الأربعاء، 30 سبتمبر 2009

ثرثرات فوق السور (2)

  • استمعت اليوم (الأربعاء، 30 أيلول) إلى مقابلة إذاعية أجرتها "ريشت بيت" (الإذاعة الإسرائيلية الرسمية) مع رئيس لجنة المتابعة، محمد زيدان. الحقيقة أنّ المقابلة كانت مخجلة في جميع نواحيها: في عبرية رئيسنا الضحلة، في أفكاره المبعثرة، في شعاريّاته السطحية، في تعميماته المعيبة، منها أنه قال: "نحن مع الاندماج الكامل في المجتمع الإسرائيلي". عفوًا؟ هل يمكن أن تعرف "نحن" و"اندماج" و"مجتمع إسرائيلي"؟ لقد أتى تعيين زيدان رئيسًا للمتابعة منعًا للتصدع في اللجنة (المتصدعة) في الصّراع على تعيين رئيس "إشكاليّ". هذه التسوية تستأهل مثل هذا الرئيس. دمتم ومات الوطن.
  • أصدرت "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة" نشرة حزبية وزعتها تحت عنوان "باقون بكرامة وحقوق" تروّج فيها للإضراب العام يوم غد (الخميس، 1 تشرين الأول). خطوة ممتازة ونحيي مثل هذه المبادرات، وحبذا لو أنها صدرت عن أحزاب أخرى ثانية (لم أنكشف على غيرها حتى الآن). ولكن ما يثير الابتسام أنّ "الجبهة" بالذات، التي كانت ضد الإضراب في ذكرى هبة أكتوبر بشكل منهجيّ ومثابر في السنوات الأخيرة، لم تكتفِ بتبنيه هذه السنة بل أصدرت نشرة خاصة به. لا تهدِ من تحبّ إن الله يهدي من يشاء.
  • في 8 تشرين الأول القادم، الخميس، في الساعة 19:00، سيُعرض فيلم إيليا سليمان المتين، "الزمن الباقي"، في مهرجان الأفلام الدولي في حيفا. رُوحوا...
  • ليش الصياد ما ببوس الغزالة؟ (من يوميات نباتيّ)
  • مطلوب: غرفة صغيرة للكتابة. مواصفات: من 2×2 حتى 4×4. في عكا أو حيفا. طاولة وكرسي ونقطة كهربا. باب وشباك. المبلغ المقترح للايجار: حتى 300 شيكل (أحسن ببلاش). من يوفر لي الغرفة سأكتب له شكرًا في الرواية التي أعمل عليها (غسان بيرومي: بعدني بستنى). من شان النبي!!
  • حقيبةُ الكحل والزينةِ والأسرارِ الشهريّة/ على الكتف/ شفتانِ غليظتان في دوّارِ المنارة/ الأولادُ تمنَّوا الموتَ في شوارعِ تل أبيب/ النساءُ شتمنَ حظهنَّ العاثر/ وكلَّما مرت،/ يحترقُ الفلافلُ في الزّيت/ وينسى الحلاقونَ مقصّاتِهم على الرؤوس/ وتطيرُ مخيّلاتٌ فاسقة في شارع رُكَب. (قصيدة "مرور"، وليد الشيخ)

السبت، 26 سبتمبر 2009

السائح الجوّالي، عند نقطة تشارلي

"تشارلي تشيكبوينت". يتسخم!


أحسست بقليل من الخزي حين تداعى إلى ذهني أنّ هذه ستكون زيارتي الثانية إلى برلين، عاصمة فرحي الخريفيّ. كنتُ أنظر عبر شباك الطائرة إلى الأسفل حين قررتُ أنني سأتعامل مع نفسي بجدية هذه المرة وسأقوم بجولة سياحية في المدينة، كما يليق بأيّ كاتب يدّعي الفضول وحبّ المعرفة، ولن أقضي هذا المهرجان (أيضًا) في "خيمة الكُتاب (والكاتبات)"، أشرب النبيذ وأدخن السّجائر وأحرق عرض جميع الكتاب العرب الذين لم يُدعوا إلى المهرجان، أنا وجميع الكتاب العرب الذين دُعوا إلى المهرجان.

