقف ووفق المشهد، راسمة بعناية كبيرة، إلى جانب التصميم الفضائيّ (نزار أمير زعبي)، أكثر التصميمات السينوغرافية إتقانا وسطوعًا التي رأيتها على خشبة "الميدان" منذ 15 عامًا وتزيد (أتذكر هنا أيضًا "حارق المعبد" و"أكسدنت موت الفوضوي" و"رابطة دم").


إلى جانب هذا، تكاملت الصّورة المسرحيّة في أداء المُمثلين مكرم خوري وسلوى نقارة وسليم ضو، الممتازين، حيث أنتج الثلاثة في حضورهم التمثيليّ-الأدائيّ من جهة، وفي حضورهم الشخصيّ "العُمْريّ"، من جهة أخرى، عملاً مسرحيًا غير عاديٍّ هو "قصّة خريف" للكاتب الايطالي ألدو نيكولاي، آخر إنتاجات "الميدان".


فالتقاء ثلاثة من مُخضرَمي مسرحنا الفلسطينيّ المحليّ أفرز مستوًى جديدًا لم يحدث أن حظينا به (رغم التجربة الأولى والأخيرة التي جمعت أكبر قدر من هذا الجيل وهي إنتاج "الميدان" الأول "الملك هو الملك")، لا نقول إنه عتّم على إنجازات الجيل الجديد في أعماله المتميّزة ("حارق المعبد" و"رُكب" آخرها)، بل نقول إنه رسم مُميّزات جديدة للحضور المسرحيّ لم نعتَدْ عليها في إبداع الجيل الجديد (وجيل الوَسَط) من مسرحيينا مؤخّرًا (علي سليمان، عامر حليحل، لنا زريق، آمال قيس، أشرف برهوم، محمود قدح، خليفة ناطور، روضة سليمان، وغيرهم).


ولا شكّ في أنّ رؤية خوري ونقارة وضو (بانتظار يوسف أبو وردة ومحمد بكري وغسان عباس وغيرهم) على خشبة واحدة هو أمر ليس بالعاديِّ في المشهد المسرحيِّ الذي اعتدنا عليه، وعلى هذا يستحقّ "الميدان" تحية، خصوصًا في ظلّ وعي إدارته الكبير بأنّ المعادلة لا تكتمل إلا بحِرفيّين من جيل اليوم، لا يقلّون مهارةً وقدراتٍ عن جيل المُخضرَمين.


نصّ هذه المسرحية مَتين، إلا أنه صعبُ المراس، منزلق المنحدر. فهو مُنْبَنٍ على شخصيّات ثلاثة مُسنّين، رجليْن وامرأة، يمتهنون قتلَ الوقت في البستان العام بانتظار الموت. حواراتهم غير مُتميّزة ظاهريًا، تبدو مُملة للقارئ العاديّ لا شكّ ومليئة بالرّغو واللغط الشيخوخيّ، ومن هنا كانت مهمة بناء الحالة المسرحية من خلال هذه الحوارات مهمة شاقة، تستوجب الفطنة والذكاء في ترقّب وتبيان الفعل المسرحيّ الكامن في المشاهد وفي الشخصيات. فالأفعال المسرحية التي في النصّ، رغم ما يمكن أن يوحي به النصّ ظاهريًّا بالخمول والرتابة والاجترار، هي أفعال كبيرة، جوهرية، شديدة التعقيد والعمق، من حيث أنّ هذه الشخصيات الثلاث تحارب الموت (والنسيان والإهمال ومَقدم الخريف)؛ وهل هناك فعل مسرحيّ (وحياتيّ) أكبر من هذا، أجمل من هذا، لبناء الدراما؟


واستقراء الفعل المسرحيّ كأداة أساسية لبناء الدراما هي المهمة الصعبة التي تمرّس بها المخرج نزار أمير زعبي منذ "الجدارية"، مرورًا بـ "بين حرب بين" و"حارق المعبد". فزعبي هو فنان إخراج الحوارات بلا منازع، وأعتقد أنّه الأول في هذا المجال لأنه يفهم أكثر من غيره من المخرجين والمُمثلين معنى الفعل المسرحيّ وكونه العنصر الأول والأخير في البناء المسرحي (وهذا ما يجب أن يفهمه كُتاب المسرح، أيضًا، قبل المخرج).


