الجمعة، 22 أغسطس 2008

كابوس اسمه رمضان!


يُخيّل إليّ أحيانًا أنّ الأمة الإسلامية تعيش حالة من "العِكس عكاس" منذ سنوات طويلة: فهي تصوم أحد عشر شهرًا في السّنة كي تنقضّ على المآكل والأطايب طيلة شهر رمضان (الذي من المفروض أن تأكل فيه أقلّ من باقي الشهور)، حيث يتحوّل شهر الزهد والتقشف والإفطار على بلحة (متزكرين؟) إلى شهر الطبايخ والنفايخ والكروش والنُشوش (جمع كلمة "نشّ"، وهي بالعامية التي أتيتُ منها تعني شيّ اللحمة).

إذًا، رمضان اليوم هو شهر التملق والنفاق والكذب والضحك على اللحى، وهو شهر البذخ والصرف والتشاهي (من شهوة) والتشهون (من التشاهي)، وهو شهر مُفسِد في طرازه وهيئته الحالييْن، أعتقد أنّ إلغاءه يجب أن يتحوّل إلى مطلب جماهيري لإنقاذ ما تبقى من صحة هذه الأمة.

وقبل أن تمزقوا هذه الصفحة وتشتموا الكاتب وحزبه، جدير بنا جميعًا أن نتوقف عند الحقائق التالية:

● شهر رمضان هو شهر العبودية للنساء، ينقلن إقاماتهنّ من الصالة وتنظيف الحمامات إلى المطبخ، فترى أمك/زوجتك قبل دخولها المطبخ في أول ليلة سحور، وتراها المرة الثانية بعد انتهاء رابع أيام العيد وهي خارجة من المطبخ، تسأل بريبة: قديش مرق وقت؟

● شهر رمضان بصيغته الحالية هو ثقل وحمل كبيران على أرباب وربات العوائل، ويجب على شيخ الأزهر أن يصدر فتاوى عاجلة تقضي بمعاقبة كل أب أو أم يقدمان أكثر من طبق واحد من الطعام على الفطور، كي ينقذوا الأمة من نفسها وكروشها.

● يبدو أنّ صدمة إدخال 4 كيلوات من أنواع الطعام إلى المعدة في خلال 5 دقائق تفعل فعلها بالناس، فتراهم يفرقعون المفرقعات طيلة ليالي رمضان "الجميلة"، ويعربدون بسياراتهم طيلة الليل، وبعضهم يشغل مسجلاته وآخر يلعب الشدّة حتى وقت السحور. ماذا يحدث لمليار إنسان يقضون ليلهم في تطقيش المكسرات والحلوى إلى حين حلول السحور؟ أية أمة منتجة ومحاربة هذه؟؟

● أذكر مرة أنّ مدرّس الدين في المدرسة الإبتدائية قال لنا بحسم إنّ فكرة الصيام في رمضان تتلخص في أن يشعر الصائم بعذاب الجائع وأن ينظف جسده وأن ينمّي عنده روح التكافل الاجتماعي. هل وصلت النكتة؟

● فلتعلم كل أم مسلمة تبذخ في الطبخ والنفخ أنها تعصى الله وأنها تخالف تعاليمه ولا شك أنها ذاهبة إلى جهنم. أية جنة تحت أقدام أمّ تربي أبناءها على التدليل والترف وحب المآكل والماديات؟ ما السيء في شوربة عدس وبعض اللحم المطبوخ مع البطاطا؟ أهي شتيمة هذه المأكولات الجيدة؟

● أكثر من 90% (أنا أتحمل مسؤولية هذا المعطى الإحصائي) من الصائمين في رمضان لا يصلون ولا ينفذون تعاليم الله، وفي الغالب يشتمونه على الطالعة والنازلة في أيام السنة العادية، وبعضهم يعصاه في الخمر والزنى والنفاق والنميمة والاغتياب (وفق تعاليم الإسلام ومفاهيمه) ولكنهم يتحولون إلى أبناء جبريل وأولاد عمة الرسول لَزَم في رمضان! والأنكى والأقبح أولئك المسلمون الذين يبدأون شرب الخمر ليلة العيد، فرمضان انتهى ويحق لنا أن نعيّد؛ ألم نصُم طيلة الشهر؟!