وشاءت الصدف أن تكون محطة انطلاق الحافلات السياحية في جولتها في المدينة لصقَ فندقي إلا "شربة سيجارة"، وكنتُ قد اهتديت إليها وأنا في جولتي الأولى بعد الوصول بساعة، إذ أنني أحبّ أن أكتشف في المدن مراكز الطوارئ التي يمكن اللجوء إليها بعد الواحدة ليلا: أماكن بيع التبغ والكحول. كنتُ فخورًا بقراري السياحيّ الجريء وقد تناقشتُه مع بعض الرفاق في "خيمة الكُتاب" في المهرجان، فاستحسنه الجميع وأثنوا عليّ إلا أنّني لم أجد فردًا صمدًا منهم يقبل بالقدوم معي. قلتُ في سرّي إنني أشكر الآلهة أنني لم أخلق مثل باقي الكُتاب، كسولا ومُحبًا "للتبحيط" (التبحيط: التصاق الطيز بأيّ جسم ثابت على الأرض والتوقع بأن يمرّ العالم كله من أمامك)، وأنني لا شكّ إنسان متميز وهبته اللات والعزة موهبة الكتابة والإبداع ولم تسرق منه نشاطه وحيويته وانتباهه إلى الأمور الأخرى في العالم غير القراءة والكتابة (سنتناسى للحظة المرة الـ 674 التي قررت فيها آخر سنة البدء بحمية طعام، ومعهد اللياقة الذي انضممت إليه قبل شهر ولم تطأه قدماي بعد وإصراري على التدخين وصعودي في الوزن وعزوفي عن النشاطات الاجتماعية وتفضيل الوحدة (بفتح الواو) على الوحدة (بكسر الواو)).

إستيقظت في التاسعة صباحًا ونزلتُ إلى الإفطار. وجدت حسن وسليمان ومحمود وعلوية. ورغم تبجّحي مجددًا بجولتي المباركة إلا أنّ تصريحي ضاع وسط مناكفات حسن وعلي، وبين تبرمات علوية من الألم في ظهرها وإصرار سليمان على أنّ العرب أمة أَمَة. قلتُ يا ولد ما لك إلا نفسك، وعليك بها إن كنتَ لها، فقمت واستأذنت ويممت شطر الحافلة السياحية، بعد أن حملت حقيبتي السوداء وملأتها بالماء والسجائر وكاميرا الفيديو ومحفظتي المحشوة بعشرين يورو وبعض الفستق وورقة عليها عنوان “h&m” لشراء الملابس لدُشّة التي على الطريق.


تشارلي نكبتنا
نقدتُ الموظفة التي تقف إلى جانب الحافلة 15 يورو عزيزة فبادرني السائق فورًا بإنجليزية متعبة: "أنت من إسرائيل"؟ تحرك الصدأ في مفاصلي وتنبه الفلسطينيّ المطارَد المعشّش في خلايا الشتات وقلتُ في نفسي: "موساد"! سألته عن سؤاله، فبرطم شيئًا بإنجليزية متحطمة وأشار إلى شعري. قلت: سأحلقه ابن الداعرة فور وصولي عكا!