سليم ضو يؤدّي دور المُسنّ الغاضب، المغلق أمام المشاعر (في دور كوميدي-تراجيدي خلاب)، في مواجهة مكرم خوري الذي يؤدّي دور المُسنّ المُحبّ، فيما تلعب نقارة دور المُسنة التي لا تزال متشبثة بالحياة، بتصميم شعرها عند الكوافير، بالطبخ، بإطعام القطط. على هذه التناقضات انبنت الشخصيات وبرع الثلاثة في بناء شخصيات مسرحية متميزة، لكلٍّ منها النمط واللون اللذيْن يميّزانها، مما خلق حالة مسرحية غاية في الغنى والتنوّع جعلت من كل شخصية على الخشبة عالمًا مُتكاملاً، يختلف عن الباقي، لكنه يلتقي معهم في الأمور "الكبيرة"، في نقاط التّماس الوجوديّة التي لا مفرّ منها- تمامًا كما في الحياة.


هل الخريف المجازيّ-الفعليّ الذي تتمحور فيه مسرحية "قصة خريف" هو خريفنا الواقعي الآن، ثقافيًّا وسياسيًّا؟ مهما تكن الإجابة على هذا التساؤل، فإنّ إنتاج "الميدان" الجديد يجسّد ربيعًا ما في "الميدان" ومسيرته، تمثل في جمع نجوم ومخضرمي المسرح العربي الفلسطيني في البلاد مع طاقاته الجديدة. هذه خلطة متينة أنتجت مسرحية متينة، لتكون مسرحية "قصة خريف" برهانًا جديدًا على صحة الطريق الجديدة (الصعبة، الشائكة، الطويلة، الضبابية) التي خرج فيها "الميدان" مؤخّرًا، المُتمثلة في إعادة الكوادر المُؤسِّسة وتجنيد الكوادر الجديدة من أجل خلق حالة مسرحية-ثقافية أهم ما فيها التبادل المستمرّ إلى جانب الاستفزاز والتحفيز الكامنيْن في التقاء جيليْن مختلفيْن، يودّ كلّ طرف منهما أن يُثبت للآخر قدراته وطاقاته.


إذا لم تكن هذه الخلطة هي التعبير الأمثل عن شعار "بيت الفنانين"، فأنّى يكون التعبير؟


ألبوم خالد جبران الجديد: جسر إلى الكشف


"بريدج" (جسر) هو العنوان الذي اختاره الموسيقيّ خالد جبران للألبوم الجديد الذي يصدر بتوزيعه، مختارًا فيه ثمانية ألحان معروفة وغير معروفة للجمهور ليُمعن فيها توزيعًا وإعدادًا جَعَلا الاستماع إلى هذا الألبوم رحلة اكتشاف جديدة لهذه الألحان، لهذه الأغنيات.


فالاستماع إلى "مرسال المراسيل" (ألحان فيلمون وهبة) أو "لا عيوني غريبة" (ألحان وديع الصافي) في هذا الألبوم لا يعادل الاستماع إليها مُغنّاة من فيروز والصافي؛ فجُبران يُخرج هذين اللحنين من رتابة ما قد أسمّيه "الحبّ العاديّ" للألحان وللأغاني المألوفة والمُحبَّبة، نسمعها في البيت أو في السيارة أو أثناء حفلة عرس، ويأخذهما إلى منطقة "الحبّ الكشّاف" (إغفروا لي فلسفتي المصطلحيّة)، أي ذاك الحبّ الكامن فيكَ (عن معرفة سابقة) إلا أنه يكشف وينكشف من جديد، وهو بهذا يُنسيك "الحبّ العادي" الأول.