● ولا يكفي كل هذا، فتأتي الحملات الهلالية (على غرار الحملات الصليبية) على كل من لا يصوم: "عزا مش صايم؟ الله يشحرك!"؛ "يا فاطر رمضان يا مقلل دينك/ كلبنا الصعران ينهش مصارينك". وتستعر الحملة وتشتدّ إذا تجرأت على إشعال سيجارة أو تناول ساندويش في مكان عمومي، فتجحّ بك عيون المؤمنين الصائمين ويودّون لو يقتلونك "على المحل". لماذا؟ لأنهم "يربّحون ربهم جميلة" أنهم صائمون. هكذا، وقاحة صيامية غير مفهومة. فإذا كنت أخي الصائم/أختي الصائمة تبحث عن أجر حقيقي على صيامك وعذابك وقدرة تصبرك فيجب عليك أن تبحث عن فاطر وتجلس معه وهو يأكل ويشرب، كي تختبر نفسك وإيمانك. والحق الحق أقول لكم إنني لا أشعر بأيّ ذنب أو خوف عندما آكل بشهية كبيرة أمام صائم أو أنفخ الدخان بوجهه. لست مضطرًا لمراعاة أية مشاعر لأيّ صائم اختار أن يكسب الجنة بالتصبر والتحمل. كيف سيكسبها إذا لم يتصبّر؟ ولماذا لا يراعي الصائمون مشاعري وهم ينفخون بوجهي أثناء التحدث معي؟ لقد علمنا أستاذ الدين أن تنظيف الأسنان في الصباح لا يتناقض مع الصوم!

● أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم، لأنني لم ولن أصوم، وأنا أصدق منكم بألف مرة مع أية ذات إلهية ستظهر لنا (أو لن تظهر) في المستقبل. فأنا لا أضحك على أحد ولا أغشّ أحدًا، وعندما ترون فاطرًا مثلي في رمضان يجب أن تخشعوا احترامًا له على استقامته مع نفسه وغيره.


الجمعة، 15 أغسطس 2008

المعلم


حتى لو لم تكن قصائد محمود درويش معروفة لعامة الناس الذين حزنوا عليه ورافقوا موته وتشييعه، إلا أنّ تأثيره عليهم ناجز لا محالة. فدرويش أثر على جيل كامل من الصحافيين والكُتاب وأهل الرأي والثقافة، وهو بهذا ثبّت مكانته أكثر من أيّ شاعر عربي معاصر، كونه وصل إلى العامة (من قراء الشعر) وإلى خاصة، وهؤلاء يصيغون يوميًا وأسبوعيًا ذائقة الناس ومضامين حيواتهم واهتماماتهم.

ولا ينحصر تأثير درويش في إسهامه الشعريّ والأدبيّ فحسب، بل يتجاوز هذا نحو التأثير على مبنى وشكل الرواية الفلسطينية، أي على شكل وكيفية روايتنا لقصتنا، لأنفسنا وللعالم. وهو في هذا "روائيّ" من الطراز الأول، مع أنه لم يكتب الرواية ولم يمتهنها. فهو روائيّ في تطويع القصيدة أمام السّرد، وتحويلها –أي القصيدة- إلى سردية ملحمية، لا تخاف من الواقعية، بل ترفعها إلى مصافّ الواقعية "الأركيولوجية".

فالطبقات التي كتب فيها درويش إنبنت وتكشّفت في "حفريّات" سعت للكشف عن الذاكرة، وفي نفس الوقت لصياغتها في كلمات وتفعيلات وقصائد، أي لإخراج الذاكرة من فعل التذكر الخامل إلى فعل الإستعادة والصوغ الفعّالين. كل من حاول إحياء ذاكرة ذهنية في كلمات مكتوبة يعرف صعوبة هذا الفعل. وكل قارئ (مخلص، مثابر) لدرويش تبنى روايته عنا، عن نكبتنا وعن قصتنا، من دون أن يشعر ومن دون أن يقاوم. فهذا ما يخلب اللبّ في كتابة درويش: إنه سيّد النص وسيّد القارئ، إلا أنه أذكى من أن يمارس سيادته هذه بفظاظة أو عنوة.

