الاثنين، 31 مارس 2008

يوم الأرض

اليوم تبدأ نشاطات إحياء "يوم الأرض". لطالما فكرت في أنّ هذا اليوم صار يومًا خاصًا في تاريخ شعبنا لأنه حصد قتلى فيه، ولو لم يقع قتلى في هذا اليوم قبل 32 سنة لما كان سيذكره أحد، مثلما حدث ويحدث مع جميع أيام المناوشات بين العرب والسلطة هنا.

نحن نحيي إذًا ذكرى القتلى الذين سقطوا في معركة حماية الأرض، ولا نحيي ذكرى الأرض نفسها، فالأرض بقيت ولم تمت. ومن لا يموت لا يستحق يومًا للذكرى، ولولا هذه البديهية الساطعة لطالب كل شخص بيوم ذكرى خاص به، من دون أن يتكلف حتى عناء أن يُصاب أو حتى يُضرب بيد شرطي في مظاهرة ما.

ولكننا نسينا القتلى وتذكرنا الأرض. هل نحن شعب ينسى قتلاه؟ لا أعتقد، ولكنني أعتقد أننا نحب الأرض أكثر مما نرغب في إحياء ذكرى قتلانا. هل هذا سيء؟ ليس بالضرورة، ما دمنا نعي الحقيقة البديهية: الإنسان أهم من الأرض، وما زلنا نهزأ من أبناء عمومتنا الصهاينة ونعيب عليهم مقولة طرومبلدور التي تبنوها: "جيد أن نموت من أجل بلادنا". مقولة كهذه تذكرني بالشعار المبتذل الذي كان يطلقه الراحل ياسر عرفات كلما انزنق: عالقدس رايحين، شهداء بالملايين!

من ناحيتي فلتحترق القدس بما فيها، ولا يُقتلن شخص واحد. الله لن يرضى بأن يستشهد الملايين من أجل قبة الصخرة أو جبل الهيكل. إسألوه في صلواتكم لن يقبل. تمامًا كما أنه لا يقبل الآن إحياءنا لذكرى يوم الأرض، بدلا من إحياء ذكرى قتلى يوم الأرض.

الجمعة، 14 مارس 2008

لا تُحايدْ!

من شاهد برنامج شؤون الساعة "لندن وكرشنباوم" على القناة العاشرة، مساء أمس الأول الأربعاء، كان بمقدوره أن يتيقن مما يعنيه واحد من الشعارات/العبارات/الكليشيهات التي تتردّد بين أوساطنا وظهرانينا، من مرة إلى مرة: "سقط القناع" (ومصدرها من القصيدة الشهيرة "مديح الظل العالي" لمحمود درويش: سقط القناع عن القناع عن القناع). فأحد مُقدّميْ البرنامج، موطي كرشنباوم، استلّ حقيقته التي يحاول إخفاءها من وراء ليبرالية مفتعلة، وهاجم الصحافي إلياس كرّام، مراسل قناة "الجزيرة"، في خلال نقاش حول قرار وزارة الخارجية الإسرائيلية فرض مقاطعة على القناة "بسبب مواقفها العدائية لإسرائيل"، وكأنّ "الجزيرة" تعمل في وزارة الخارجية الإسرائيلية، وها هم يرسلون لها إنذارًا أول قبل طردها من السلك الدبلوماسي الصهيوني.

(لاحقًا، اتضح في خبر نشرته "هآرتس"، أمس الخميس، أنّ وزارة الخارجية الإسرائيلية والوزيرة فيها، تسيبي ليفني، تفاجأوا من هذا "القرار"، وبعد البحث والتنقيب اتضح أن نائب ليفني، مجلي وهبة، هو الذي بادر لحملة المقاطعة، "على شور راسه". أم محمود العزيزة قالت ساعتها معلقة بسخرية: أكيد هو غاضب لأنهم لا يجرون معه مقابلات كما في السابق.)