هذه فعلة ليست بالهيّنة في أيامنا هذه، التي تحكمها الرتابة، رغم وهم التعددية الإعلامية والمضمونية الهائلة (كم موقع إنترنت وقناة تلفزيونية يمكن للمرء أن يشاهد في اليوم؟). وبالتالي، فإنّ ما يمكث في هذا الألبوم، ما يجعله غير عاديّ وجديرًا بالتأمل والالتفات، هو خروجه على الرّوتين والمألوف، إن كان من ناحية اختيار المقطوعات وإن كان من ناحية وضع توزيعاتها الجديدة.


وعدا عن المقطوعتين سابقتي الذكر، ففي الألبوم ستّ مقطوعات أخرى هي: "شدّ الحزام" لسيد درويش؛ "إم الخلخال" لمنير بشير؛ "يا ميت مسا" (فولكلور)؛ "واه حبيبي" لجيوفاني بيرغوليزي؛ "سماعي شدّ عربان" لجميل الطنبوري؛ و"ارتجال" لخالد جبران. ما يُميّز هذه الاختيارات هو أنها غير "تجارية"، أي أنها غير معروفة لعامة الناس -وأنا منهم- في الموسيقى. فـ "يا ميت مسا" و"سماعي شدّ عربان"، مثلا، لا تقولان لي شيئًا كإنسان غير مثقف موسيقيًّا، ولكنّ الاستماع إليهما في سياق هذا الألبوم يجعلانهما جزءًا من عمل متكامل أتكئ فيه على ما أعرف وعلى ذاك الذي يتكشف لي أثناء الاستماع.


وأنا قد استمعت إلى الألبوم هنا (يعني فلسطين التاريخية) وفي القاهرة، حيث أردتُ أن أختبر تأثير المكان على الاستماع، خصوصًا وأنّ التوزيع الموسيقي في الألبوم يطغى عليه الطابع المصريّ الجميل المتجسد في الأكورديون والكولة (المزمار المصري من عائلة الناي) والربابة. ومن محاسن هذا الألبوم أنني تعرفت على الاسم الحركي لآلة "الكولة" (المزمار- كما كنت أسمّيها جاهلا مَرضيًّا)، وتعرفت عن طريق الإنترنت على بعض عازفيها المشاهير (هكذا كتبوا) أمثال عبدالله حلمي وابراهيم كوالة والمغربي زروال.


هذا الألبوم هو دعوة للخروج عن النصّ، عن النمطيّ والمألوف. إنه بهذا مغامرة شيقة لمن يحبّ كسر الروتين (الموسيقيّ) ومغامرة قد تكون صعبة وشاقة على من لا طاقة لديهم للتعرف على آلة جديدة أو توزيعة جديدة لأمر خبروه- وهم الخاسرون.


(قلتُ إنني استمعتُ إلى الألبوم في القاهرة لكنّني لم أجد القاهرة (التي أحبها حبًّا شديدًا)، لا في الألبوم ولا في القاهرة، فهي غارقة في المستورَد والسّريع، والكولة لا تُسمع فيها ولا الأكورديون ولا الربابة).

الجمعة، 6 يونيو 2008

مات فؤاد، عاش فؤاد!


مات فؤاد.

اختار جسده أن يرتاح من العلاج المنهك المتواصل، ولكنني أخاله أراد الارتياح من الأمل الزائد، من الأمل اليائس.

خمسة وثلاثون عامًا مرّت ضاحكة، على وجه فؤاد. كان يتصل من مرة إلى أخرى، أو يبعث إيميل: سمعت آخر نكتة؟ وكنا نضحك ونتواعد على نكتة جديدة، من دون ميعاد. كان يغيب أحيانًا سنة وأكثر، وكنتُ أغيب سنة وأكثر، ولكن اللقاء كان دائمًا استمرارًا مباشرًا، من دون تكلف، للقاء السابق: "كيفك يا رفيق؟.. صرت أنصح مني.."