عندما قرأتُ للمرة الأولى "مديح الظلّ العالي" لم أفهمها كما يجب. كنتُ أظنها مرثية للفلسطينيين بعد خروجهم من بيروت، مع أنها في واقع الحال (في نظري طبعًا) تسجيلات مدروسة ودقيقة ليوميات البحث عن بدايات لا تنتهي ("بحر لأيلول الجديد")؛ فهي تفاؤلية رغم مأساويتها، وهي تدعو للمضيّ قدمًا رغم حجم الإنكسار. ولا يغيب عن القراء الفطنين أنّ كتابات درويش في الثمانينات مهّدت (له وللقارئ) للولوج في كتابته الجديدة، المعاصرة، المتخلية عن هيمنة البلاغة والإيجاز، والمتمثلة في كتبه الأخيرة، وخصوصًا "لماذا تركتَ الحصان وحيدًا".

كصحافي يبحث دائمًا عن العنوان، عن جملة سريعة لا تزيد عن ثماني كلمات (إذا أمكن) توجز ما يجب أن يعرفه القارئ السريع والكسول كي يكون "على دراية ما بواقعه" (كأضعف الإيمان)، أرى في درويش فنان العناوين بلا منازع. فهذه قدرة فطرية لا تنصهر إلا بالممارسة، ولكن أكثر منها، بالاختزال الذي يمكن أن يتأتى بطريقة واحدة لا غير: الشطب والحذف. درويش يكتب بالعكس: يملأ اللوح بالألوان الكثيرة ثم يكتب بالممحاة، يهذب ويحذف حتى تكتمل الهرمونيا بين ما هو مطلوب قوله وبين ما هو مطلوب كتابته.

درويش هو معلم وأستاذ، ورحيله في أوجّ مشروعه الشعريّ الذي أعلن قبل فترة أنه سيخصّصه للحب والغزل والإنسانيات (كم خسرنا نحن!) هو رحيل تجربة لا تتكرر، لا في سياق المحطات المُعاشة ولا في سياق التجربة المكنوزة. وككاتب في بداية طريقه بدأت التعلم من درويش أن أنتبه إلى ذكاء المعنى، الذي لا يفسد غيابه عن القارئ مَسرّة القراءة، إلا أنّ اكتشافه مع القراءة هو حدث مؤسّس للقارئ، كما للكاتب. هذه قدرة يسعى إليها كل كاتب، والقليلون ينجحون فقط.

لقد أخذ درويش العادي، المتيسّر، الشائع، وأدخله في خلود القصيدة. في لقاء صحافي معه قبل سنوات سألوه عن حبّه وشغفه بكرة القدم، فأجاب من ضمن سائر الأمور أنّ "كرة القدم هي أشرف الحروب". بساطة بليغة تختزل حياة المليارات من البشر، وترفع كرة القدم من رجال يركضون وراء كرة إلى مجاز يركض وراء المعنى. من وقتها توقفت كراهيتي لكرة القدم!

الجمعة، 8 أغسطس 2008

أوروفوار مونبرناس

في تلك اللحظة خُيّل لي أنّ باريس عربية؛ فالطاولة التي كنا نجلس إليها جمعت ثلاثة فلسطينيين (سهى من الناصرة، رائد من بيت لحم وأنا)، ثلاثة تونسيين (صالح وتوفيق والثالث نسيت اسمه) ومصرية (عزيزة). جميعهم يعملون في قناة "فرنسا 24" التي تبث باللغة العربية كقناة دولية. أضِف إلى ذلك أنّ أحدهم سكر سكرة شريرة وصار يخربط ويلبط في مقهى شيك في المونبرناس، ما غيرها، حتى خُيّل إليّ أننا في أحد مقاهي شارع أبي النواس في حيفا أو في "السُّوك" في الناصرة. إلا أنّ سكرة الفرنسيين تظلّ أخفّ ظلاً وأقلّ وطأةً وعدد الجرحى يقترب من الصفر (يا للعار)، لأنّ السكران كان يبرطم بالبونابرتية ويلوّح بقبضته في الهواء من دون أيّ فعل حقيقي يمنحه لقب "رجل" أو حتى "غُلام". والظريف الأظرف أنّ النادليْن اللذيْن كانا مسؤوليْن عن "الاعتناء به" كانا من فينة لأخرى يمسكانه كي لا يقع على الأرض وهو يتفتف ويتوعّد، بلغة رومانسية عذبة رغرغت لها عيناي.