وبدا لافتًا أنّ صبر كرشنباوم عيلَ منذ زمن، ربما منذ الحرب الأخيرة على لبنان، وهذه ليست المرة الأولى التي ينفلت فيها غضبه القبلي المجند الأهوج على عربي في برنامجه؛ فخلال الحرب المذكورة انفلت كرشنباوم أيضًا في وجه النائب محمد بركة، في حمية حربية كانت تبشر –لو طالت- بلينش تلفزيوني دمويّ. وها هو ينفلت في لينش تلفزيوني جديد ضد كرّام، ويبدو من خلال صراخه أنه ليس إلا "زعلان" من "الجزيرة" لأسبابه الخاصة؛ إذ أنه في حمية الصراخ نبح باتجاه كرّام: "أنا كنت في مكاتب "الجزيرة" في الدوحة ولم يتحدث إليّ أحد (لأنه إسرائيلي)"!! مسكين. لو كنا نعرف لطلبنا من جميل عازر أن يعزمه على قهوة عربية.

من هو الليبرالي؟

ما يحدث في برنامج "لندن وكرشنباوم" خطير في الحقيقة: فصورة البرنامج أمام الناس هي أنه ليبرالي ومنفتح ومغاير، بينما يتضح في لحظات الحقيقة أنه برنامج إخباري مُجند، كغالبية الإعلام الإسرائيلي. كان ذاك يارون لندن (الصحافي المخضرم، وليس محقق الشاباك الذي لاحق د. عزمي بشارة) الذي كتب في "يديعوت أحرونوت" عشية مجازر غزة الأخيرة، مقالة فاشية تنضح دماءً، ليعود بعدها للمثول أمام الكاميرا الدافئة في الأستوديو، ينعم هو وكرشنباوم بدفء شيخوختيهما "الرزينتين".

ما يثير الغضب حقًا في كل ما يحدث مع قناة "الجزيرة" هو النفاق والتلوّن المخزيان اللذان يميّزان تعامل الإعلام الإسرائيلي مع هذه القناة. فأكذوبة "الإعلام الموضوعي" سقطت ودالت في مزابل التاريخ منذ عقود، وما زال أبناء عمنا يمارسون إعلامهم المُجند من جهة ويصرخون باتجاه العرب: إعلامكم مُجنّد. كأنّ تسفيكا يحزقيلي وشمعون شيفر موضوعيان ويغضبان على إلياس كرام لأنه ليس كذلك. هذا هراء! لا يوجد صحافي حقيقي (التعميم من عندي وغير مُلزم لأحد) من دون أجندة: إذا كنتَ صحافيًا في منطقة صراع لا مانع من تأخذ طـرفًا في الصراع، ولكن لا تختبئ وراء موضوعية مفتعلة، لأنك عندها ستصير كاذبًا ونصابًا رخيصًا؛ إذا كنتَ صحافيًا في مجال الترفيه والـ "بيـز شو" لا تخجل من أجندتك ودافع عنها بكل ما أوتيت، فهذه هي الأجندة التي اخترتها وأنت مطالب بتطبيقها بأفضل شكل؛ لا يمكن للصحافي أن يختبئ وراء وهم بأنه "مش لاعب" أو أنه "مخصنيش خيا، أنا أمم متحدة". من يحلم بوظيفة في مبنى الأمم المتحدة في نيويورك عليه الدخول إلى موقع www.un.org وتنزيل طلب العمل في خانة "وظائف" وإرسالها إلى مكتب القوى العاملة هناك.

حفاظًا على البيئة

هذه رغبة ودعوة بعدم الخوف من أن يكون المرء صحافيًا مُتجنِّدًا (تختلف عن "مُجنَّد" اختلافا جوهريا وكبيرًا- ولكن ليس هنا المجال والمكان لفتح هذه النافذة في هذه العجالة)، ولكن عليه أن يلتزم بأمريْن أساسييْن لا يمكن التخلي عنهما: أن لا يختبئ وراء "موضوعية" مفتعلة غير واقعية فيصير محتالا على جمهوره؛ وعليه أن يمتنع عن تزوير الواقع وتشويهه من أجل دعم أجندته. القرائن تدعم حجتك؟ أنشرها على الملأ ودافع عنها حتى آخر قطرة حبر؛ القرائن ضدك؟ حاسب نفسك وجدد إيماناتك ولا تخجل من الاعتراف بخسارة معركة في هذه الحرب الطويلة.

الإعلام الإسرائيلي لا يريد أن يفهم هذا. يحلو لليهودي الأبيض أن يستعلي على السُّود المتخلفين، الحفاة العراة، بالتلويح بحجج الديمقراطية السخيفة، مُتناسين أنّه لا إعلام حياديًا حقيقيًا في أيّ نظام- ديمقراطيًَا أكان أم غير ديمقراطي. وهنا على مراسلي "الجزيرة" والقيّمين عليها أن يتوقفوا عن محاولات التبرير والدفاع عن النفس بأنهم "موضوعيون" و"حـياديون"؛ أولا، هـذا غير صحيح، وثانيًا، هذا غير مطلوب. على "الجزيرة" ألا تبث الأكاذيب والتحريضات التشويهية، هذا واضح وحيوي، ولكن عليها ألا تخجل من ميلها الطبيعي والفطري والمطلوب لقتلى غزة.