كان فؤاد مُعدِيًا بمرحه، وأحيانًا مُثيرًا للغيظ: كيف يمكنك أن تكون ضاحكًا هكذا، باسمًا، مُحبًّا ومحبوبًا، دائمًا وبلا توقف؟ لماذا نحن لسنا مثلك؟ هل لأنّ أجسادنا معافاة (نسبيًا) فلا وقت لشكر الآلهة على كلّ يوم جديد من دون ألم، من دون يأس؟

المئات من الوجوه في جنازتك أعرفها، بعضها ظلّ معي وظللتُ معها، والكثيرون تفرّقوا أيدي فلسطين، فلا أذكر إلا وجوهًا سهرنا معها ليلة، أو تلك التي عرّفتني عليها في لقاء شارعيّ عابر (ضاحكٍ طبعًا). جاءوا كي يقفوا جميعهم أمام كنيسة الأرثوذكس في الرملة ينتظرون الموكب (كعادة "الغُربيّة") وأعتقد أنّ جميعهم كانوا يتساءلون، بطريقة ما، حول قدرة فؤاد على جمع هذا الخليط الغريب العجيب، الكبير الغنيّ، من حوله، من دون أن يخدش للحظة هرمونيا الحياة من حوله.

أذكر منك الآن صورة واحدة تلحّ عليّ: كنا خمسة أو ستة، شبانًا وصبايا، قبل أكثر من عشر سنوات، حملنا أمتعتنا ويمّمنا شطر إقرث ذات ليلة صيفية (بطلب من صبية إقرثية في المجموعة كبس عليها الحنين، هل تذكرها؟ ماذا جرى لها؟ هل أنصفتها الدنيا كما ظلمتك؟). أشعلنا موقدًا أمام الكنيسة العتيقة وشوينا اللحم وشربنا ما تيسّر من عرق رام الله الشهيّ المُبارك، وكنتَ تمسكُ بالعود الذي أحببتَه وتُصرُّ على أن تغنّي للشيخ إمام، بينما كنا نحن (سكارى، عرابيدَ) نطلبُ منكَ أن تغني "سيرة الحبّ" (ما أتفهنا!). كم كنا سخفاء ونحن نقمع عودَكَ، وكم كنتَ عبقريًا حين أجبتَ قبل أن تبدأ بعزف "سيرة الحب"، راضخًا: "بس تصحوا رح تترجّوني أعزف الشيخ إمام".

في فجر ذاك اليوم الإقرثي عزفتَ لنا "واه يا عبد الودود" وكنتُ أنا أغلي القهوة الصباحية الحلوة وأتأمّل الجليل البرتقاليّ المصبوغ بحياء الشمس. في تلك اللحظة أتذكّركَ، تغني لعبد الودود، والجميع نيام من حولنا، ولم أكن (لغبائي) أعرف بتعقيدات جسدك المزمنة، بتفاصيل الكبد والكليتيْن، ببدء العدّ التنازليّ. هل لو عرفتُ وقتها كنتُ سأقول لك جملة تودّ أن تكون حكيمة في ذلك الفجر الجميل؟ لا أعرف، ولكنني أشكر حنين رفيقتنا إلى قرية جدّها وجدّتها الذي منحني هذه اللحظة الناصعة كي أتذكرك فيها دائمًا.

الآلاف مشت وراء فؤاد في أزقة الرملة وفي شارعها الرئيسيّ. للحظة تخالُ نفسك في مظاهرة: الشرطة تنظم السير وألفان أو أكثر من العرب يمشون في الشارع "اليهوديّ" الرئيسي في مدينة تريد طمس أهلها العرب الأصليين. هذه مظاهرة فؤاد، جمع الآلاف كي يغلقوا الشارع في مدينته ريثما ينام نومته الأخيرة في المقبرة، المُطلة على الشارع الرئيسي.

فؤاد سيحرس الشارع الرئيسي في الرملة من الضياع، ونحن سنحرس ما تبقى من طاقة كي نعود إلى مشاغلنا وننتظر بقلق موت صديق آخر، خانه جسدُه أو خانَ جسدَه.

مات فؤاد، عاش فؤاد!