ولولا كتاب "تخليص الإبريز في تلخيص باريز" لرفاعة الطهطاوي حول رحلته إلى فرنسا العام 1826، لكنتُ أسهبتُ في الجغرافيا والطوبوغرافيا وخفايا البورنوغرافيا في متحف الجنس الباريسيّ الشهير. ولكنّ الذين سبقونا كتبوا ولخّصوا، فتبقى لنا أن نتأمل ونتحسّر ونردّد ما ردّده الشاعر الفرنسي بودلير على ضفاف السّين:

"إنّ ذلك الذي ينظر من الخارج عبر نافذة مفتوحة، لا يرى مطلقا كثيرًا من الأشياء، كذلك الذي ينظر إلى نافذة مغلقة: فلا يوجد شيء أكثر عُمقًا وأكثر غموضًا، وأكثر خصوبة، وأشدّ عتمة، وأكثر إشراقا من نافذة مضاءة بشمعة. ذلك أنّ ما يستطيع الإنسان رؤيته في الشمس يعدّ أقلّ إثارة للاهتمام دائمًا من ذلك الذي يحدث خلف الزجاج؛ ففي هذه الفتحة السوداء أو المضيئة تحيا الحياة، تحلم الحياة، تقاسي الحياة."

هذا ما ردّدته لنفسي وأنا أدخل غرفة الفندق الصغيرة لأوّل مرة. وفي مقارنة سريعة كان يمكنني بسهولة أن أتبيّن أنّ مساحة هذه الغرفة لا تزيد بكثير عن "الطشت" العصري الكبير والمُرصّع بالكريمات الذي يستحمّ فيه جلالة الطفل عُمري بن عنان بن محمود آل حليحل، ابن أخي. ولكنّ العزاء يظلّ في الأبعاد الفلسفية أعلاه التي ثبّتها بودلير، إلى جانب التسامح الكبير الذي يجب أن تبديه كزائر لباريس: الملايين الملايين تريد زيارة باريس ولذلك قرّر الباريسيّون تصغير الغرف في الفنادق (الرخيصة) كي يتّسع كلّ فندق لأكبر عدد من الزائرين، فتنشرح الأفئدة وتنفتح المفاتح ("ولا مؤاخزة"- كما تقول عزيزة).

تل أبيب-باريس
أعتقد أنّ الميترو، أيّ ميترو في العالم، هو أكثر الدلائل سطوعًا على التحضّر والتحدّث (معذرة على التسطيح). فإلى جانب التيسير والتسهيل الكامنيْن في نقل عصب المواصلات الرئيس إلى ما تحت الأرض، فإنّ فكرة نقل عملية الانتقال من مرمى البصر إلى ما تحته، يضفي على العالم الفوقيّ قيمة لا يُستهان بها من الطمأنينة بأنّ جميع الذين فوق يمارسون الآن الحياة نفسها، وليس الانتقال من قطعة حياة إلى أخرى، كما يفعل الذين تحت. أهو السبب في الاسترخاء اللانهائي الذي ينتابك (والجميع) على دكك المقاهي الصغيرة المدورة (إذا تجاهلنا ليتري النبيذ اللذين شربتهما خلال ساعتين)؟

ولكنّ باريس تقترب من تل أبيب، حيث أنّ عملية إيجاد شقة لغريب فيها صارت مهمة صعبة محفوفة بالإذلال والمهانة. فكراهية الأغراب (عربًا أم غير عرب) بدأت تتغلغل في النخاع الشوكيّ لدى "رومانسيي الأرض اتحدوا"، والقصص عن عمليات التحايل والتهرب والرفض غير الصريح التي تنهال عليك هنا، تذكرك بالقصص التي يتناقلها أجدادنا وأعمامنا وأصدقاؤنا عن الصعوبة الكبيرة في أن يجد عربي مكانًا للسّكن في تل أبيب "الليبرالية الأوروبية".