تربعت في الطابق الثاني من الحافلة والهواء يداعب شعري، فأحسست بروعة قراري، رغم الازدحام الطلق من حولي والبرطمات بكل لغات بابل. تحركت الحافلة وبدأت المذيعة تنشد محفوظاتها عن برلين بالألمانية والإنجليزية تباعًا، وخُيل لي أنها تقرأ جملها التي تسابق الريح والتي تحفظها عن ظهر قلب، من كتاب بين يديها. وابتسمت أكثر وأنا أتخيلها تعيد الجمل المحفوظة عن ظهر قلب وهي "مُكرّة مُفرّة مُقبلة مُدبرة معًا" فوق جسد زوجها. هنا سفارة اليابان وهنا سفارة السعودية وهنا السفارة الإيطالية. بدأ "الآكشن" يزداد حين وصلنا إلى بنايتين كبيرتين متقابلتين قالت إنّ التي على اليمين كانت مقرّ الحكم في برلين الشرقية وتلك التي على اليسار مقرّ الحكم في برلين الغربية، والشارع الذي نسير فيه كان جدار برلين المشؤوم. وفجأة مررنا من قرب مقطع من الجدار لم يهدموه، بقي للذاكرة والتذكّر (ونحن لها!)، وفي نهايته تقاطع طرق صنعوا فيه نموذجَ الثكنة العسكرية الأمريكية التي كانت تسمى في السابق "حاجز تشارلي" (تشارلي تشيكبوينت)، وقد كانت المعبر بين برلين الشرقية والغربية أثناء الحرب الباردة وقبل إسقاط الجدار الخرائي.


شعرتُ بأهمية اللحظة وبثقل التاريخ يطحن كاهلي. وقد شاءت الصدف أن تتوقف الحافلة في نقطة استراحتها الثانية عند "تشارلي"، فهرعت بكاميرا الفيديو إلى الشارع وصورت الثكنة مع "زوم إن" فنيّ يعبر عن اختلاج مشاعري المتضاربة في صدري الذي لا يزال عابقًا بالدخان من سهرة الأمس. في طريق الالتفاف إلى الباص ثانية لمحتُ "كشك" يبيعون فيه قداحات مكتوب عليها "أحبّ برلين" فتذكرت حماي وأنه يحبّ جمع القداحات التي تحمل أسماء بلدان العالم، فدفعت له يورو ونصف اليورو ومشيت نحو الحافلة. لكنّ الحافلة كانت قد اختفت وعليها، في الطابق الثاني المشمس، حقيبتي التي فيها كلّ شيء؛ فسمعت أمي تصرخ من بيتنا في الجش: "راح الصبي"!


بلـّمتُ للحظة وبدأت بحساب الموقف بسرعة كما يليق بطالب سابق في قسم الحسابات: في جيبي ثلاثة يوروهات ونصف اليورو، في يدي كاميرا وفي يدي الأخرى قصفة زيتون، وأنا أمشي وأنا أمشي وأنا أمشي، ثم تحوّل مشيي إلى ركض متفائل إذ اعتقدت لوهلة أنّ الحافلة اختفت وراء الانعطافة القادمة ولا بدّ سألحقها لو أسرعت، فلما وصلت المفترق راكضًا لم أجدها لا عن اليمين ولا عن اليسار، ولم أشمّ لحظتها (رغم ضبط أنفي على مستوى حساسية كبير) بقايا الديزل في الهواء، فتوقفت حائرًا وتذكرتُ فورًا ابنتي "دُشة" التي ستولد بعد شهرين ونيف من دون أب، فأحسستُ بالبكاء سيغمرني إلا أنني تذكرت قول أبي وجدي وجدّ جدّي وجدّ جدّه، في مثل هذه الأوقات: "إجمد!"، فجمدتُ.


قوات التدخل السريع
وبعد أن جمدتُ، وقفت في الشارع وبدأت أشير إلى سيارات التاكسي. مرت أربع أو خمس حتى توقف تاكسي كانت تقوده امرأة. دخلت التاكسي وبدأت بسؤال سريع حول إذا ما كانت تعرف مسار الخط السياحي. نظرتْ إليّ بفرح غير مفهوم وبدأت ترطن بالألمانية. أعدت السؤال عليها فازدادت ابتسامتها وهي تعيد الحديث بالألمانية. قلت: أبسّط الموضوع. "إلى الفندق" طلبت منها، "فندق إلينغتون". سألتْ شيئا بالألمانية فأعدت: "فندق إلينغتون". سألتْ شيئًا آخر. كان على تلك اللحظة أن تكون اللحظة المناسبة والحاسمة كي أخرج من التاكسي وأسنفر بروحي باحثًا عمّن يفكّ الخط بالإنجليزية. ولكن ابتسامتها التي كانت ترافق تساؤلاتها الألمانية أشعرتني بالأمان وأنا في حرج من موقفي العسير، فبقيتُ.