الأحد، 1 يونيو 2008

هنا قديتا، هل تسمعونني؟


يتقاسمون في هذه الأيام أرضَ قَدّيتا: هواةُ الطبيعة يُريدونها لهم، بلا كهرباءٍ أو حضارةٍ، وآخرونَ يُريدونَ أرضَها كي يصنعوا نبيذًا جليليًّا أنيقًا؛ وآخرون يأتونَ مِن مُنطلقاتٍ صهيونيةٍ لا غيرَ. وقدّيتا، قرية جدّي المُهجرة في 1948، لا تفهم عَلامَ الخلاف؛ فمن موقعها في أعالي الجليل، مُطلّة على الجشّ ورميش ومارون الراس، لا زالت تحتفظ بآبار المياه أمام عتبات البيوت، ولا زال عنّابها وتوتها مَضربًا للأمثال، ومَسرحًا لأحاديث العشق الخَجِلة.

في كلِّ ذكرى للنكبة تُلحُّ عليَّ قدّيتا. في السّنة الأخيرة بدأتُ العمل على موقع ثقافي سياسي يحمل اسم "قدّيتا"، كي تحضُرَ قريتي في العالم الافتراضيّ الشّبكيّ، كتعويضٍ (مرحليٍّ؟) عن حضورها الجسديِّ الغائب، أو عن حضورنا الجسديِّ الغائب.

لم يكن جدّي مُتحدثًا عظيمًا. كان يَرُونُ إلى صمتِهِ طيلة الوقت، جالسًا على الشرفة المُطلة على قرية لجوئنا، الجشّ، وينظر نحو الأفق بلا كلل. لم يُجلِسْني يومًا على ركبتيْه وأنا صغير ليحكي لي عن قدّيتا التي تركَها وبعضَ أبنائه وقتِها، ليرحلوا إلى عَكْبَرَة، المُهجَّرة بدورها. أهلي المُهجّرون لجأوا إلى قرية هُجِّرت قبل قريتهم بأيام، ليسكنُوا بيوتَ أهلها المَقتولين أو الهاربين. هل هذا أفضل من أن يسكُنُها يهود؟ هل يُخفّف هذا من حدَّة الألم، أم أنه يَزيدُهُ لأنّ "ظلمَ ذوي القرابةِ أشدُّ إيلامًا؟"

كنتُ أعرفُ أننا لسنا من الجشّ، وأنّ قدّيتا موجودة في مكان ما. كان الصّغار من عائلتي (الكبيرةِ المَديدةِ، الحاضرةِ في سورية ولبنان والأردن) يقضون أماسيهم الصيفيّة في قدّيتا، يقطفون التوت والعنب والتين، ويَحكُونَ عن "فَرْكَش"، ذاك اليهوديّ قاسي القلب الذي جاء واستوطن في الأرض الحُرجيّة المجروحة. صار "فَركش" لنا كابوسًا مرعبًا، رغم أنني لم ألتِقِه إلا مرة واحدة. مرَّ من أمامِنا ونحن نلعب البنانيرَ، وأشار أحدهم بخوف إليه، قائلا: "فَركش.. فَركش"! اختبأنا فورًا. كان شعرُهُ طويلا جدًا، أشعثَ، ملابسُه رثة ويتكئ على عكّاز خشبيٍّ طويل، يتبعُه كلب كبير هرم لا يبشّر بحسن نيّةٍ تُذكر. بعد أن مرَّ قال أحدُهُم إنه يضربُ الأطفالَ العرب الذين يذهبون إلى قدّيتا، لأنه يخاف أن يُتلفوا الطبيعة من حوله. سألتُ بما لم أكن أعيه وقتها بما يكفي: "ليش إحنا مِنخرّب الطبيعة؟"...