غزة وبيروت وبغداد والقاهرة وعدن هي البيئة الطبيعية لقناة "الجزيرة" وليست تل أبيب. ما الداعي لمحاولة دحض هذه البديهيات؟ هل نشعر بالنقص أمام كرشنباوم ومجلي وهبة؟ فليتفضلوا، وليتعاملوا مع القاهرة وبيروت على أنهما بيئتهما الطبيعية، بدلا من باريس ونيويورك.
(علاء حليحل)

خير جليس "زَوَّدها"!

قبل فترة وقفتُ عاجزًا أمام مكتبتي في البيتِ، وقادني العجز إلى التفكير بما يلي:
  • معدل عمر الإنسان 75 سنة؛
  • معدل سنوات القراءة في حياته: 65 سنة (في تقدير ممتاز)؛
  • معدل عدد الكتب التي يمكن أن يقرأها الإنسان في أفضل تقدير (كتاب في اليوم): 365 كتابًا في السنة؛
  • معدل عدد الكتب التي يمكن أن يقرأها الإنسان في حياته: 365 × 65 = 23,725 كتابًا؛
  • عدد الكتب الجديدة التي تصدر في العالم كل سنة (عدد العناوين الجديدة وليس النسخ): حوالي 300,000 عنوان جديد؛
  • أي أنّ المرء بحاجة إلى 12.6 سنة لقراءة الكتب الجديدة التي تصدر كل سنة؛
  • ناهيك عن الوقت اللازم لقراءة الصحف والمجلات ومشاهدة المسرحيات والأفلام.
حتى هنا المعطيات. والنتيجة: تُعسًا للعالم! كيف يمكن أن ينتقي المرء الكتب التي "يجب" أن يقرأها في حياته، من وسط هذا الكمّ الهائل من الكتب المتاحة؟

رغم هذه الصعوبة، ورغم أنني لا أجد الوقت لقراءة نصف الكتب المكدسة في مكتبتي منذ شهور، إلا أنني –مثل الكثيرين غيري- أستمرّ في شراء الكتب الجديدة، رغم أنني أعرف أنّ عليها الانتظار في طابور طويل لا ينتهي. قبل النوم عزّيتُ نفسي بأنني أفضل تكديس الكتب على تكديس علب العطور أو الملابس أو مفاتيح السيارات "الفلع" على الطاولة في الصالون.

هل تحايلتُ على نفسي؟ لا بأس. أنا بحاجة لهذا التحايل- فهذه الليلة أيضًا لم أستطع قراءة أكثر من ثلاث صفحات من كتاب "التطهير العرقي لفلسطين" قبل أن أتهالك على المخدة صريع التعب والإرهاق!
(علاء حليحل)

الجمعة، 7 مارس 2008

صُور جميلة


كنا ننحني ثلاثتنا، مُحرّريْن ومُصمّمًا، وندير كومة الصّور الطازجة على الطاولة بيننا. كنا صامتين، لا يدافع الواحد عن اختياراته بحماس منقطع النظير، كما كنا نفعل في تلك الأزمنة، بل نكتفي بأن يدفع أحدنا صورة باتجاه الآخر، ويكتفي بالنظر إليه. كان الآخر يكتفي بهزة من رأسه، تعلو وتهبط للإيجاب، أو بهزة تروح لليمين وتجيء لليسار، للسّلب. في لحظة ما أفلتت مني كلمة "حِلوة"؛ قلتها بعد أن نظرتُ إلى صورة أحد الشهداء وهو يُسجّى في القبر، وسط الجّمع الكبير، وقد فُتحت عينه اليمنى نصفَ فتحة، وكأنه كان "يغمز" المُصور وهو يُوضع في حفرته الأخيرة.
أحسستُ ببعض الحرج، ولكنني لم أتراجع؛ فنحن كنا نبحث جاهدين عن صور جدية و"جميلة" لنشرها في عدد الصحيفة الذي سيصدر غدًا، واليوم تشييع الجثامين، وأكتوبر مُحتدم، وعلى شخص ما أن يقوم بهذا العمل: أن يبحث بين أكوام صور الجثث وصور الجنازات وصور القبور المفتوحة وصور الأمّهات الباكيات- أن يبحث عن صور جميلة ستزين الغلاف والصفحات الأولى، ومن المحبّذ أن تكون "جميلة جدًا"، كي يكون أثرها أقوى على الناس، فننجح في جلب تضامنهم وفي زعزعتهم في نفس الوقت.
لم أشعر بأنّ زميليّ تضايقا من كلمة "حِلوة" التي قلتها عن الصورة، فهي بالفعل كانت جميلة: الوضعية، زاوية المصوّر، العمق الذي زاده الجمع من حول الحفرة عليها، عينه المفتوحة نصف فتحة وكأنه يمازحنا: لم أمُت، هل صدقتم؟ أعتقد أنهما وافقا معي، ولكن الصور التي ملأت عدد الغد كانت الصور "المضمونة": الشهيد على الأكتاف، الأم تبكي، الشباب يهتفون، ورود على القبر الجديد، القائد يتحدث.