وفي الناس المسرّة
ليلة الأربعاء-الخميس كان عيد ميلاد الروائية اللبنانية هدى بركات. ستة أشخاص متحرجمون حول ثلاث طاولات باريسية صغيرة (لماذا بهذا الصغر؟ فش خشب بفرنسا؟؟)، يتناولون شرائح اللحم والإوز والنبيذ والجعة ويحاولون الربط بين الجليل ولبنان، ومعرفة ما إذا كان عرق فلسطين يضاهي عرق لبنان أم لا. اسمه مقهى "الفلاسفة" ونحن أخذنا الموضوع بجدية كبيرة، فانهارت التنظيرات والتطريزات، يمينًا فيسارًا. لا يعقل أن تجلس في مقهى باريسيّ مع اسم مُلزم كهذا ولا تمسك شلّ سارتر وابن رشد، مرورًا بالشيخ الأكبر وانتهاءً بأسعار الوقود وعلاقتها بأزمة الفول في مصر.

في باريس يطيب الكلام وتشعر بأنك إنسان عاديّ، يسهر بمرح ولا يحسب حساب الغد، مثل باقي البشر. باريس، ميرسي كتير لألله.

الجمعة، 1 أغسطس 2008

بالجمال وحده؟

عرضت القناة الثامنة الإسرائيلية، الأسبوع الماضي، الفيلم الوثائقيّ "ليدي كل العرب"، من إخراج ابتسام مراعنة. الفيلم يروي قصة الفتاة العربية الدرزية دعاء فارس (تسمّي نفسها أنجلينا، تيمّنًا بأنجلينا جولي) التي نافست على لقب ملكة جمال "كل العرب"، ثم تسجّلت في نفس الوقت للمنافسة على ملكة جمال إسرائيل. وعندما أعلمها القيّمون على المسابقة الثانية أنها يجب أن تختار بين المسابقتين (فلا يصح أن تكون ملكة جمال كل العرب وإسرائيل في نفس الوقت) وصل الفيلم ذروته الأولى، في طرحه لصراع الهوية في الدولة لدى العرب.

الذروة الثانية في الفيلم كانت عند ذهابها مع والدتها إلى بيت الشيخ موفق طريف لطلب المغفرة من "الطائفة" بأنها تجرأت على الترشح لمنصب ملكة جمال إسرائيل وإهانة "مشاعر" أبناء الطائفة. فترشحها هذا خلق جوًّا عاصفًا من الرفض تجلّى في قمّته في القبض على عمها واثنين آخرين خططا لقتلها لمحو العار.

القويّ في هذا الفيلم هو عدم إعلان وصاية على القصة، عدم إطلاق أحكام أخلاقية على قضية الترشح لملكات الجمال من جهة، وعلى الترشح لمسابقة دولة إسرائيل (من عربية درزية) من جهة أخرى. مراعنة روت القصة بحكمة وبهدوء، وتركت المجال لأبطالها كي يرووها بلغتهم، بمشاعرهم، بدوافعهم وأحلامهم. هذا قرار فني هام جدًا أعتقد أنّ مراعنة راهنت عليه صوابًا، رغم أنّ الفيلم في مجمله لم يطرح غنًى توثيقيًا تجاوز التقرير الصحافيّ.