* * *

أنا من فئة "النازحين"، أي الذين هُجِّروا من قراهم في النكبة، ولكنهم ظلوا في نطاق الدولة التي قامت، فيما ينحصر لقب "المُهجّرين" على أولئك الذين غادروا الوطن، فبقوْا خارج الحدود. لطالما فكّرتُ، ونحن نصرخ بحقِّ العودة، نكتب عن حقِّ العودة، نقسم بحقِّ العودة، فيما إذا كنا –النازحين- جزءًا من هذا الحقّ أم لا؟ هل سنعود يومًا، أم أنّ العودة ستنحصر في اللاجئين، ضمن اتفاق سياسيّ عمليّ، يُعيد الجيل الأول المُهجَّر إلى قرى الضفة الغربية، كي يموتوا بسلام؟ وهل مات جدّي بسلام، حين دفنّاه في تراب الجشّ، ولماذا لم يُوصِنا بدفنه في تراب قدّيتا؟ هل كان يخاف "فركش" مثلنا؟

أتطلّع إلى عُمري، ابن النصف سنة، ابن أخي، وأبتسم له. لاجئٌ ابن لاجئٌ. عفوًا: نازحٌ ابن نازحٌ. أمه نازحة أيضًا، من البروة. إلى أيِّ عالم قدمتَ يا عمري، والمعاني كلها فُقدتْ، والأسئلة كلها نفدتْ؟ هل ستعني لك الذكرى الثمانون للنكبة شيئًا؟ أحملكَ وأدورُ بكَ في جنبات الشرفة الكبيرة في بيت جدِّكَ. قدّيتا على مَبعدِ عشر دقائق ولكنها بعيدة أكثرَ من أيِّ حلٍّ في الأفق. أُرقّصكَ على ذراعيَّ قليلا، فتشعرُ بالغبطةِ. أيةُ أغانٍ يُغنّون للجِّيل الرابع للنكبة في ذكراها السِّتين؟ لماذا لم يقولوا لنا في مناشير الدعوة للمَسيرات والاحتجاجات أيةَ أغانٍ علينا أن نُغني للجيل الرابع للنّازحين، ونحن نُرقّصهم على شرفات ريفية جليلية تُطلُّ على ما تبقى من ذاكرةِ جُذورهم؟


* * *

لا أشعر بما يُفترَض أن أشعر به في الذكرى السِّتين للنكبة. أستيقظُ كالمعتاد، أنامُ كالمعتاد، أقرأ قراءاتي كالمعتاد. أتابع تعبَنا الفلسطينيَّ الذي أريق بين الضفة وغزة على شاشات جُثثنا، وأبحث عن بُقع الخزي والعار التي على بلوزتي. هذه بقعة من غزة، وتلك من رام الله، وهذه من القصبة في نابلس. أسرع في لهاثي بين الغرفة والصالة كي لا أفوَّت بداية النشرة الإخبارية على "الجزيرة". أريد أن أعرف كم قتيلا وقع اليوم في غزة. ولكنّ "الجزيرة" تبدأ بقتلى بيروت. هل يصحّ يا بيروت؟ أن تسرقي الخبر الأول منا في الذكرى الستين للنكبة؟ أين التضامنُ يا بيروتَ؟؟

لستُ سعيدًا بأنني فلسطيني. هل يمكن أن أقول هذا من دون أن تنهال البيانات على رأس هذا المتساقط المتخاذل الإنبطاحيِّ؟ ولكنني لست حزينًا كذلك. أعتقد أنني لا مُبالٍ، في هذه الأيام. أي أنني بيْنَ بيْن. لا "أتشاءَلُ" ولا "أتفاءَمُ". هكذا، عاديٌ. عاديٌ جدًا. أنا فلسطيني من دون شعور خاص، في الذكرى السِّتين لنكبتي. أبحث عن مواطن الألم في جسدي فلا أجدها، أبحث عن مواطن الغضب فلا أجدها، ولا أجد في جسدي مواطنَ للفخر أو للعار أو للأمل أو للتشاؤم أو للحبّ أو للكراهية أو للحنين أو للبلادة. لا أجدُ شيئًا.

أتأمّلُ تصميم موقع "قديتا. نت" الذي لم يُنشر على الويب بعد، وأبتسم. هنا قديتا. من قلب عكا الساعية إلى صيف مُلتهب. هنا قديتا. لا أسمع أحدًا في الذكرى السِّتين لنكبتي، فهل تسمعونني؟