من حسن حظي أن كرت الغرفة (المفتاح) كان في جيبي فأعطيتها إياه. نظرت إليه وصاحت مبتسمة "فندق إلينغتون!" وكأنني كنت أقول لها قبل لحظات فندق أبو العبد. كنت طوال الطريق إلى الفندق أجول بنظري في الشوارع، أراقب الحافلات السياحية التي تروح وتجيء بجحافلها، وكلما مرّت حافلة كهذه أحاول التركّز في وجه السّائق الذي يعمل في "الموساد"، إلا أنّ جهودي ضاعت هباءً، فاستسلمتُ وألقيت بجسدي على الكرسي الخلفي الوثير، وعملتُ بالحكمة الأثيرة: "إذا كنتَ غارقًا في الخرى، فتمتع بدفئه على الأقل"، وهكذا ارتخيتُ طيلة الطريق إلى الفندق ولم أفكر في مسألة محاسبة الرفيقة السائقة إلا عندما توقفت أمام الفندق.

أشارت السائقة إلى المرآة، فرأيت رقمًا بالأحمر يعلن: 10.6. استفسرتُ، فأعادت الإشارة إلى المرآة، ففهمت فجأة أنّ هذا الرقم الأنيق، الأحمر، الصغير الذي يلمع على طرف المرآة إلى اليسار السفلي هو العدّاد! "يحرق أخت المسرحية"، تمتمتُ بيني وبين نفسي، حائرًا بين أن أتعجب من ارتفاع الأجرة أو أتعجب من تقدم العلم والتقنيات في بلاد "شلايدين آخسين". أخرجتُ اليوروهات الثلاثة ونصف اليورو من جيبي وبدأتُ أصرخ على السائقة وكأنها صماء:


I will go to my room and bring you the money!


بدت السائقة متهيبة بعض الشيء من صراخي، ثم برطمت بعضًا من الألمانية فأعدتُ جملتي عليها، ولكنها ازدادت احمرارًا فازددتُ اخضرارًا (دائم الخضرة يا قلبي). في ثوانٍ انشحن الجوّ في التاكسي وبدأت أفكر في السجون الألمانية وهل هي متقدمة تكنولوجيًا مثل سيارات الأجرة، حين وجدت السائقة تسحب من يدي اليوروهات الثلاثة ونصف اليورو وتبرطم في وجهي شتيمة أعتقد أنّ ترجمتها إلى العربية يمكن أن تكون كالتالي (بتصرّف): "كس إم ربك يا منيك يا ابن المنيك!".


لم تسمح لي كرامتي الشرقية بمثل هذه البهدلة، خاصة من غربية-إمبريالية-مصاصة دماء الشعوب، فكنتُ على وشك أن أقتبس لها من كتاب "الاستشراق"، فعدلتُ حين تذكرت أنني لم أقطع سوى 100 صفحة منه نسيتها منذ سنوات، فأعدتُ يائسًا:


I will go to my room and bring you the money!


لم يبدُ عليها أنها تأثرت أو انفعلت، فحاولتُ بما تبقى من ماء وجهي وأنا أشير بأصبعي إلى أعلى، إلى سقف التاكسي:


Room! My room! Money, money…


حين ابتعدت التاكسي وأنا واقف في مدخل الفندق وأحد عاملي الاستقبال يقف وينظر إليّ بشماتة وهو يدخن سيجارته، أحسستُ بحزن كبير، فأخرجتُ في حركة سريعة البطاقة التي تحمل اسمي والخاصة بمهرجان الأدباء وعلقتها على صدري كيف يعرف هذا الأشقر الجميل من أنا وما أهميتي في السياق الثقافي المُعوْلم، وأشعلت سيجارة ووقفت إلى جانبه أبثّ دخانها بوقار. بعد برهة تذكرت: محفظتي! ما زالت في الحافلة!