هذيان
لا أعرف حتى اليوم ما جرى بتلك الصورة. أعتقد أنها في أرشيف ما عتيق لا يعي ما يحويه، ككل الأراشيف. فنحن، في النهاية، من يمنح الصورة معناها وأهميتها. ولكل صورة، مهما كانت سيئة أو غير مثيرة، تأثير على مستقبل التصوير قاطبة، وعلى ذائقة المتلقي العينيّ خصوصًا. كل صورة هي محاولة جديدة لاكتشاف الحقيقة، ومع أنّ جميع المحاولات تبوء بالفشل في مهمة توثيق الحقيقة، إلا أنّ مليارات الصور الجامدة التي صُورت حتى اليوم، مؤلفة ما يمكن تسميته "الأرشيف البصري" للبشرية، تشكل معًا، رغم فشل كل صورة بعينها، حقيقتنا المرئية حتى اليوم.
الصور من مجازر غزة تتوالى، ومهمة اختيار صور العدد ما زالت بغيضة، ثقيلة، بهيمية بعض الشيء: هذه الصورة لا تزعزع بما يكفي وتلك مبالغ بها؛ هذه الصورة تخلد وضعية مثيرة ولكن المقتول فيها بلا رأس؛ هذه الصورة ألوانها عظيمة ولكنها لجريح محمول فقط؛ إذا كان الأقوياء يكتبون التاريخ، فالضعفاء يمنحون أجسادهم لتخليده بصريًا.
التصوير يصادق، يقرر، يجمّد الزمن ويُحفظ في الذاكرة، كتب رولان بارت في كتابه LA CHAMBRE CLAIRE، "الغرفة السّاطعة" (بالعبرية عُنونت الترجمة: "أفكار عن التصوير")؛ "التصوير يوسّع الرؤى لكنه مختلف في تفسيراته. إنه زائف في مداركه، لن يعيد أبدًا ما مضى، لكنه حقيقي في زمنه. إنه شكل جديد من الهذيان، هذيان معتدل، هيئة مجنونة كُشطت بالحقيقي".