في المقابل يبقيك الفيلم بتساؤل كبير: هل أنا مع دعاء فارس؟ هل المعركة على تحرر المرأة والإنطلاق بحريتها وأحلامها يتمّان عن طريق مسابقة لملكة جمال، تفعل فعل القمع والتخلف المضاد، فتضع المرأة مجددًا في سوق اللحمة والأفخاذ والأوراك؟ من جهة تتضامن مع هذه الفتاة الحالمة الشجاعة، ومن جهة أخرى يزداد احتقارك لمثل هذه المسابقات، لدرجة تجعلك تتمتم في نهاية الفيلم: شو بدك بهالشغلة؟

ملك اليهود
قرر رئيس الوزراء إيهود أولمرت، أخيرًا، أن يعلن انسحابه من الحلبة السياسة، مساء أمس الأول الأربعاء، وها هي دولة إسرائيل تدخل في معمعان سياسي جديد. في نفس الليلة، وفي نفس نشرة الأخبار، بُثّ تقرير عن قتل الطفل محمد موسى (9 سنوات) برصاص جلاوزة "حرس الحدود" في قرية نعلين التي تتظاهر مُستميتة على حماية أراضيها من وحش الجدار الفاصل العنصريّ، وقبلها بأسبوع شاهدنا إطلاق النار بدم بارد على فلسطينيّ متظاهر أعزل وهو مربط وواقف بين قائد الكتيبة وجندي فيها.

في دولة ديمقراطية حقيقية كان يجب أن يقف أولمرت ويعلن استقالته على هذين الأمرين اللذين يجسدان ببساطة عمق الأزمة الأخلاقية التي ألمّت بدولة اليهود، والمخيف حقًا، أنّ الأزمة في بدايتها، ليس إلا. على أولمرت وحكومته أن يذهبا إلى البيت جراء جرائم الإحتلال الفاشية، وليس لأنه دحش في جيبه بضعة آلاف من الدولارات. لست أخاف على نقاوة الحكم في إسرائيل بقدر ما أخاف على أخوتي العزل المتظاهرين مقابل أشرس الجنود وأعتاهم في العصر الحديث. أولمرت إلى البيت، فداءً لدم محمد موسى.

نزار قباني مجددًا
نشرت صحيفة "الحياة" اللندنية، هذا الأسبوع، قصائد وكتابات للشاعر المتوفى نزار قباني، لم تنشر من قبل. وهذه فرصة جديدة للتوقف مجددًا عند هذا الشاعر، الذي اخترق جميع الحواجز ومنحنا مراهقة جميلة وغنية بالحبّ العذريّ والحسّيّ، بمفردات العشق الضرورية لبناء تواصل مشاعريّ وجسدي مع من أحببنا.

تلك كانت فترة الغليان وقباني كان بركان الحمم. والآن، في قراءة جديده، تعود ذكريات المراهقة ومحاولات كتابة الأشعار (الفاشلة) بالأسلوب النزاريّ. لا زلت أذكر حتى اليوم حين وقفت المعلمة ليلى، معلمة العربية في الصف العاشر في ثانوية فم الذهب في الجش، وقرأت قصيدة لي كتبتها بوحي دواوين نزار، يقول مطلعها: "إليّ بعد طول الغيبة أكتبي/ قد تنازلت عن كبريائي فلا تعجبي/ قد ظننت أني الأمير في الهوى، فأيقنت أنني عاشق معجب".

أعتقد أنني أذكر هذه القصيدة لأنها –بنظري وبنظر قرائي الثلاثة آنذاك- أفضل ما كتبتُ من الأشعار. وإذا كانت هذه أفضل ما كتبت من الأشعار، فتصوروا لو أنني استمريت في درب نزار. أعتقد أنه كان سينتحر قبل أوانه بكثير!

والختام له من جديده:

الشِعرُ غادرني
فلا بحرٌ بسيطٌ... أو خفيفٌ... أو طويلُ...
والحب غادرني
فلا قمرٌ...
ولا وترٌ...
ولا ظِلُّ ظليلُ...

مسرحيد 2008: مفاجأتان في مهرجان واحد

جاءت المفاجأة هذه السنة في مهرجان "مسرحيد" من وجهيْن جديديْن على المشهد المسرحي المحليّ: رشا جهشان والفتى محمد زيدان. الأولى أدّت عرض "أصوات من هنا" (ولا أقول مسرحية) وزيدان الذي أدّى دور أخ يغار من أخيه الأكبر، محبوب القرية وأمه.