(خلص تعبت، بعدين بكمّل...)


الجمعة، 18 سبتمبر 2009

"عجمي" والمرثية المفقودة


(تحذير: المقالة تكشف تفاصيل عن نهاية الفيلم والمفاجآت التي فيه، مما اقتضى التنويه)

يبهرك فيلم "عجمي" الجديد لحظة مشاهدته، ثم يصفعك، ثم تحتاج يومًا أو يومين كي تنجح في معالجته بهدوء وروية، خاصة بما يخصّ المقولة السياسية التي يخرج بها الفيلم. هو فيلم الازدواجية بجدارة: ازدواجية الإخراج (يارون شاني اليهودي واسكندر قبطي العربي)، ازدواجية التمثيل (ممثلون عرب ويهود)، ازدواجية التعريف (فيلم إسرائيلي-فلسطيني) وازدواجية المجتمع (يافا-اللد-الرملة-تل أبيب).

يطرح الفيلم قضية شائكة لم يسبق أن عُولجت بهذا الزخم في عمل سينمائي: وضع الفلسطينيين العرب في يافا (واللد والرملة) اليوم، واستحالة العيش في الظروف السياسية والمجتمعية التي أفرزها قيام دولة إسرائيل، بعد أن أدّت النكبة إلى قتل يافا واللد والرملة وتحويل هذه المدن من حاضرة مدينية ثقافية وسياسية إلى ضواحي فقر وجريمة، في الراهن الإسرائيلي اليوم. هي -إذا شئتم- تجليات النكبة بعد 61 عامًا: هذا ما قد يؤول إليه الفلسطينيون في إسرائيل وهذه هي المرآة التي ننظر من خلالها إلى مركز فلسطين التاريخي: بؤس وجريمة وضياع للمستقبل.

يتمحور "عجمي" في عدة قصص في مبنى كتابة سينمائي على نمط “mini plots”، أي الحكايات الصغيرة المتطورة لعدد كبير من الشخصيات، تجتمع كلها في تراكم حبكي نحو نهاية مكثفة لتصنع مقولة واحدة تراجيدية. لكن المشكلة الأساسية في الفيلم تتجلى في النهاية، حين تتضح معالم المفاجآت التي تحتويها: كنا نظن أنّ مالك (الشاب من الضفة الغربية) قُتل برصاصة من ضابط الشرطة اليهودي (داندن) لنكتشف أنّ من قتل بالذات هو الضابط برصاص الطفل نصري؛ كنا نعتقد أن "بينج" العربي قتله ضباط الشرطة بكبسية على بيته لنكتشف أنه مات بجرعة كوكائين (كريستال) زائدة؛ كنا نعتقد أنّ لا علاقة بين الجندي المخطوف (أخ ضابط الشرطة) وبين قصص يافا، إلا أننا نكتشف أن الساعة التي كان يود مالك أن يهديها لمشغله "أبو الياس" تتبع للجندي المخطوف الذي تُكتشف جثته لاحقًا.