من تحت الرّدم
كلمات كبيرة لأول وهلة، ولكنها التعبير الأصدق لما تمرّ به الصور اليوم: عليكم أن تفكروا بالطفل الذي وُجد في هذه اللحظة تحت أنقاض بيته في الشجاعية؛ بالمُصوّر الذي تلقى هاتفًا من صديقة في الحي فهرع إلى المكان؛ بوصوله في اللحظة الحاسمة ورجلان يخرجان جثة الطفل من تحت الردم؛ بقدرته (لأنه مُتمرّس، لأنّ الناس مُتمرّسون، لأنّ الواقع مُتمرّس) على أن يطلب من الرجلين أن ينتظرا قليلا قبل إخراجه نهائيًا؛ بجثة الطفل العالقة الآن بين الردم وبين يدي الرجلين؛ بـ "تكتكات الفلاش" المتسارعة؛ بالمصور المرتجف الآن (سعادةً وليس خوفًا) لأنه يستطيع أن يبيع الصورة لوكالة الأنباء العالمية بسعر أعلى من الصور "العادية" (مجرد شهيد، مجرد بيت مقصوف، مجرد صراخ في الشارع)؛ بالحاسوب الذي يرسل الآن الصورة عبر البريد الإلكتروني، بعد أن فكّكها إلى لغة الحاسوب البينارية: واحد، صفر، واحد صفر، واحد صفر؛ بالحاسوب في فرنسا أو أمريكا أو بريطانيا في مكتب الموظف المسؤول عن استقبال الصور في وكالة الأنباء الذي يستقبل الإشارات البينارية: واحد صفر، واحد صفر، واحد صفر، ويعيد ترجمتها إلى لغة بصرية تؤلف مجددًا "بيكسلات" متراصة بكثافة 72 وبحجم كبير، لتصنع هذه البيكسلات صورة منطقية تجتمع فيها كتلات البيكسلات ثانية لتصنع ما يمكن أن نراه جليًّا على الشاشة الآن: جثة طفل تُخرَج من تحت الردم، يُمسك بها رجلان.
عليكم أن تفكروا بالانفعال الذي يسيطر الآن على هذا الموظف الغربيّ الذي أتى للعمل قبل ساعة، على أذنيه سمّاعتا "آي بود"، يتحدّث إلى حبيبته عبر التشات أو الماسنجر عن ليلة الأمس، وفجأة عليه أن يتوقف كي يهضم هذه الصورة، ويطلب المعذرة لبضع دقائق لأنّ عليه أن يرسل الصورة فورًا إلى جميع العالم؛ بكبسة زرّ يبدأ حاسوبه بإعادة تفكيك الصورة إلى لغة البينار الأصلية: واحد صفر، واحد صفر، واحد صفر. بعد أقلّ من 10 دقائق، وبعد أن تضغطوا على كباس "ريفرش" في حاسوبكم، سترون كومة البيكسلات المرتبة ثانية والتي تؤلف الآن صورة منطقية تجتمع فيها كتلات البيكسلات ثانية لتصنع ما يمكن أن نراه جليا على الشاشة الآن: جثة طفل تُخرج من تحت الردم، يُمسك بها رجلان. الصورة الآن في أعلى الموقع الإخباري (العربي، الأجنبي)، ومن تحتها الوصف التالي: "جثة طفل تُخرج من تحت الردم، في حي الشجاعية في غزة- تصوير: أي بي".
إنه شكل جديد من الهذيان، هذيان معتدل، هيئة مجنونة كُشطت بالحقيقي. لم تعد هذه الكلمات كبيرة الآن، صارت منطقية أكثر، مفهومة أكثر، متعبة أكثر.

ذاكَ الذي يمضي
هل للموت جمالية خاصة به؟ أليست هذه مُسكّنات كي نسبغ الحقيقة الواحدة في حيواتنا ببعض الثرثرة البشرية الزائلة؟ كيف يمكن أن نتحدث عن صورة طفل مُكفّن قُتل لتوّه بمصطلحات جمالية؟ من يقرر أصلا إذا كان هذا الموت جميلاً أم بشعًا؟ هل احتفالية المشهد وحضوره هما اللذان يصنعان موتًا متميًزًا؟ في كتابه "الحاجز"، كتب عزمي بشارة في مقطوعة باسم "جنازة 1": "وكان هنالك فتاة توثق الجنازة بكاميرا تلفزيونية، ولكنها لم تصور تمثيلا بل واقعًا: جنازة وحيدة من لا مكان إلى لا مكان تضم كهنة وكوفيات عربية وبوهيميا رجالا ونساء على جبال الجليل الشمالية الشرقية، والدنيا ربيع. كأنه صممها أو أوصى عليها، مع إنه لو كان حيًا لما استيقظ ليحضرها" (ص 183). بكلمات رشيقة، متجنبة للدراما والتراجيديا، يخلد الكاتب الصورة التي يريد عن ميّته، عن شكله الأخير الذي سيبقى في النص-الصورة: لا ينتمي حتى في رحلته الأخيرة. إلى من/ماذا ينتمي الشهيد الذي في الصورة؟ إلى موته أم إلى اللغة البينارية المحوسبة التي تبث صورة موته الآن لكلّ العالم؟
عليّ أن أذهب الآن، ففي حاسوب الجريدة أكثر من 50 صورة، حصاد هذا الأسبوع، ويجب اختيار صورة الغلاف وصور الصفحات السياسية. حاليًا يمكنكم التمتع بجمال الصورة المرفقة بهذه المقالة.

(علاء حليحل)