قدمت جهشان عرضًا كان أبرز ما فيه الحركة والرقص، ولكنّ أجرأ ما فيه وعي جهشان لمقدراتها الجسدية، لتركيبة جسدها الأنثوي، وهي لم تقع في نفس الوقت في مطب الإغراء الرخيص. فتسخيرها لجسدها (الراقص، الحالم، المتحرك، الرافض) جاء مثاليًا في مقاطع كثيرة، ومن خلال 15 عامًا من مشاهداتي المسرحية لم يسبق أن رأيت ممثلا أو ممثلة فلسطينيا قدّم مثل هذا العرض الصاخب، المثير للّهفة والمثير للحرج والمثير للغيظ (عند البعض) في نفس الوقت. استطاعت جهشان أن "تشتري" الجمهور (الذي كان في أغلبه من طلاب الثانويات، وأهل المسرح يعرفون مدى صعوبة إرضاء مثل هذه الشريحة)، فهي لا تخافهم، تبحث عن نفسها بينهم، وهذا يشعل لها السيجارة وذاك يجعلها تلقي برأسها على كتفه باكية.


وإلى جانب هذه الفرجة المسرحية والأدائية الخلابة، برز بفظاظة وغلاظة ضعف النص الذي كان يصدر عنها من مرة إلى أخرى، فلا هو نجح في بناء ولو طرف قصة أو حكاية، ولا هو نجح في التباري مع تجريدية الرقص والحركة، فظلّ في النصف عالقا، خصوصًا أنّ كلّ جملة كانت تطلقها بالعربية تلحقها جملة ترجمة بالعبرية فورًا، وأحيانًا كان ينشأ حوار بينها وبين المترجم، مما كان يطرح سؤالا مُلحًا أكثر من مرة: هل هذه مونودراما حقا؟


بالمقابل، أحضر الفنان المسرحي المخضرم محمود قدح (من أفضل الممثلين في البلاد، برأيي وبرأي الكثيرين من أهل المسرح) نتاج تجربته كفنان اختار أن يتمركز في قريته وأن يعمل مع مواهبها المحلية في المركز البلدي الذي يديره. فمسرحية "إشي بحزن العادي"، التي كتبها وأخرجها قدح، أعطت الفرصة للفتى الناشئ محمد زيدان بأن يكشف عن موهبة فذة ورائعة، غير عادية ونادرة. فهذا الفتى ما زال طالبًا في المدرسة، إلا أنه استطاع أن يحمل الجمهور على كتفيه لخمسين دقيقة كاملة، روى فيها قصة غيرة من أخ لأخيه الأكبر، وهي القصة التي تناصّت مع قصة قابيل وهابيل في النهاية.


زيدان ممثل ناشئ سيكون له شأن، مرح، مليء بالطاقة والثقة، دراميّ عند الحاجة وأحيانا ميلودرامي، ولكنه في جميع حالاته مسرحي متميز وآسر. أحد القيمين على المهرجان قال لي "بيناتنا"، بعد أن سألته لماذا لم تدخل هذه المسرحية في المسابقة الرسمية: "أغرش، بدك يوخد الجائزة وتخرب الدنيا"؟ أعتقد أنّ الدنيا خربت لأنه لم يأخذ الجائزة.


وعوْد على ملاحظة سأكرّرها، مثل السنوات السابقة: لن يحقق "مسرحيد" المستوى المهني المرجوّ منه في الإطار القائم، بمجهود القيّمين عليه وخصوصًا جهد مديره الفني أسامة مصري الذي يبدي إخلاصًا منقطع النظير لهذا المهرجان وعلى هذا يجب أن يُشكر مرارًا. يجب خلق إطار عمل من أشهر طويلة تُفتح فيها النصوص المشاركة في ورشات مع مهنيين ومختصين لبلورتها مهنيًا ودراميًا، وهذا الضعف ميّز جميع الأعمال المشاركة، هذه السنة أيضًا.