هذه الانفراجات في الحبكة (من ناحية معرفية) تقود المشاهد إلى بعض الأسئلة الملحة: يبدو أن الشرطة تقوم بعمل ممتاز في يافا واللد والرملة، ويبدو أنّ الضابط هو إنسانيّ من الدرجة الأولى، رغم كلّ شيء. في هذا بعض التسطيح وأعتقد أن فيه رهانًا مغلوطًا من ناحية سياسية في الوضع الراهن، ولا يشفع للمخرجيْن أنّ الفيلم محبوك ومصنوع بمهارة عالية. فالسينما ليست وضعية الكاميرا وإتقان السيناريو والتصوير، فقط، بل هي –وربما بالأساس- المقولة التي من أجلها صُنع الفيلم؛ فيلم بلا مقولة هو ترفيه مصقول و"عجمي" ليس فيلم ترفيه على الإطلاق. لا يمكن الاختباء وراء الفنية العالية والجرأة الهائلة في الطرح الاجتماعي ولا يمكن الاكتفاء بمقولة: "ما بدنا كل شي ينحضر من مفهوم سياسي"، ولكن ما العمل والفيلم سياسي من الدرجة الأولى، شاق ويضغط على الجروح المفتوحة بألم.

في أحد مقاطع الفيلم يهبّ أهل الحي العرب للدفاع عن مطلوب للشرطة من حارتهم ويصدون التحريين، فيسأل أحد الضباط بيأس: لماذا يمنعوننا من اعتقاله؟ نحن نريد اعتقال مجرم يبيع المخدرات لأبنائهم؟... الجواب يأتي بسرعة من أحد الضباط في الجلسة: إنهم ببساطة يكرهوننا. وهذا صحيح مئة بالمئة: نحن نكره الشرطة الإسرائيلية؛ إنها شرطة عنصرية وقامعة وقاتلة وتتعامل مع العرب باحتقار وكراهية. الشرطي ليس "في خدمة الشعب" بل في خدمة قمعه والنيل منه. هذه هي الحقيقة الأساسية في الفيلم وأعتقد أنّ مخرجيْه فوّتا فرصة ذهبية في تطوير هذه الثيمة، ليفقدا القدرة على صوغ لائحة الاتهام الكامنة في جوهر الفيلم.

هل أحببتُ الفيلم رغم هذا؟ الحقيقة أنني أعيش ازدواجية قد يقع فيها الكثيرون، أيضًا. من جهة نحن نعلم أنّنا لسنا ملائكة وفينا المجرمون والقتلة والفتوّات، ومن جهة أخرى نحن نعلم أنّ يافا كانت ستكون أجمل وأبهى وأكثر تطوّرًا من تل أبيب لولا قتلها في عزّ شبابها. من هنا، لم ينجح الفيلم نهائيًا في كتابة المرثية المطلقة ليافا، ولكنه على الأقل بدأ بكتابة تأبينها. كان هذا التأبين سيكون أبلغ وأصدق لو أنه تركز في القاتل أكثر وربما، وعذرًا على الفظاظة، بصق في وجهه.

"عجمي" فيلم مشغول بحنكة وذكاء (رغم الحاجة إلى التقصير)، وخسارة أنه لم يُولِ المزيد من الذكاء والفطنة لأبعدَ مما تقتضيه اللقطات المؤثرة في أزقة يافا.


الجمعة، 4 سبتمبر 2009

ثرثرات فوق السّور

  • ينجح الفيلم الوثائقي "بلعين حبيبتي"، في مقاطعه الممتازة، في أن يُراكِم الواقع الفلسطيني العبثيّ إلى درجة اتضاح عبثيته. فالعبثية (الأبسورد) عصية على التعريف وعلى التجسيد بالوسيط المرئي-المسموع. فمجرد أن تقول إنّ هذا شيء عبثي يجعل العبثية تفقد طغيانها غير المنطوق به. عليك أن ترافق مسيرة "اللجنة الشعبية" في بلعين برفقة "اليساريين اللا صهاينة" والأجانب المتطوعين الذين حوّلوا النضال ضد جدار الفصل العنصري إلى قصيدة جديدة في ديوان "حالة حصار". المؤسف أن تستغل السلطة الفلسطينية و"فتح" نموذج بلعين للقضاء على المقاومة. نأمل ألا ينجحوا. حاليًا: "بلعين حبيبتي" هو شهادة حية لكلّ من يرغب في توثيق أحد جوانب القضية الفلسطينية على الأرض؛ فيلم متماسك في معظمه، محبّ للناس الذين يوثقهم ولا يخجل بعدم حياديته.

  • هل أنا الوحيد في العالم الذي انتبه إلى أنّ ولاية "أبي مازن"، قبّح الله "فتحَه"، انتهت منذ أشهر وأنه "رئيس" (قال يعني) غير شرعي؟ ولماذا لا يغرب هذا الشيء السّخيف عن فضاءاتنا؟ لقد وصل بي اليأس أنني اشتقت هذا الصباح إلى عرفات!

  • تلعثم "أبو الجار" حين فتحنا سيرة الصيام في المصعد. سألني عن الصيام فقلت له "تمام"، ولما سألته قال "برضو تمام". سألته لماذا لا يصوم؟ قال: "جربت زمان بس اكتشفت إنو الواحد يا بتديّن وبعمل كل الفروض يا بلاش". حييتُ صراحته وشجاعته، وقلت له كلامًا مشابهًا (تقريبًا؛ سأعفيكم من التفاصيل). حين هطلتُ في طابقي قلتُ بأوتوماتيكية عربية كلاسيكية: "تفضل". أجاب بأوتوماتيكية عربية متوجّسة: "مرة تانيه جارنا، الدنيا رمضان"...

  • كانت الموظفة على الخط الآخر لطيفة جدًا. للحظة اعتقدت أنني اتصلت ببدالة شركة "جوال" الفلسطينية وليس ببدالة شركة "بيلفون" الإسرائيلية. فالرفيقة الخليوية صفعتني بعد الترحاب بجملة "خليك معي هلأ". هلأ؟؟ جديدة هاي. فما أعرفه أنّ "عرب الداخل" (أو عرب الشمينت) معروفون في الضفة بـ "عرب إسّا"، إشارة إلى كلمة "إسّا" العامية الدارجة، وهي حكر وتمييز لنا، الفلسطينيين المرابطين (والمربوطين) في أرض الأجداد. توجّستُ من كلمة "هلأ"، وفكرت في ثانية بأنّ شركات الخليويات الإسرائيلية بدأت بتبني نموذج "آوت سورسينغ" (كيف بَلا؟)، أي تشغيل عاملين بأجور رخيصة في دولة نائية (نائمة) لاستقبال اتصالات المتصلين، أي أنّ الرفيقة الخليوية التي تتحدث معي تجلس الآن في بيت ساحور أو طولكرم وليس في مركز "بيلفون" في عكا أو الكريوت. ولكن بعد أخذ وردّ عادت رفيقتنا الهَلأوية/ إلى الإسّوية/ فشعرتُ بخوشبوشية/ وسألتها عن إمكانية/ لتخفيض سعر الفاتورة الشهرية. فأجابت: "إضحك في عبك على الدّيل اللي إنتا ماخدو"، فضحكتُ، فأنهتْ: "بتحبّ خدمة تانية بليز؟"... "بليز"؟؟ جديدة هاي!

  • "من نسج الخمرَ وشاحًا/ للنهديْن؟/ من أطلق أسرابَ الغزلانِ/ على الردفيْن؟// بالنار يُطهّرني/ هذا السّحر الكامن/ في الجفنيْن// لأرى خارطة الجنّة/ ما بين القرطيْن"- قصيدة "خارطة الجنة" للشّاب الأزلي الثائر الشاعر حنا أبو حنا، من ديوان "عرّاف الكرمل"، الذي سأعود إليه قريبًا في مقالة موسّعة. حاليًا علينا أن نعرف وبسرعة "من نسج الخمرَ وشاحًا للنهدين"!

  • العربي مشتهي يكون أثيوبي هَاليومين.

  • العربي مشتهي يكون أثيوبي.

  • العربي مشتهي يكون.

  • العربي مشتهي.

  • العربي.

  • .